الأحد 06/أكتوبر/2024

أخطر النكبات في التاريخ العربي

أخطر النكبات في التاريخ العربي

اليوم تستعيد ذاكرة الأمة نكبتنا الأولى عام 1948، وتسترجع مشاهد اغتصاب فلسطين، وما تخلله من مذابح ومجازر للأطفال والنساء والعجائز في دير ياسين وحيفا وعكا، في فصل من أبشع فصل الحروب العنصرية التي خاضتها العصابات الصهيونية، بدعم مادي من الغرب.

إلا أن فلسطين الوطن والقضية والثورة بقيت راسخة في ضمائر ووجدان أبناء الأمة العربية من محيطها إلى خليجها. فقد أثبت الزمن ووقائعه أن فلسطين بحق هي قضية الأمة المركزية، وأن نهوض الأمة ووحدتها لن يمر إلا عبر بوابة تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، فالوحدة طريق فلسطين.. وفلسطين طريق الوحدة.

وتشاء الأقدار، بعد مرور هذه الأعوام الخمسة والخمسين أن يتكرر سيناريو النكبة، ويسقط العراق في أيدي القوات الغازية مع اختلافات شكلية وليست جوهرية. فالتحالف الإمبريالي – الصهيوني هو ذاته في النكبتين، وشعارات التحرير هي ذاتها في الحالتين. وإذا كان اغتصاب فلسطين كان بهدف زرع سرطان في قلب الأمة يكرس تجزئتها ويحمي مصالح القوى الاستعمارية، فإن احتلال العراق هو استكمال لهذا المخطط، وحلقة رئيسية من حلقاته لم يبدأ التخطيط لها اليوم أو أمس أو قبل عشر أو عشرين سنة، بل منذ مقاومته مخطط النكبة الأولى حيث شارك العراقيون إلى جانب الثوار العرب في مقاومة العصابات الصهيونية. ومنذ الخمسينات عندما نهض الشعب العراقي بكل فئاته وقواه ليقول لا لحلف بغداد ولا للتبعية للاستعمار.

وإذا ما رجعنا إلى تاريخ الصراع بين عرب الرسالة الإسلامية والإمبراطوريات الفارسية والبيزنطية، نجد أنها مليئة بمعارك النصر مثلما أنها حافلة بمعارك الهزيمة. فالصراع التاريخي هو سلسلة من المعارك والمواجهات امتدت منذ قرون.. ويبدو أنها سوف تستمر لقرون قادمة أيضاً. والخطر لا يكمن حقيقة هنا، فالنجاحات العسكرية التي تحققها القوى الاستعمارية في أي من المعارك والمواجهات لن تحقق الانتصار على الأمة العربية بالمعنى التاريخي والحضاري والأخلاقي والعقائدي للكلمة إلا عندما تتحول النجاحات العسكرية إلى نجاحات سياسية وحضارية وقيمية تترجم على أرض الواقع بقبول القوات الغازية والتعايش مع مخططاتها الاستعمارية في البلد المحتل.. أما إذا أصر الشعب على إبقاء ساحة المواجهة مفتوحة… ومشرعة على كافة الاحتمالات والمواجهات، فإن النصر العسكري يظل مجرد نصر عسكري محكوم بموازين القوة في الزمان والمكان.

لذلك نحن نقول إن الأخطر من نكبة الاحتلال الصهيوني لفلسطين، والأخطر من نكبة الاحتلال الأمريكي – البريطاني للعراق هو نكبة ضياع المرجعيات التي تحافظ على الأبعاد الحضارية والعقائدية والمبدئية لمعارك الأمة المصيرية. والمقصود هنا ليس مرجعيات العمل القومي العربي، بل حتى مرجعيات ديننا الإسلامي الحنيف.

نعم إن أولى المرجعيات التي أضعناها أو بصورة أكثر دقة عملت بعض الأنظمة العربية المتخاذلة والمتواطئة مع الصهاينة والمستعمرين على إضاعتها، كما أسهمت في إضاعتها جملة من الممارسات والأخطاء التي ارتكبتها القوى والأحزاب والأنظمة الوطنية، هي المرجعية الإسلامية. أليست القدس وهي التي توصل إليها أية خريطة طريق يتولى الأمريكان الإشراف على تنفيذها، هي أولى القبلتين ومهد الأنبياء.. أليس الجهاد في سبيل تحريرها هو جهاد في سبيل الله. ولماذا تختزل قضية فلسطين اليوم في موضوع أمن الكيان الغاضب. ولتتضاءل حرب التحرير المقدسة لتتحول إلى مجرد اتفاق يوقع في مدريد أو أوسلو أو كامب ديفيد أو شرم الشيخ.

وماذا عن المرجعية الإسلامية تجاه غزو العراق.. ألم يجمع علماء الأمة كافة على تجريم التعامل مع القوات الغازية بأي شكل من الأشكال.. لماذا لا تصدر الفتاوى اليوم التي تدين من جعل أرضه منطلقاً للعدوان البري أو البحري أو الجوي، وتدين من رأى المنكر ولم يحرك ساكناً ومن سكت عن الحق كالشيطان الأخرس. يقول الله سبحانه وتعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار. ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) (سورة الأنفال 15 و16).

أليس ما يحدث الآن نوع من التولي يوم الزحف وقد تحيز البعض منا للعدو، وأسهمت في ذلك أيضاً الأنظمة والقوى والأحزاب التي تصدت لساحة العمل الوطني والقومي طوال العقود الماضية، إلى تغييبها هي مرجعية الأمن القومي العربي. لنتمعن إلى أين وصل مصير القضية الفلسطينية اليوم، فقد اختزل هدف التحرير الكامل للتراب الوطني إلى أجزاء مهلهلة لإقامة الدولة الفلسطينية عاصمتها ليست القدس بالتأكيد، ثم اختزل هذا الهدف إلى اتفاقات أوسلو إلى أن وصلنا اليوم إلى خريطة الطريق التي ستضيع ما تبقى من الحقوق المشروعة.

ولعل أخطر ما في مسيرة القضية الفلسطينية لا يتمثل في عجز الأنظمة العربية عن تحرير فلسطين وإرجاع الأرض المغتصبة، بل في إضفاء الشرعية العربية على الاحتلال والكيان الصهيوني المغتصب. لا وبل تحارب المقاومة الفلسطينية اليوم وتسعى إلى إسكاتها. إن هذه هي النكبة الأخطر من نكبة الاحتلال نفسه، لأنها تضفي الشرعية على الكيان الغاصب وتحول نصره العسكري إلى نصر سياسي وشرعي وحضاري دائم.

إن خمسة عقود ونصف من عمر النكبة كافية لترسيخ قناعة، يتجاهلها البعض، وهي أن الكيان الغاصب لن يتخلى عن طابعه العنصري ولن يسقط أطماعه التوسعية، وسيبقى مشروعاً دائما للتهويد والتوسع ضد أي محاولة عربية لإطلاق مشروع للنهضة أو التكامل أو الوحدة. وغني عن القول تحفز هذا الكيان لتحقيق أطماعه بالتحول إلى قوة إقليمية عظمى بصورة أكبر اليوم بعد احتلال العراق ووسط دويلات عربية متصارعة ضعيفة ومفككة.

أما بشأن العراق، فقد أعلنها رئيس أكبر دولة عربية صريحة على رؤوس الأشهاد عندما عبر عن عجز الأنظمة العربية عن تطبيق اتفاقية الدفاع العربي المشترك بعد أن بدأت قوات الاحتلال بغزو العراق، وليت الموضوع بلغ هذا الحد من العجز والذل، بل تجاوزه إلى التواطؤ من قبل أكثر من دولة عربية. والأنكى من ذلك أنه كانت هناك قرارات عربية تطالب بدعم العراق ضد المحتل، بينما ترجمت على أرض الواقع بدعم المحتل ضد العراق. لقد تم احتلال العراق وسط سقوط مدو لنظام الأمن العربي. وإن أي حديث لتبرير المواقف الرسمية العربية المتخاذلة والمتواطئة بأي حجة كانت هي من قبيل محاولات للتحقير وتسفيه رأي المواطن العربي ووعيه الوطني والقومي.

وكما هو الحال بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، نقول إن أخطر ما في هذه النكبة لا يكمن في هذا الخذلان الرسمي العربي، بل في المواقف الرسمية العربية التي تضفي الشرعية على الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق. وفي مواقف بعض من يطلقون على أنفسهم قوى المعارضة العراقية الذين قبلوا تشكيل حكومة يوكل لها تنفيذ المصالح الأمريكية في العراق. إن هذه المواقف هي التي تمكن الولايات المتحدة من تحويل النجاح العسكري الذي حققته إلى انتصار حقيقي على الأمة العربية. وبالتالي تسهم تلك المواقف في ضرب مرتكزات الأمة الحضارية ومرجعياتها القومية المبدئية، فيتحول الاحتلال إلى حرب تحرير، وتصبح الولايات المتحدة مؤسسة للأعمال الخيرية التي تضحي بمئات القتلى من أبنائها في سبيل أن يسترجع الشعب العراقي حق تقرير المصير، وبناء دولته الديمقراطية، وتتحول من ثم من قوة استعمارية غاشمة إلى مرجعية حضارية وإنسانية للعالم وليس الوطن العربي فحسب.

في الذكرى الخامسة والخمسين للنكبة، يتعاظم الأمل في غد عربي أفضل، ينطلق من بطولات المخيمات في جنين، ويرتسم أفقه من مشاهد الأطفال والصبية المتشبثين بعروبة فلسطين وتحرير القدس، ويبزغ من عيون أطفال العراق وشموخ نسائه، وأبطال المقاومة للاحتلال الذين لن تستطيع أي شمس حجب إرادتهم. وكلما اتسعت رقعة الاحتلال والقهر والاستعباد على أرضنا العربية كلما اتسعت رقعة الإيمان بالمبادئ القومية، وتصاعدت إرادة التحدي والصمود والنضال بالرغم من أجواء الخنوع والإذعان وأوهام السلام.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات