الإثنين 05/مايو/2025

من غضب الرب‏..‏ إلى أمطار الصيف وغيوم الخريف‏!‏

من غضب الرب‏..‏ إلى أمطار الصيف وغيوم الخريف‏!‏

صحيفة الأهرام

يخطئ من يظن أن سياسة الاغتيالات التي تمارسها “إسرائيل” منذ عدة أشهر بوحشية وفجاجة ضد الكوادر والقيادات الفلسطينية – تحت اسم أمطار الصيف أو تحت اسم غيوم الخريف – هي أمر جديد استحدثته حكومة أولمرت باعتبارها أسوأ الحكومات في تاريخ الدولة العبرية‏.‏

إن سياسة الاغتيالات والملاحقة والتصفية الجسدية والمعنوية سياسة إسرائيلية ثابتة في أجندة الفكر الصهيوني منذ ما قبل نشوء دولة “إسرائيل”،‏ ولم يدخل عليها أي تعديل بعد قيام “إسرائيل”،‏ وإنما أصبحت الدولة أكثر تطرفاً في سياسة الاغتيالات عما كان عليه الحال قبل عام ‏1948،‏ وبدرجة تفوق في بشاعتها ما كانت تقوم به عصابات الهاجاناه والأرجون وزفاي لومي وغيرها من عصابات الإرهاب اليهودية التي سطرت على أرض فلسطين سجلاً أسود من الجرائم البشعة‏!‏

وربما يساعد علي فهم واستيعاب ما أقول به أن أشير إلي بعض ما كان عليه حال الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين قبل ‏35‏ عاماً تقريباً في ذروة الاغتيالات والتصفيات الجسدية المتبادلة‏.‏

كنت قد انتهيت قبل أيام من مطالعة كتاب – صدر قبل عدة سنوات – تحت عنوان ذات يوم في سبتمبر ‏ OnedayinSeptember ‏ لمؤلفه سيمون ريف‏،‏ أحد أبرز الكتاب البريطانيين المتخصصين في الكتابة عن الإرهاب‏،‏ وهالني حجم ما دونه من عمليات وعمليات مضادة في سجل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني‏،‏ وقد اختار نقطة البداية من عمليات منظمة أيلول الأسود ضد البعثة الأوليمبية الإسرائيلية في ميونيخ في ‏5‏ سبتمبر‏1972‏ وما أعقب ذلك من اغتيالات وتصفيات بلغت ذروتها في اغتيال الزعيم الفلسطيني والرجل الثاني في منظمة فتح صلاح خلف أبو إياد في تونس يوم ‏14‏ يناير‏1991.‏

وكان انطباعي الأساسي بعد مطالعة الكتاب‏،‏ رغم أن معظم هذه العمليات محفورة في ذاكرتي بحكم المتابعة المستمرة لملف الصراع‏،‏ أن ما نشهده اليوم ليس نتاج مصادفة وإنما هو محاولة يائسة من جانب حكومة أولمرت لتجاهل الحقيقة التي كانت قد توصلت إليها “إسرائيل” منذ عهد اسحق رابين بأنه ليس في مقدورها – حتى لو امتلكت بين يديها أحدث أسلحة الدمار الشامل والتكنولوجيا الحديثة – أن تقهر تماماً إرادة الطرف الآخر وأن تفرض عليه ما هو دون الحد الأدنى المقبول والمشروع من تسوية تتضمن توازناً وتكافؤا يحفظ ماء الوجه ويزيل أي شعور بالانكسار أو الهزيمة أو الاستسلام‏.‏

لقد أحسست وأنا أطالع هذا الكتاب بأن سياسة الاغتيالات التي تمارسها حكومة أولمرت الآن ليست فقط علامة ضعف في الموقف الإسرائيلي وإنما هي أيضاً بمثابة استسلام لروايات وذكريات الأمس التي يجسدها كتاب سيمون ريف والذي يفرد فيه مساحة للصراع القذر وبالتحديد للعملية التي قادها إيهود باراك بنفسه لاقتحام منازل ثلاثة من قادة منظمة التحرير الفلسطينية في قلب بيروت واغتيالهم جميعاً في ربيع عام ‏1973.‏

كانت العملية القذرة تحمل اسم ربيع الشباب بقيادة ايهود باراك‏،‏ الذي كان في ذلك الوقت قائداً لقوات سبريت ميتكال وهي مجموعة من نخبة القوات الإسرائيلية المسلحة‏.‏

كانت المهمة التسلل عبر البحر إلى بيروت للهجوم على بناية في شارع الحمراء يقيم بها الزعماء الفلسطينيون الثلاثة كمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار وقد تنكر باراك في زي امرأة خلال تنفيذ العملية ووضع علي رأسه باروكة شقراء‏.‏

*   *   *

كان دافع الإسرائيليين للعملية – حسب ادعاءاتهم – هو الرد على نجاح الفلسطينيين في اغتيال أحد كبار ضباط المخابرات الإسرائيلية في العاصمة الإيطالية روما في إطار عملية ضخمة كانت تستهدف اغتيال رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير خلال زيارتها لإيطاليا‏…‏ ولكن القصة الحقيقية كانت غير ذلك‏!‏

إن القصة الحقيقية تبدأ من عند النقطة التي اختارها مؤلف كتاب ذات يوم في سبتمبر مدخلاً له‏،‏ فبعد أن انتهي الهجوم الفدائي في ميونيخ وصمت صوت الرصاص وقتل من قتل واعتقل من اعتقل ظن كثيرون أن الأمر قد انتهى عند هذا الحد‏،‏ ولكن ذلك لم يكن صحيحاً سواء بالنسبة للإسرائيليين الذين تملكتهم شهوة الرغبة في الانتقام‏،‏ وأيضاً بالنسبة لقادة منظمة أيلول الأسود الذين شجعهم النجاح النسبي في ميونيخ على التفكير في عمليات مماثلة تنبه الرأي العام لقضيتهم المنسية‏.‏

في “إسرائيل” كانت جولدا مائير رئيسة الوزراء تتزعم جناح التشدد الذي يلح على انتقام عاجل والنيل من مدبري هجوم ميونيخ والفدائيين الناجين منه بأي شكل ومهما يكن الثمن‏!‏

وأصدرت جولدا مائير قراراً بتشكيل لجنة من كبار المسئولين السياسيين والأمنيين أطلق عليها اسم حركي هو اللجنة إكس وكان ذلك الاسم لقباً مناسباً لمجموعة من خبراء التآمر المتخصصين في العمليات القذرة غير معروفي الهوية حتى لكبار المسئولين في الحكومة الإسرائيلية‏.‏

وكانت تعليمات أهارون ياريف هي‏:‏ أن الاغتيال وحده ليس هدفنا وبالتالي فإنه لا يكفي إطلاق الرصاص في الشوارع علي من تستهدفهم عملياتنا وإنما المطلوب هو القضاء عليهم بعمليات اغتيال تستند إلى درجة عالية من الخيال والابتكار تؤدي إلى إنزال الرعب في قلوب القادة الفلسطينيين في كل مكان‏.‏

  *   *

وقد سميت خطة الاغتيالات القذرة التي كانت تديرها لجنة إكس بالاسم الرمزي عملية غضب الرب وأوكل تنفيذها لجهاز الموساد بإشراف من مايك هاراري كبير مسئولي الاستخبارات الإسرائيلية الذي يسيطر على أكبر مجموعة من العملاء في أوروبا‏،‏ حيث كانت مهمة هاراري الأولى هي إعداد قائمة بأسماء الرجال الذين يقودون منظمة أيلول الأسود والرجال الذين يوفرون لهم الدعم والمساندة‏!‏

واستنادا لاعترافات فيكتور أوسترفوسكي ضابط الموساد السابق فإن جولدا مائير وقعت مذكرات قتل لنحو ‏35‏ عضواً من المعروفين للموساد بأنهم على علاقة بمنظمة أيلول الأسود وبعد أن يتم تحديد الهدف المراد اغتياله يقوم جهاز الموساد برفع اسمه إلى لجنة إكس التي تقوم بدورها بالتصديق على أوامر الاغتيال وقد كان على قمة تلك القائمة عدد من أبرز قادة منظمة التحرير الفلسطينية بينهم صلاح خلف أبو إياد نائب عرفات والقائد الفعلي لمنظمة أيلول الأسود وعلي حسن سلامة المقاتل الشاب اللامع الذي كان الإسرائيليون يرون إنه الخليفة المحتمل لياسر عرفات‏،‏ خصوصاً بعد أن أجمعت معظم التحقيقات مع الفدائيين الفلسطينيين الأسرى ومعلومات الاستخبارات التي تقدمها الدول الغربية لإسرائيل على قائمة صغيرة جداً من الأسماء كان أكثرها تكراراً هو اسم على حسن سلامة يليه صلاح خلف أبو إياد ثم خليل الوزير أبو جهاد‏.‏

وأصبح اغتيال هؤلاء الثلاثة تحديداً هدفاً استراتيجياً لإسرائيل قبل إعلان الانتهاء من عملية غضب الرب التي تم بالفعل إغلاق ملفها في يوم ‏14‏ يناير‏1991‏ باغتيال أبو إياد في تونس وكان قد سبقه إلى المصير نفسه أبو جهاد بعد اغتياله في تونس عام ‏1988‏ وقبلهما كان قد تم اغتيال علي حسن سلامة في قلب العاصمة اللبنانية بيروت يوم ‏22‏ يناير ‏1979.‏

*    *    *

‏..‏ وإذن ماذا؟

لقد تحول هوس الحرب ضد الإرهاب إلي هوس مجنون لا فرق فيه بين مقاومة مشروعة ضد الاحتلال من نوع ما يمارسه الفلسطينيون وإرهاب مرفوض من نوع ما تفعله “إسرائيل” وتجاهر به إلى حد إعطاء نفسها الحق في ملاحقة وتصفية زعماء سياسيين ودينيين من نوع ما فعلت ضد الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي وما تلوح به الآن ضد إسماعيل هنية والشيخ حسن نصر الله‏.‏

إن استمرار الصمت الدولي – خاصة من جانب أمريكا – تجاه ما تقوم به “إسرائيل” ينذر بدفع الأمور نحو مزيد من التشدد والتطرف ليس في المنطقة وحدها وإنما لأبعد من ذلك بكثير وبما يصب في تقوية الإرهاب الذي يزعمون تصديهم له والسعي لاقتلاع جذوره‏!‏

وإذا استمر الحال على ما هو عليه فليس مستبعداً أن ترى “إسرائيل” – بدعم من أمريكا – أي شيء ضدها إرهاباً حتى لو كان مجرد صيحة رفض للظلم بالقلم أو باللسان‏!‏

والعيب ليس في “إسرائيل” وحدها وإنما في القوة الأعظم التي مازالت تنصت – ظلماً – وتبارك – علناً – كل ما تدعيه “إسرائيل” حول حقها في الملاحقة والاغتيال والاجتياح تحت شعار كاذب ومضلل اسمه حق الدفاع عن النفس‏.‏

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات