عرفات … الحقيقة المحرجة

بعد عامين مضيا على رحيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات مازال الجدل قائماً في حقيقة موته الذي مازال يمثل لغزاً ليس من الناحية الطبية وحسب وإنما في طريقة التعاطي مع القضية بشكلٍ كامل على مختلف مستوياتها الإعلامية أو الرسمية فلسطينياً وعربياً ، ففي ظل رياح (الإصلاح والديمقراطية) التي تصدّرها الولايات المتحدة والمجتمع الدولي وفق ما يوافق مشروع الشرق الأوسط الكبير إلى المنطقة كان من الجدير أخذ قضية وفاة الرئيس عرفات في شكلٍ غير الذي نرى، في وقتٍ ربما أخذت قضية التحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري منحىً غير معتاد وأكثر من المتوقع ، لكن عندما تطرح قضية التحقيق الدولي بوفاة عرفات فإن الأصوات الرسمية فلسطينياً ترتفع وتخفت بوتيرة غير منتظمة ، هذا الوضع المتأرجح مابين رفع الأصوات المنادية بلجنة تحقيق وانخفاضها لا يمثل حالةً طبيعية بمختلف الظروف ، فمع اعتقادنا بأن الوضع الدولي تحكمه القطبية الأحادية وأن إيجاد لجنة تحقيق أو عدمها أمرٌ متعلق إلى حدٍ ما برضى المجتمع الدولي أو عدمه إلا أن الصوت الفلسطيني الرسمي لا يزال يطالب بالتحقيق بنبرةٍ خجولةٍ وغير منتظمة بل بات من الواضح أن الأصوات ترتفع بالمطالبة بالتحقيق في أوقاتٍ انفعالية يكون مطلب كشف الحقيقة استحقاقاً لهذه الفترة وظرفها دون غيرها ، هذا من الجانب الفلسطيني ، ومادامت الحالة الفلسطينية تعاطت مع المسألة بهذا الحجم فلن يكون هناك توجهٌ عربي في منحى قضية عرفات لا في إطار الجامعة ولا في أي إطار إقليمي مهما كان حجمه للمطالبة بمثل هذا التحقيق إذ لا ينبغي أن ( أكون ملكاً أكثر من الملك نفسه ).
ففي الوقت الذي لا يستطيع طرفٌ ما الجزم بحالة التسمم فإن دلالات قد تبدو هنا وهناك لابد لها أن تعطينا إشاراتٍ قد تجعل من التسمم الحالة الأرجح ، فمن قرار الأطباء الفرنسيين عدم كشف سر موت عرفات إلا بعد موافقة ذويه احتراماً للقانون القائل بذلك إلى تحفظ ذويه على هذا الموضوع المثير للجدل قد يشكل هذا دلالة ، ثم أن الحالة المرضية المفصح عنها والمتقاربة إلى حدٍ كبير بحالتي وديع حداد وخالد مشعل قد تشكل هي الأخرى دلالة ، وهناك من الدلائل ما هو أكثر من ذلك لو أخذت بالتحليل والتدقيق ، إلا أننا لسنا في صدد تحليلٍ بوليسي أو تحقيقٍ جنائي بقدر ما هو محاولة لإلقاء نظرة على الواقع الرسمي للسياسة الفلسطينية أمام هذه القضية التي كان من المتوقع للمتابع لسياسة السلطة الفلسطينية أن تمثل هذه القضية قضية وطنية يكون حلها ومعرفة لغزها من أولويات البرنامج الوطني للسلطة في مرحلة ما بعد عرفات ، إلا أن القضية لم تأخذ أكثر من كونها شعارات يصدح بها المسؤولون الفلسطينيون ليس كلما صعدوا منبراً للخطاب وإنما في زمانٍ ومكانٍ قد يكون الحديث فيه عن عرفات ( المقتول ) ضرورة لابد منها إرضاءً لشارع ما في الساحة الفلسطينية ، إلا أن هذه التصريحات الشعاراتية التي طالبت بكشف الحقيقة وفتح تحقيقٍ مثلت الجانب النظري ( رغم ضعفه ) للسياسة الفلسطينية الرسمية مع افتقادها تماماً للجانب العملي ، أمام هذه القضية ازدادت السياسة الفلسطينية الرسمية إرباكاً في ظل الفارق بين النظري والعملي في توجه السلطة للسير في هذه القضية ، هذا الإرباك لم يكن جديد السياسة الفلسطينية الرسمية وإنما توسعت دائرته الموجودة أصلاً في ظل فقدان عرفات وعدم وجود شخصية برمزيته لقطاع ممتد في الشارع الفلسطيني من جهة وفي ظل فقدان حقيقة فقدان عرفات لنفس القطاع على الأقل .
في ظل هذا الوضع القائم أمام قضية وفاة عرفات لا بد أن هناك وضعاً محرجاً يقع فيه مسؤولو السلطة أمام مؤيديهم وربما أمام العديد من المحافل الوطنية والإقليمية تولد من التعاطي الخجول مع قضية وفاة عرفات المثير للشك والجدل ، لكن لو أسقطنا النظر على ما هو أبعد من المرحلة الراهنة لوجدنا أن إرباكاً أكبر وأصعب ستقع فيه السلطة فيما لو تأكد أن عرفات مات مسموماً وكُشفت الحقيقة ، هذا الإرباك سيتمثل في كيفية التعاطي مع الفاعلين والإجراءات التي قد تُستخدم معهم في ظل فقدان هذه الإجراءات ، فلو تبين أن الموساد قد رتب ترتيباً معيناً لقتل عرفات ، فإن السلطة ( الرئاسة ) والتي تمثل حركة فتح ستقف في موقفٍ لا تحسد عليه أمام قوةٍ ( إسرائيل )لا تزال السلطة تطلب منها استجداءً أكثر ما يمكن أن تفعله حيالها وهو( قطع العلاقات ) فضلاً عن الموقف المحرج الذي ستقفه السلطة أمام الشعب الفلسطيني إزاء ما يمكن أن تقوم به وأمام الخطاب الذي تواجهه السلطة من قبل أكبر شريحة في الشارع الفلسطيني والتي طالما حذرت من التعاطي مع هذا العدو سواء بالمفاوضات أو بأي شكلٍ من أشكال الاتصال والتنسيق ، هذا الموقف المحرج الذي قد تقفه السلطة يوماً لن يكون مرحلة صعبة قد تمر فيما بعد في برنامج السلطة بل سيكلف هذا الموقف السلطة الكثير ،إذ أن خيارات السلطة في مثل هذه الحالة تنحصر في موفقين لا ثالث لهما ، والموقفان يتمثلان ببساطة في اتخاذ إجراء ضد قتلة عرفات ( الإسرائيليين ) أو عدم اتخاذ إجراء ، وبالتالي فإن أكثر إجراء تستطيع السلطة اتخاذه هو قطع العلاقات مع إسرائيل في ظل عدم وجود القدرة العسكرية للرد من قبل السلطة وعدم وجود الفكرة في برنامج السلطة أصلاً وهذا الخيار مفقود من أيدي السلطة لأن العلاقات مقطوعة من قبل ( إسرائيل ) ، وعدم اتخاذ أي إجراء يعني أن السلطة قررت عدم تخليها عن التفاوض والاتصال مع الإسرائيليين ، هذا القرار سيجعلها عرضةً لتوجيه وتأكيد التهم من مؤيديها قبل معارضيها ، وربما يكلفها ذلك فقدان مساحة جديدة في الجمهور الفلسطيني الذي إن أيّد السلطة أصلاً فقد أيدها لارتباطه عاطفياً أو تاريخياً برئيسها عرفات وسيضع هذا القرار برنامج الحكومة الحالية في الموقع الصحيح في نظر الكثير من مؤيدي عرفات الذين هم في الغالب مؤيدون للسلطة ( الرئاسة ) بحكم أنها ( تمثل الفصيل ) ، أما إذا اتخذت السلطة في مثل هذه الحالة أكثر الممكن وأقل المطلوب وهو قطع العلاقات مع دولة الكيان ، فإن المأزق ربما يكون أكبر، إذ أن هذا سيمثل نسفاً كاملاً لبرنامجها القائم أساساً على ( الحوار والحوار فقط ) كما أعلن محمود عباس في برنامجه الانتخابي وبالتالي فقدان مسوغات وجودها كسلطة وطنية لأنها فقدت برنامجها الوطني والذي لا يمكن أن تتعامل من خلاله مع احتمال تورط إسرائيل في قضية وفاة عرفات ، أما في حال كانت الحقيقة بأن عرفات قُتل من خلال مقربين له ، فإن النظر سيتجه تلقائياً لخصومه السياسيين ممن ادعى محاربة الفساد ونادى بالإصلاح ووجه التهم مباشرة لعرفات ، هؤلاء مثلوا فريقاً معروفاً قاطع عرفات لشهور عديدة قبل وفاته وحدثت بينهم سجالات ، لا شك أن هؤلاء سيقعون في دائرة الشك الضيقة التي لن تتسع لغيرهم ( وهذا افتراض فقط ) ، هنا سيكون المأزق ذاته وهو مواجهة الشعب الفلسطيني والوقوع في حالة يعجز هؤلاء عن تفسيرها ، وأقل ما يمكن أن يحدث لهؤلاء أمام محكمة الشعب أو ( شارع عرفات على الأقل ) هو رفض مشروعهم وربما وجودهم وهذا سيؤدي لتدهور برنامج السلطة ( الرئاسة ) و شروخ واسعة فيها يصعب مداواتها ، ومن دون الخوض في نتائج هذا الاحتمال إلا أن التعامل معه أصعب من الاحتمال الأول ، من هنا قد يُفهم السبب الذي جعل السلطة تتعامل بهذه الوتيرة الغير منسجمة مع حجم احتمال الاغتيال وحجم الشخص المقصود بهذا الاغتيال بالنسبة للسلطة ، وهذا قد يقود للقول أن السلطة وصلت بنفسها من خلال برنامجها للموقع الذي لا تستطيع من خلاله إلا أن تدير الخد الآخر.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

الأورومتوسطي: إسرائيل تمارس حرب تجويع شرسة في قطاع غزة
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام أكد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن الهجوم الإسرائيلي المتواصل والحصار الخانق والنقص الحاد في الإمدادات...

550 مسؤولا أمنيا إسرائيليا سابقا يطالبون ترامب بوقف الحرب بغزة
القدس المحتلة – المركز الفلسطيني للإعلام طالب مئات المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين السابقين الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالعمل على وقف الحرب في...

حماس تدعو للنفير لحماية الأقصى بعد محاولة ذبح القرابين
القدس المحتلة – حركة حماس قالت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إن محاولة المستوطنين ذبح قربان في المسجد الأقصى يعد تصعيداً خطيراً يستدعي النفير...

مؤسسات الأسرى: تصعيد ممنهج وجرائم مركّبة بحق الأسرى خلال نيسان الماضي
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام واصلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي خلال شهر نيسان/ إبريل 2025 تنفيذ حملات اعتقال ممنهجة في محافظات الضفة الغربية،...

إضراب جماعي عن الطعام في جامعة بيرزيت إسنادًا لغزة
رام الله- المركز الفلسطيني للإعلام أضرب طلاب ومحاضرون وموظفون في جامعة بيرزيت، اليوم الاثنين، عن الطعام ليومٍ واحد، في خطوة رمزية تضامنية مع سكان...

القسام تفرج عن الجندي مزدوج الجنسية عيدان ألكساندر
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفرجت كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، عند الساعة 6:30 من مساء اليوم...

خطيب الأقصى: إدخال القرابين يجب التصدي له بكل قوة
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام استنكر خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري، محاولة يهود متطرفين إدخال قرابين إلى ساحات المسجد الأقصى، معتبراً أنه...