الإثنين 12/مايو/2025

موت هناك وموات هنا

موت هناك وموات هنا

صحيفة الشرق الأوسط

شلال الدم في العالم العربي يزداد قوة ومجراه يزداد اتساعاً. إذ أغرق قطرين حتى الآن هما فلسطين والعراق، وثمة إرهاصات نرجو أن تخيب، تلوح باقترابه من لبنان، المرشح بقوة لكي يُضم إلى قائمة الضحايا. الآن تتحدث الأرقام عن آلاف، بل مئات الآلاف من أبناء الأمة العربية الذين أريقت دماؤهم وما زالت تحت الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، والاحتلال الأمريكي في العراق. حتى صار الموت عنواناً رئيسياً في نشرات أخبار هذين البلدين، وغدت صور الجنازات المارة في الشوارع لقطات نمطية تبث كل يوم .

منذ أكثر من أسبوع تتعرض «بيت حانون» في قطاع غزة لاجتياح إسرائيلي عاشر، أباد 45 فلسطينياً (الرقم يتزايد كل يوم) وأصاب 200، ربعهم في حالة خطرة، ودمر البيوت وخرب الطرقات وجرف الأراضي. وفي ثنايا العملية التي أطلقت عليها اسم «غيوم الخريف» تصرفت القوات الإسرائيلية بفظاظة مفرطة، انتهكت فيها كل الحرمات التي تفرضها المواثيق والأعراف. فلا حرمة لمدنيين ولا لدور عبادة، ولا لجرحى في المستشفيات ولا لحافلات الإسعاف التي تهب للدفاع عن حق الإنسان في الحياة. ذلك كله أطيح به، في جرأة موحية بأن الترويع والانتقام هو الهدف، وبأن القوات الإسرائيلية لديها تعليمات بأن تفتك بكل ما تصادفه، من دون قلق من أي صدى دولي، ولم يخيب الأمريكيون ظنهم، لأن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية سوغ ذلك كله وبرره بحجة «حق الدفاع عن النفس» التي صار إطلاقها غطاء تقليدياً لكافة الجرائم الإسرائيلية وهو الحق المضنون به على الفلسطينيين بطبيعة الحال، ربما لأنهم فلسطينيون، وربما لأنهم عرب ومسلمون، ليسوا في عداد «الأنفس» المعتبرة في خطاب الإدارة الأمريكية وبعض الساسة الأوروبيين .

الاجتياح ليس جديداً، ولكنه حلقة في مسلسل العدوان الإسرائيلي المستمر منذ أربعين عاماً على الأقل، الذي تختلف دوافعه وأساليبه، لكن هدفه واحد هو: تركيع الفلسطينيين وإذلالهم، ومن ثم إجبارهم على الاستسلام لما تريده “إسرائيل”، وجوداً وحدوداً وأحلاماً. لذلك فما يحدث الآن ليس منفصلاً عن الغارات اليومية التي يتعرض لها القطاع، ولا عن التصفيات والاختطافات التي لم تستثني الوزراء والنواب، ولا عن الحصار والتجويع ومصادرة الأراضي وحجب الاستحقاقات المالية الفلسطينية .

وحدها الدوافع هي الجديدة هذه المرة، ف”إسرائيل” قررت أن تقدم على هذه الجولة من الفتك مدفوعة بعوامل عدة، منها المزايدات الداخلية بين السياسيين والعسكريين الذين يتوسلون إلى كسب وتأييد الرأي العام بالتسابق على إراقة الدم الفلسطيني، لإثبات القدرة وكفاءة القيادة، ومنها محاولة استعادة الهيبة والاعتبار بعد الفشل الذي مني به العدوان على لبنان، ومنها الضغط على الداخل الفلسطيني لإفشال محاولات تشكيل حكومة الوحدة الوطنية ومن ثم إسقاط حكومة حماس وإقصاؤها عن السلطة .

لم يفاجئنا التبرير الأمريكي للاجتياح، ولا الخرس الأوروبي، ولا استعباط المنظمات الدولية المختلفة، سواء التي تدافع عن السلم والأمن أو تلك التي تدافع عن حقوق الإنسان، لكن الذي ينبغي أن يدهشنا هو صمت العواصم العربية، حتى تلك التي تحتفظ بعلاقات مع “إسرائيل”. صحيح أن صحيفة «الأهرام» المصرية مثلاً نشرت على صدر صفحتها الأولى يوم الأحد الماضي 5 ـ 11 عنواناً اخبرنا بأن مصر «تدين بشدة العدوان الإسرائيلي وتطالب بوقفه فوراً»، لكن إذا كان ذلك غاية جهد بلد بحجم مصر يحتفظ بعلاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني (للأسف الشديد) فما بالك بمن عداها؟

إن هناك خيارات عدة للتعبير عن التضامن الجاد مع الشعب الفلسطيني في محنته المتجددة، وهي أوسع وأرحب في حالة الدول التي أقامت معها علاقات بصورة أو بأخرى، خصوصاً أن مسؤولي تلك الدول دأبوا على القول إنهم فعلوها للدفاع عن القضية الفلسطينية، هذه الخيارات تتراوح بين سحب سفير الدولة المعنية، أو تخفيض عدد أعضاء البعثة الدبلوماسية لدى “إسرائيل”، أو اعتبار السفير الإسرائيلي غير مرغوب فيه، أو تجميد العلاقات الاقتصادية والثقافية وصولاً إلى قطع العلاقات، لكن حين تستبعد كل تلك الخيارات، ويكون البديل هو الإدانة والشجب، فذلك معناه أن المشكلة تكمن في الإرادة، والحسابات السياسية تحول دون التعبير الجاد عن تلك الإدانة .

لقد أدرك الشعب الفلسطيني خلال السنوات الأخيرة بوجه أخص أنه يقف وحده في مواجهة “إسرائيل” والولايات المتحدة، وأن الدور العربي – في أحسن أحواله – لم يعد يتجاوز حدود تصريحات التضامن، وأحياناً ذهب إلى حد التجاوب مع الضغوط الأمريكية من التضامن مع الفلسطينيين .

لقد قتل الإسرائيليون منذ انتفاضة عام 2000 وحتى الآن 5500 فلسطيني، ومنذ أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شليط في 25 – 6 الماضي قتلوا 260 فلسطينياً، الأمر الذي يعني أنه على مدار الأعوام الستة الماضية ظل يقتل في المتوسط فلسطينيان كل يوم. ولم يحرك ذلك شيئاً في مواقف العواصم العربية سواء إزاء “إسرائيل” أو الولايات المتحدة ورغم وجود علاقات للبعض مع “إسرائيل” وعلاقات وثيقة لأغلب الدول العربية (أحسب أن هذه الخلفية لم تكن غائبة عن وعي النسوة الفلسطينيات في بيت حانون اللاتي فاض بهن الكيل، فخرجت مئات منهن ـ البعض اصطحبن أطفالهن – وتصدين للدبابات الإسرائيلية التي حاصرت مسجداً احتمى به بعض المقاومين، ورغم أن الرصاص ظل ينهمر عليهن من كل صوب، مما أدى إلى مقتل امرأتين، هما رجاء أبو عودة وأنغام سالم (كلتاهما في الأربعين من العمر)، أقول رغم كل ذلك الترويع الذي أدى إلى إصابة البعض بجروح خطيرة، فإنهن نجحن في اقتحام الحصار وإخراج المحتجزين في داخل المسجد وتأمينهم حتى اختفوا عن الأنظار. وكان ذلك نموذجاً للبسالة والشجاعة سجله تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية جرى بثه يوم الجمعة الماضي 3 -11 حين وقعت عليه لقد فعلت النساء ما قصرت عنه همة كثير من الرجال) .

للموت قصة أخرى في العراق، تختلف تفاصيلها ووقائعها وأعداد ضحاياها، ولكنها تشكل رافداً آخر لشلال الدم المروع الذي يتدفق بانتظام، دون أن يحدث صدى في العواصم العربية، التي ظلت ذاهلة ومغيبة وغاية ما ذهب إليه بعض المتصدرين لواجهات تلك العواصم أنهم أطلقوا في الهواء تصريحات الإدانة والاستنكار (التي كان بعضها حذراً فلم يتهم الاحتلال الأمريكي) مشفوعة بدعوات عبر الأثير للتصالح والتضامن.. إلى غير ذلك من الأصداء المجانية التي تبرئ الذمة أمام الملأ، في حين لا تقدم ولا تؤخر، ولا تحل ولا تربط .

الأرقام المتداولة الآن تشير إلى أن عدد العراقيين الذين قتلوا منذ الغزو في عام 2001، وحتى الآن 655 ألفاً في قول، و795 ألفاً في قول آخر، أما الذين يقتلون كل يوم فقد أصبح عددهم يتراوح بين 50 و100 شخص، الأمر الذي يعرض الشعب العراقي للإبادة، ويوحي بأن هذا الغزو لم يكن تحرير العراق من حكم صدام حسين فحسب، وإنما تحريره من العراقيين أنفسهم أيضاً !

كما حدث مع الفلسطينيين، فإن العراقيين وجدوا أنفسهم يواجهون وحدهم رياح الفناء، بغير ظهير أو معين من «الأشقاء» العرب، الأمر الذي يسوغ لنا أن تقول بأن الموت هناك قوبل بموات هنا. لا يغير من هذه الحقيقة صدور بعض تصريحات التعاطف والتضامن المجانية، ولا تحركات الجامعة العربية التي ظلت عند الحدود الدنيا، لسبب جوهري هو أن موقف الجامعة هو حاصل جمع مواقف الدول الأعضاء، وهو مرآة عاكسة لتلك المواقف. لذلك إذا قلت لي ما هي حقيقة موقف العواصم العربية، أقول لك على الفور إلى أي مدى يمكن أن تذهب «الجامعة» في تعاطيها مع هذا الملف أو ذاك .

تتضاعف الدهشة ويستمر العجب حين يلاحظ المرء أن العالم العربي وهو يقف ذاهلاً ومتفرجاً أمام تلك الدماء التي تسيل بغزارة في هذين البلدين، يدفع بشكل غريب للانشغال بقضايا وهمية أو فرعية، حيث يصور له البعض أن الصراع الحقيقي هو بين الشيعة والسنة، وأن الهلال الشيعي أشد خطراً من نجمة داود، حتى إن منهم من عقد مقارنة في هذا السياق بين إيران و”إسرائيل”، وأراد أن يقنعنا بأن الأولى أشد خطراً من الثانية. وإذ نجد تلك الأصوات تتردد في المشرق، فإننا نجد في المغرب (تونس تحديداً) تعبئة عامة ضد الحجاب واستنفاراً أعلن عليه الحرب، وكأنه الخطر الداهم الذي يهدد مصير البلاد والعباد، والنظام قبل الاثنين .

وفي حين يشتت الإدراك العربي في أقطار عدة بحيث ينصرف عن الوعي بحقائق الصراع الدائر بين العرب وبين الأطماع الإسرائيلية والهيمنة الأمريكية، فإننا سنسمع أصواتاً أخرى تبرر الانكفاء والانعزال والانسلاخ من نسيج الأمة، وهي ترفع شعار «بلدنا أولاً»، الأمر الذي يترجم بمعنيين؛ أولهما نفض الأيدي من قضايا الأمة ومصيرها، وثانيهما تسويغ الاحتماء بالكفيل الأمريكي الذي يظنون أنه يمكن أن يوفر لهم الاطمئنان والأمان .

ما يغفل عنه هؤلاء وهؤلاء أن مصير الأمة العربية سوف يتأثر كثيراً بما يحدث في فلسطين والعراق، وأن الذين يغمضون أعينهم ويصمتون على ما يجري هناك لن تكتب لهم النجاة من الطوفان، إذا اندفعت مياهه لا قدر الله. ذلك أن تركيع الفلسطينيين، إذا قدر له أن يتم، سيكون مقدمة لتركيع العالم العربي كله، بحيث لا تقوم له قيامة، في الأجل المنظور على الأقل. أما ذبح العراق وشرذمته، فسيكون مقدمة لهبوب رياح التفتيت العاتية على كل أنحاء العالم العربي. وإذا ما وقعت الواقعة على هذا النحو أو ذاك، فلن ينفع الندم، وسيتذكر الجميع القول المأثور: “أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض” .

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

نتنياهو: سنضم 30% من الضفة الغربية

نتنياهو: سنضم 30% من الضفة الغربية

رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إن تل أبيب "ستكون قادرة على ضمّ 30%" من الضفة الغربية....