إسرائيل وفوبيا الفناء

صحيفة البيان الإماراتية
كل خلق الله من دول العالم المعاصر تتعرض لتحديات إشكالية داخلية أو خارجية، غير أنه ليس ثمة دولة واحدة من هذا الخلق عدا “إسرائيل”، يلوك مسؤولوها وقطاعات من شعبها احتمال زوالها أو اختفائها أو اجتثاثها كلما استطردت أحاديثهم إلى بعض هذه التحديات والقضايا .
فمنذ قيام دولتهم إلى يومنا هذا، ومعظم الإسرائيليين من مراتب سياسية و فكرية مختلفة لا يكفون عن تكييف كثير مما يواجههم من ظواهر ومشكلات على أنه خطر جسيم، يقتضي منهم المفاضلة بين “الحياة والموت” .
لنتأمل على سبيل النموذج وبلا حصر، كيف يتداول الإسرائيليون في خطاباتهم ومناظراتهم مع الذات ومع الآخرين حديث الحياة والموت هذا، بمناسبة الجدل حول ظواهر أو تصورات افتراضية أو حقيقية من قبيل: إمكانية تطبيق حق العودة الفلسطيني؛ اختلال التوازن السكاني لصالح الفلسطينيين في أرض “إسرائيل” (فلسطين التاريخية)؛ زيادة معدل المواليد لدى فلسطين الداخل (عرب 48)؛ عزوف يهود العالم عن الهجرة إلى “إسرائيل” والاستيطان فيها؛ احتمال الانسحاب إلى حدود 1967؛ إجبار “إسرائيل” على إخلاء مستوطنات الضفة وغزة وشرقي القدس؛ تصاعد المقاومة الفلسطينية المسلحة بل ووجود هذه المقاومة من الأصل؛ احتفاظ حزب الله بقوته وأسلحته؛ امتلاك طرف مناوئ عربي أو غير عربي لسلاح دمار شامل؛ نشوء أي تحالف أو حتى تعاون وثيق بين قوى عربية أو غير عربية لا تعترف ب”إسرائيل”؛ عدم اعتراف حركة حماس جهرة ب”إسرائيل”؛ و علو شأن التيار الإسلامي بمختلف أجنحته في المحيط الإقليمي علاوة على النظام الفلسطيني؛ ارتقاء مقام النظام العربي على طريق التطور الوحدوي .
“إسرائيل” والحال كذلك دولة لا تثق في سيرتها وسيرورتها ولا تطمئن إلى حاضرها ومستقبلها.. وهي لذلك لا تسعها ولا تستطيع الحياة بوتيرة طبيعية. إذ كيف يتأتى لها ذلك، وهي تعيش مضغوطة بهاجس أن الموت قد يباغتها فجأة أو على مهل وعبر مراحل، لواحد أو آخر من الأسباب التي تراودها أعلاه على مدار الساعة؟ !
لا يقلق الإسرائيليون على وجود دولتهم بالنظر لتفكيرهم فقط إلى إمكانية وقوع مستجدات غير مواتية تتعلق ببعض أبعاد حياتهم الداخلية، كضمور نسبة المواليد اليهود أو اتساع موجات الهجرة والنزوح اليهودي منها.. إنهم يقلقون أيضاً من احتمال نشوء معطيات في ساحات وأصقاع تبدو بعيدة عن جوارهم القريب أو الاشتباك المباشر معهم!. مثل إفلات كوريا الشمالية برادعها النووي، أو أفول سيطرة الحليف الأميركي على قمة النظام الدولي أحادي القطبية، أو تغير قلب هذا الحليف وسياسته إزاء “إسرائيل” نزولاً عند مساومات ومقاصات في الغمار الدولية المحكومة بالمصالح .
قبل ثلاثين عاماً تأبط الإسرائيليون شراً من سيرورة ما عرف بالحوار العربي الأوروبي، لما قد ينطوي عليه من تضحية أوروبا بأمومتها لدولتهم مقابل مصالحها في العالم العربي، لاسيما النفطي منها. ولم يهدأ لهم بال حتى صار هذا الحوار حوارات وتفرق شمل العرب المحاورين شذراً مذراً. أما في الوقت الراهن فيكاد الإسرائيليون يجمعون على أن سلاحاً نووياً في أيدي كوريا الشمالية ربما هدد وجودهم، وذلك إذا ما اقتدت دول أخرى مثل إيران وسوريا بهذه الخطوة، أو إذا ما تعاون الكوريون أو تحالفوا مع هذه الدول .
نحن هنا إزاء حالة استثنائية. حالة دولة صغيرة السن منمنمة جغرافياً وسكانياً، لكنها تتحرق شوقاً وتسعى جاهدة إلى تصفيف الخريطة الدولية برمتها وفقاً لرؤاها وتقديراتها لمصالحها وأهوائها الذاتية. وتتصدر الرغبة المحمومة في تحقيق الأمن الذاتي مئة في المئة قائمة محددات هذه الرؤى والتقديرات. ويتجلى شذوذ هذه الحالة إذا تذكرنا أن أكثر الدول رسوخاً وقوة في المنظومة الدولية، بما فيها الولايات المتحدة بقدرها ومكانتها وقدراتها، لا تستطيع الطمع في تحقيق الأمن بهذا المعدل القياسي. غير أن “إسرائيل” لا تعترف بهذا المستحيل !
والحق أن أحداً في هذا العالم ما كان ليعبأ باستثنائية هذه الحالة ولا بشذوذها ولا بفوبيا الحياة والموت التي تتلبسها، لولا أن تداعياتها وتجلياتها السلوكية العملية تنطوي على خطورة بالغة تجاه كل الدوائر المحيطة بها، فلسطينياً وعربياً وإقليمياً ودولياً .
ولنا أن نستشهد على هذا الفهم بالمقولة التي تؤكد بأن الأمن المطلق لطرف في العلاقات الدولية لا يمكن تحقيقه إلا على حساب أمن أطراف أخرى. وبالإشارة إلى ظنون الإسرائيليين وهواجسهم غير الاعتيادية، فإن الآخرين يبدأون من الجليل ورام الله وغزة في فلسطين ولا ينتهون ببيونج يانج في جنوب شرق آسيا .
هذه وضعية تبدو مثيرة حقاً، والأكثر مدعاة للإثارة والغضب والوجل معاً، صعوبة ولعلها استحالة تعيين سقف تاريخي لزوال رؤية “إسرائيل”، الدولة والشعب، لذاتها ولكيفية التعامل مع هؤلاء الآخرين. إذ لسنا هنا بصدد خلل مؤقت أو ثانوي يعالجه مرور الزمن وتوالي المتغيرات والظروف، وإنما أمام عطب جوهري هيكلي مصهور أو مسبوك في البنيتين التحتية والفوقية لهذا الكيان .
آية هذه القناعة أن “إسرائيل” تتحصن راهناً بالرادع النووي والعلاقات الحمائية الاستراتيجية مع الولايات المتحدة (وعالم الغرب عموماً)، وبدعوة للسلام الاستراتيجي العربي لا يبدو لها بديلاً، وبتنازل فلسطيني واضح عن 80 في المئة من فلسطين التاريخية، وبقاعدة تقنية وصناعية قوية، وبالكثير من عوامل المنعة والقوة بما يتجاوز ويفوق طاقتها الموضوعية قياساً بغيرها من الوحدات الدولية ..
ومع ذلك، فإنها تردد الخطاب ذاته وتتناوشها الهواجس وتسلك السياسات ذاتها التي نسمع ونرى منذ يوم ولادتها؟!. وبحسبنا أن نلاحظ بالخصوص أنها مازالت تخوض في دماء الفلسطينيين، كجريمتها المروعة في بيت حانون 2006، على غرار مذبحتها في دير ياسين 1948 وكفر قاسم 1956 وصبرا وشاتيلا 1982 وجنين 2002، وكأن شيئاً لم يتغير في عقلها الجمعي ولا في العوالم المحيطة بها !.
“إسرائيل” بصيغة جامعة تقارب كل قضاياها وتفاعلاتها كمن يمشي على حبل مشدود. ولا أمل في شفائها من هذا التوتر الدائم لأن هذا هو حال الكيانات الاستيطانية التي تؤرقها عقدة النشأة الأولى. ومن خصائص هذه الكيانات أيضاً، التي قد تساعد الآخرين على التعامل مع الحالة الإسرائيلية بجدارة، أنها «تخاف ولا تستحي” .
كاتب وأكاديمي فلسطيني
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

منظمات أممية تعلن رفضها الخطة الإسرائيلية لتوزيع المساعدات بغزة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام رفضت منظمات أممية وغير حكومية، المشاركة في الخطة التي يستعد الاحتلال الإسرائيلي لتنفيذها في قطاع غزة بخصوص توزيع...

الاتصالات تُحذر من انقطاع الخدمة جنوب ووسط قطاع غزة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت شركة الاتصالات الفلسطينية، مساء اليوم السبت، أنها ستُنفذ أعمال صيانة اضطرارية على أحد المسارات الرئيسية في قطاع...

الدويري: عمليات القسام برفح تمثل فشلا إسرائيليا مزدوجا
الدوحة – المركز الفلسطيني للإعلام قال الخبير العسكري اللواء فايز الدويري إن عمليات كتائب القسام -الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)-...

شركات طيران دولية تلغي رحلاتها لتل أبيب عقب قصف مطار بن غوريون
الناصرة – المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت شركات طيران دولية، صباح اليوم الأحد، إلغاء رحلاتها إلى "تل أبيب"، عقب قصف مطار بن غوريون الدولي. وبحسب...

مؤسسة حقوقية: آلاف المعتقلين بسجون الاحتلال يواجهون عمليات قتل بطيئة
رام الله- المركز الفلسطيني للإعلام يواجه الأسرى في سجون الاحتلال تصاعدًا غير مسبوق في عمليات التعذيب والتجويع والإهمال الطبي، التي تمارسها الإدارة...

جماعة أنصار الله: واشنطن تجاهلت تحذيراتنا لأنها لا تأبه بحياة الصهاينة
صنعاء – المركز الفلسطيني للإعلام قالت جماعة أنصار الله اليمنية، الأحد، إن "الولايات المتحدة الأمريكية لا تأبه بحياة الإسرائيليين رغم توجيه تحذير لها...

مدير المستشفيات الميدانية بغزة: المجاعة قادمة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام قال مدير المستشفيات الميدانية بوزارة الصحة بقطاع غزة، مروان الهمص، إن أغلب سكان قطاع غزة يعيشون تجويعاً ينفذه...