الإثنين 12/مايو/2025

غزو العراق وتجليات «ثقافة الإبادة»

غزو العراق وتجليات «ثقافة الإبادة»

عندما تجنبت القوات الأميركية البريطانية المحتلة تدمير المنشآت المدنية العراقية في الأسبوع الأول للغزو، عجل البعض بالترويج لصورة الحرب النظيفة غير العدوانية التي لا تستهدف سوى «تحرير الشعب العراقي» من سطوة الديكتاتورية الحاكمة. ولكن بعض أهل الدراية بشئون الحرب والسلام وتقاليد الاستعمار المباشر، فندوا هذا الزعم، مشيرين إلى أن غزوة بهذا الحجم لا يمكن أن تندرج تحت باب الأعمال الخيرية. وكل ما في الأمر أن الغزاة استشرفوا في صيانة البنية التحتية العراقية ما يساعدهم لاحقا على بسط سيطرتهم اللوجستية، ويخفض الأموال المستقطعة لاعمار هذه البنية (من جيب العراق ذاته». لصالح ما سيضخ في جيوبهم.

قال العقلاء أيضاً إن استهداف المرافق الأهلية سوف يستفز سواد العراقيين، وبخاصة الذين يرجى منهم الانقلاب على النظام، ويعيد إلى الأذهان صورة الاستعمار الذي يأتي على الحرث والنسل، عوضاً عن صورة «المخلص» التي يبتغيها المعتدون في كل عصر.. ويحتاجها الأميركيون والبريطانيون هذه المرة بشكل حرج.

 

سنن الاستعمار

لقد أثير هذا الجدل بأسرع مما ينبغي له. فبعد أسبوع واحد من بدايتها انحرفت «الغزوة» عن ما أريد لها دعائياً وإعلامياً.. أو حتى سياسياً وتكتيكياً، وراحت تضرب بيد باطشة في كل مكان.. ولم تستثن في ذلك بعض المستشفيات والأسواق ومخازن الأغذية والمؤن ومحطات التوليد الكهربائي والتجمعات السكنية والطرق وما عليها من سيارات مدنية.. فرضت السنن الاحتلالية منطقها، ولم يستطع القائمون بهذه الغزوة المداراة عليها مطولاً.

لكن هؤلاء لم يفقدوا الأمل في التغطية على هذا المنطق، فقالوا إن قوى النظام العراقي تختلط بالناس ومرافقهم المدنية وتتخذ منهم دروعاً تحتمي بها، ما يعظم الخسائر الأهلية بلا قصد من القوات المحتلة.

حسنا، إذا كان الأمر كذلك – جدلاً – فما الذي جعل هذه القوات – وهي التي يفترض اضطلاعها بدور المخلص – في عجلة من أمرها؟ فتسحق كل شيء من أجل الوصول لشيء؟. أليس من المفترض أن قيادة الاحتلال على علم بالاستراتيجية الدفاعية للنظام العراقي.. وهي التي أوحت للجميع بأنها رصدت «دبة النملة» في الساحة العراقية؟. وإذا كانت قد فوجئت بهذه الاستراتيجية. وهذا شبه مستحيل في وجود عيونها المبثوثة على الأرض.. وفي الفضاء، فلماذا لم تعدل في أسلوبها القتالي بما يقي البلاد والعباد «المستهدفين بالتحرير والخلاص» شرور ضرباتها القاتلة؟!

وفي كل حال، تبدو فجاجة الدعاية الأميركية البريطانية من كونها استخدمت الذريعة وعكسها لإثبات إنسانية الغزو وتخبئة حقيقته العدوانية. فقد ذكر أن عدم استهداف البنية التحتية هو لصالح العراقيين، ثم ذكر أن استهداف هذه البنية هو أيضاً لصالحهم.

هذا في حين تقول الوقائع الميدانية غير ذلك تماماً، وهو أن الموقف من هذه البنية والمدنيين تحدد في ضوء مجريات الغزوة، ولم يكن له صلة بصالح العراق والعراقيين. ففي التحليل النهائي كان المدنيون ومرافقهم رهينة في يد القوات المحتلة. فهي تجاوزت عنهم لإغرائهم بالتمرد على النظام، ثم عاقبتهم للغرض ذاته.

غير أن ما فات على أصحاب هذا التكتيك هو الكيفية التي رتب بها العراقيون أولوياتهم، بحيث تصدرت حماية الوطن ذاته كل تناقض داخلي. وبهذا أثبت هؤلاء جدارتهم بهذا الوطن وجدارته بهم.. ولذلك دلالات موحية بالنسبة للعلاقة المقبلة بين الاحتلال والمقاومة.

على أن التفسير الأبعد غوراً لقضية التعرض بالقتل لأهل العراق ربما كان مستقراً في مكان آخر أكثر ثباتاً من ميدان القتال وضروراته المؤقتة، وهو العقل الأميركي وثقافة الإبادة المتغلغلة في تضاعيفه، فعقيدة «التطهر» التي يؤمن بها المستوطنين البيض في أميركا الشمالية، تقع في طليعة الإيديولوجيات الابادية المغطاة بأبعاد دينية وعنصرية كثيفة.

وقد سمحت هذه الإيديولوجية لأولئك المستوطنين باستباحة تصفية السكان الأصليين عضوياً بلا وازع. وتمت هذه التصفية إما بالقتل المباشر، أو عبر النقل العمدي للأمراض الوبائية. فكانت حكومة «جورج الثالث» في بريطانيا تمنح مكافأة مالية لمن يحضر فروة رأس «هندي أحمر» قرينة على قتله. كما كان المستوطنون يتركون أغطية مصابة بالجدري كي يأخذها الهنود بما ينشر الوباء بينهم ويبيد منهم الكثيرين. ومن وسائل الإبادة التي تفتق عنها ذهن الأميركيين تجميع السكان الأصليين وإجبارهم على الرحيل الجماعي إلى مسافات نائية (أي وسيلة ترانسفير) سيراً على الأقدم في ظروف بيئية قاتلة، تلقى بهم إلى العالم الآخر!

وهناك أمثلة أقرب إلى عهدنا، إذ علينا أن نتذكر كيف أسرعت الحكومة الأميركية إلى استخدام السلاح النووي، سلاح الإبادة الشاملة، عام 1945 ضد هيروشيما ونجازاكي في اليابان – وهما هدفان مدنيان – بلا أي مبرر عسكري، لأن اليابان كانت على وشك الهزيمة الكاملة. ثم إن هذه الحكومة ذاتها هي التي لاذت بسياسة الأرض المحروقة، أي الإبادة، في الحرب الفيتنامية.. بما أودي بحياة زهاء مليوني مواطن فيتنامي.

في المحيط الدولي، تغيرت حقائق كثيرة.. أو طرأت عليها عوارض الزمن ومستجدات الأحداث، لكن ثقافة الإبادة ظلت من الثوابت التي لم تتخل عنها نخب الحكم والسياسة في واشنطن. فمنذ ميلاد الولايات المتحدة إلى أيامنا هذه وناس كثيرون يموتون، إما بشكل مباشر أو غير مباشر، بفعل تجليات هذه الثقافة التي تشكل محدداً أساسياً لسلوك هذه النخب بالتضامن والتعامد مع حوافز المجمع الصناعي العسكري الأميركي الهائل.

ديمومة هذه الثقافة، واستشعارنا لمدى تعصب الإدارة الأميركية الحالية وضيق أفقها، ووقوعها في حبائل جماعة من الرؤيويين الصهاينة.. هذا كله معطوفاً على «صدمة» واشنطن من صلابة المقاومة العراقية، يدفعنا إلى التحسب والحذر من تصعيد محتمل أهوج وعشوائي في استهداف كل ما يطاله السلاح الأميركي في العراق. ومما يضاعف إلحاح هذا الهاجس الصمت العربي والدولي المريب تجاه لجم العدوان الجاري، وكأنه يدور في كوكب آخر.

ذلك أن أكثر ما يشجع قوة غاشمة على الانفلات المطلق هو استشعارها أنها بوارد أن تقترف أي جريمة، ومع ذلك تفلت من أي عقاب.

 

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات