دلال المغربي… روح جديدة في بيت حانون!

صحيفة الاتحاد الإماراتية
عندما وقعت عيناي على صورة الجسد المسجى على قارعة الطريق لإحدى شهيدتين سقطتا برصاص الهمجية الإسرائيلية في بيت حانون، استدعت الذاكرة على الفور صورة مماثلة للشهيدة دلال المغربي قائدة العملية الفدائية الجسورة والتي جرى تنفيذها يوم الحادي عشر من مارس 1978، أي منذ قرابة ثلاثين عاماً، وذلك انتقاماً لاغتيال المناضل كمال عدوان ورفاقه في مدينة بيروت على أيدي وحدة إسرائيلية خاصة.
لا أذكر أنني تأثرت في حياتي كما تأثرت للقطات التي أظهرت إيهود باراك -الذي قاد عمليتي الاغتيال والتصدي لدلال المغربي ورفاقها، وترأس الحكومة الإسرائيلية فيما بعد- وهو يقلب جسدها ويجذبها من شعرها. كان عمر دلال يرشحها لأن تكون شقيقة صغرى لي، وأخذت أفكر ماذا لو أنها كانت كذلك بالفعل؟ وأتأمل فيما يمكن أن يدفع فتاة عمرها عشرون عاماً لأن تفعل ما فعلت؛ تقود مجموعة من الفدائيين في قوارب مطاطية تسلمهم إلى أحد الشواطئ في أرض الوطن، ثم تستولي على حافلة تقل جنوداً إسرائيليين في الطريق إلى تل أبيب وتتخذهم رهائن، وتأمر الحافلة بالتوجه إلى تل أبيب، وتطلق ومجموعتها النار على كل دورية إسرائيلية تمر بهم إلى أن تنجح قوات العدو في تعطيل الحافلة قرب هرتزليا فتفجرها دلال ومجموعتها بمن فيها من جنود، وتقاتل هي وهم إلى آخر طلقة، وقيل إنها تركت وصية بالاستمرار في المقاومة حتى يتم تحرير كامل التراب الفلسطيني .
التحقت دلال التي ولدت بعد عشر سنوات من النكبة، بالمقاومة الفلسطينية منذ صغرها، وتلقت العديد من الدورات العسكرية ودروس حرب العصابات، وتدربت على أنواع مختلفة من الأسلحة، ما جعلها تقود تلك العملية الجسورة في يوم من أيام عام 1978. لم تكن دلال تدري أن منطق المقاومة سوف يتغلغل أكثر فأكثر داخل كل فلسطيني وفلسطينية كلما ازداد افتضاح السياسة الاستعمارية الاستيطانية وتداعياتها على الأرض والشعب، وبدا عمق التناقض بين المشروع الصهيوني ومشروع التحرير الفلسطيني. لم تكن دلال تدري أن المقاومة سوف تصبح “فطرة” فلسطينية كما كان حالها من قبل في عديد من تجارب التحرر الوطني. لم تكن تدري كذلك أنه سيأتي يوم بعد استشهادها بما يقارب ثلاثين عاماً، تتقدم فيه مئات الحرائر من بلدة بيت حانون، ومعهن أطفالهن، كي يشكلوا دروعاً بشرية لعشرات المقاومين الفلسطينيين ممن احتموا بمسجد لم يكن في مأمن من القذائف بعد أن طوقته الدبابات الإسرائيلية من كل الجهات .
تأملت في المعنى، إذ كثيراً ما تتهم المقاومة بالجبن لأنها تتخذ من المدنيين دروعاً بشرية لحمايتها، وحقيقة الأمر أن المقاومة لمجرد أنها مقاومة تنبع من هؤلاء المدنيين الذين يحيطونها بكل مظاهر المساندة، وصولاً إلى أن تبادر النساء مختارات بأن يجعلن من أجسادهن وأجساد أطفالهن درعاً بشرية لحفنة من المقاومين. تمكنت النسوة من كسر الحصار عن المسجد وتأمين خروج المحتجزين فيه. مرت النسوة بين دبابات وآليات مدرعة إسرائيلية تتمركز عند مدخل البلدة الغربي وسط إطلاق كثيف للنار من قبل القوات الإسرائيلية، عبرت مائتا امرأة، بعضهن يصطحبن أطفالهن، وأنقذن خمسة عشر مسلحاً ينتمون إلى فصائل مختلفة، وأثناء ذلك العمل الشجاع وغير المسبوق، استشهدت رجاء أبو عودة وأنغام سالم، وكلتاهما تبلغ الأربعين عاماً .
تنتمي الشهيدتان، رجاء وأنغام، إلى جيل دلال المغربي إذن، لكنهما لم تتلقيا، كشأن غيرهما من النساء اللائي كن بصحبتهما في هذه العملية الرمز، ما تلقته دلال من تدريب على حرب العصابات واستخدام الأسلحة، ولم تنخرطا فيما انخرطت فيه دلال من دورات قتالية، ولم تكونا بسبيل تنفيذ عملية خطط لها الشهيد “أبو جهاد” باقتدار، كما فعلت دلال، وهذا هو المعنى الحقيقي لعملية “حرائر بيت حانون”: إن المقاومة أصبحت “فطرة” تتغلغل في دماء الفلسطينيين، نساءً ورجالاً، وإن ممارسة الحق المشروع في المقاومة لم تعد بحاجة إلى تدريب عسكري أو انتماء تنظيمي أو تخطيط مسبق، ولكن كل فرد فلسطيني بات يقاوم بطريقته، بل وأصبحت مقاومته فعالة كما يظهر من نتائج عملية “حرائر بيت حانون” التي نجحت في فك الحصار عن المقاومين وإخراجهم من مكمنهم .
أصبح الشرط الوحيد للمقاومة هو أن تنزع الخوف من نفسك، أو بالأحرى أن تقدم على تنفيذ ما عقدت العزم على تنفيذه، رغم ما بك من خوف. تقول أم محمد -وهو أحد الذين كانوا محاصرين- إن النساء رفعن رايات بيضاء، “لكن الدبابات استمرت بإطلاق النار علينا، وكان كل همنا أن نخرج أبناءنا حتى لو كلفنا الموت، كما حصل مع الشهيدة رجاء”. وتقول ندى التي لم تتجاور العشرين عاماً، وعلامات الخوف بادية عليها: “كان الرصاص يمر من بين أرجلنا ومن فوق رؤوسنا، ولا أعرف كيف وصلنا إلى منطقة المسجد المحاصرة وقمنا بتحرير الشباب”، وأكدت أنها مستعدة للموت “من أجل إنقاذ هؤلاء المقاومين”، وكانت النساء تمشين بسرعة وهن يحطن بالمقاتلين الشبان المتعبين باتجاه أزقة بيت حانون الأكثر أماناً .
يُهْزَمُ العدو حين ينجح في نزع الخوف من قلب خصمه، كما يقولون، وهكذا تحمل عملية بيت حانون -كما حملت قبلها عمليات مقاومة كثيرة- بشائر نصر استراتيجي للفلسطينيين سوف يطول انتظار ثماره النهائية بكل تأكيد، لكنه آتٍ لا محالة، وإن لم يفهم أحد الدرس كالمعتاد، فالسلطات الاستعمارية الصهيونية تتصور أن معركتها مع الفلسطينيين “عسكرية” ذات طابع فني يمكن كسبها بتطوير الأساليب القتالية وزيادة توظيف العنف في الصراع وحصد أرواح أكبر عدد ممكن من المقاتلين، وهي تغفل -كما غفلت مثيلاتها في تجارب استعمارية سابقة- عن أن هذه هي البداية الحقيقية للهزيمة، لأن معناها الوحيد هو تأكيد إفلاس التسوية وعقم منهجها، وتالياً ترسيخ النهج المقاوم داخل أوسع القطاعات في الشعب الفلسطيني، وهو تطور بدأ يتبلور بالفعل منذ مدة، بدليل صعود نجم المقاومة الفلسطينية في ساحات الوطن وخارجها منذ سنوات عديدة، وهو يتأكد يوماً بعد يوم مع إصرار “إسرائيل” على التلكؤ في الوفاء بأي استحقاق، حتى إزاء القيادات الفلسطينية “المعتدلة” .
كذلك فإن عدداً لا بأس به من محترفي السياسة الفلسطينيين، ما زالوا يراهنون على إسقاط برنامج المقاومة واعتماد التفاوض سبيلاً وحيداً لتحقيق الأهداف الفلسطينية، مع أن شاهداً واحداً لا يقوم على صحة مثل هذا القول في كامل خبرة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، حتى وإن كان النهج التفاوضي قد نجح من حين لآخر، إلا أن ذلك لم يحدث إلا على خلفية المقاومة .
لعل روح الشهيدة دلال المغربي ترقد الآن في راحة وسلام، وهي تتأكد يوماً بعد يوم أنه لا توجد الآن في فلسطين حقيقة أوضح مما نادت به في وصيتها، بل إن المقاومة في فلسطين لم تعد خياراً وإنما باتت قدراً، على الرغم من كل ما يتفوه به ساسة رسميون في فلسطين وخارجها…
فهل يكون في أحداث بيت حانون وقبلها عشرات جرائم الحرب الإسرائيلية، ما يجعلنا نكف عن التمسك بأوهام تسوية لن تجيء وفقاً لنهج “الخيار الوحيد” في إدارة الصراع مع “إسرائيل”؟
وهل نفهم الدرس الذي لقنته لنا حرائر بيت حانون حين أنقذن بأجسادهن عدداً من المقاتلين الذين ينتمون إلى فصائل عديدة، في إشارة بليغة إلى وحدة الصف الفلسطيني في مواجهة الاستعمار الصهيوني؟
وهل يدفعنا هذا إلى التعجيل بوضع نهاية للمشهد العبثي في فلسطين، حيث تتناحر النخب الفلسطينية في وقت لا تجوز فيه إلا وحدة الصف؟
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

مسؤولون بالبرلمان الأوروبي يطالبون إسرائيل بإنهاء حصار غزة فورا
المركز الفلسطيني للإعلام طالب قادة العديد من الجماعات السياسية في البرلمان الأوروبي اليوم السبت، إسرائيل بالاستئناف الفوري لإدخال المساعدات...

جراء التجويع والحصار .. موت صامت يأكل كبار السن في غزة
المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إنّه إلى جانب أعداد الشهداء التي لا تتوقف جرّاء القصف الإسرائيلي المتواصل، فإنّ موتًا...

إصابات واعتقالات بمواجهات مع الاحتلال في رام الله
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام أُصيب عدد من الشبان واعتُقل آخرون خلال مواجهات اندلعت مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في عدة بلدات بمحافظة رام الله...

القسام ينشر مقطع فيديو لأسيرين إسرائيليين أحدهما حاول الانتحار
المركز الفلسطيني للإعلام نشرت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، السبت، مقطع فيديو لأسيرين إسرائيليين ظهر أحدهما بحالة صعبة وممددا على الفراش....

جرائم الإبادة تلاحق السياح الإسرائيليين في اليابان
المركز الفلسطيني للإعلام في خطوة احتجاجية غير مسبوقة، فرضت شركة تشغيل فنادق في مدينة كيوتو اليابانية على الزبائن الإسرائيليين توقيع تعهد بعدم التورط...

سلطة المياه: 85 % من منشآت المياه والصرف الصحي بغزة تعرضت لأضرار جسيمة
المركز الفلسطيني للإعلام حذرت سلطة المياه الفلسطينية من كارثة إنسانية وشيكة تهدد أكثر من 2.3 مليون مواطن في قطاع غزة، نتيجة انهيار شبه الكامل في...

تقرير: إسرائيل تقتل مرضى السرطان انتظارًا وتضعهم في أتون جريمة الإبادة الجماعية
المركز الفلسطيني للإعلام حذر المركز الفلسطيني لحقوق الانسان، من إصرار دولة الاحتلال الاسرائيلي على الاستمرار في حرمان مرضى الأورام السرطانية من...