مغول العصر يستبيحون ذاكرة العراق

أي قراءة – ولو على عجل – في التجربة العراقية المعاصرة تنتهي حتماً إلى أن صدام حسين لم يكن تلميذاً نجيباً للتاريخ بل لعله ليس قارئاً له في إطلاق. رغم ذلك فقد حالف التوفيق الرئيس العراقي كثيراً في استقراء التاريخ عندما اعتبر الغزو الأميركي البريطاني «مغول العصر.

فوهات الجحيم التي فتحها القصف الأميركي على بغداد تركت خسائر فادحة في البشر والشجر والحجر، غير أن الدمار الماحق الذي لا يمكن تعويضه تمثل في ضياع كنوز العراق التاريخية. هذا بالضبط مفصل التماثل الرئيسي بين مغول هولاكو ومغول بوش وبلير.

استناد الغزو الأميركي البريطاني على أحدث معطيات العلم والتكنولوجيا الرقمية لا يبرئه من البربرية والهمجية.

التاريخ لا يعيد حتماً نفسه. فقط هناك من يحاول أو يتعمد أداء دور سابقيه. المشهد العراقي في أبريل هذا العام لا يغاير كثيراً دخول المغول بغداد في العام 1258.

بؤر الوعي والثقافة النادرة تتعرض للحرق والنهب والسلب. المتحف الوطني، المكتبة الوطنية، دار الوثائق، ومركز الفنون تتعرض لغارات منظمة. تجريم العراقيين بسرقة هذه الكنوز محاولة ساذجة غارقة في الجهل وتفتقد إلى أوهى عناصر الحبك.

العالم قاطبة شاهد أسراب الحفاة المشردين يقتحمون مقار الدولة الرسمية – بما في ذلك القصور الرئاسية – يرضون من الغنيمة بمقعد غير وثير، سجادة، طاولة أو إناء للزهور. لا أحد شاهد من يحمل تمثالاً أو مخطوطة. مثل هذه الغنائم لا ترد في حسابات اللصوص المتسكعين على أرصفة المدينة. ما من كاميرا تلفزيون واحدة رصدت لنا عراقياً ينهب المتحف أو المكتبة الوطنية أو مركز الفنون البغدادي.

العالم بأسره شاهد فترينات العرض والخزانات في هذه الأماكن مهشمة وفارغة. السؤال الملح الذي يطرح نفسه متى حدث ذلك ولماذا جرى ذلك بعيداً عن أضواء الكاميرات المنتشرة في المدينة.

مغول العصر استهدفوا نهب رموز الحضارة العراقية في محاولة بائسة لتجريد الشعب العراقي من هويته. هذه خطوة أساسية في مخطط يتعمد تشويه حاضر العراق وإعادة رسم مستقبل مزور لهذا الوطن.

كل الأضرار التي ألحقها الغزاة بالممتلكات العراقية المادية يمكن إعادة بنائها وكل المقتنيات التي تعرضت للسلب والنهب من مقار الدولة قابلة للاستبدال والتعويض. من المستحيل الحصول على بدائل للكنوز الثقافية التي فقدتها بغداد تحت دخان الغزو الهمجي الجديد.

ربما يحتمل الشعب العراقي احتراق بعض المؤسسات ونهبها في سبيل التخلص من النظام المستبد. من المستحيل أن يسلّم العراقيون بنهب ذاكرتهم الجماعية، ذاكرتهم الحضارية وهي ذاكرة خصبة ونادرة تتوغل سبعين قرناً في التاريخ.

عمليات النهب التي تعرض لها المتحف والمكتبة ودار الوثائق ومركز الفنون كانت غارات منظمة من قبل عناصر تعرف قيمة سرقة هذه المواقع الأثرية. هي العقلية نفسها التي تدفع رجلاً بقامة وزير الدفاع الأميركي رامسفيلد يخرج عن وقاره ليصور سلب المتحف الوطني وكأنه «شغب ملاعب كرة القدم». رامسفيلد ليس بهذه السذاجة لكنه يستغبي العالم بأسره في إطار المخطط الأميركي لاستهداف الشعب العراقي في ذاكرته.

هي العقلية نفسها التي تجعل الجنرال فرانكس يجعل قصر الرئاسة في أبو غريب مسرح اجتماعه الأول بقادته الميدانيين في بغداد. هي العقلية نفسها التي تدفع الجنرال الأميركي ليهاتف الرئيس الأميركي للمرة الأولى من قصر صدام نفسه.

الجنرال فرانكس لم يكن فقط يتصرف بغطرسة الكاوبوي الذي تتملكه نزعة إحداث الفوضى داخل أي حانة مترفة يقتحمها. كما أن الجنرال لم يكن فقط حبيس ريفيته التي تصطدم بمظاهر الحضارة في بقعة قد لا ترد في حسابات رجل تكساسي. الجنرال فرانكس كان مع ذلك كله جندياً شديد الانضباط ينفذ مخططاً غايته تشويه صورة العراق واستفزاز مشاعر أهله ضمن عملية تزوير مستقبله، جلسة الجنرال في ردهة القصر قصدت استباحة الكرامة العربية بأسرها.

مثل كل قوى الاحتلال يستهدف الغزو الأميركي البريطاني ثروات العراق. حتى قبل بدء الحرب ساد اعتقاد جازم بأن عين أميركا على نفط العراق. قليل عدد الذين تنبهوا إلى أن في العراق ثروة حضارية مهولة يجب التنبيه إلى ضرورة الحفاظ عليها.

قد يقبل العراقيون دفع فاتورة باهظة تشتمل على إحراق المؤسسات وإعادة بناء بعضها وما أهدره الأميركيون من دم الأبرياء والضحايا مقابل التخلص من صدام ونظامه وتماثيله وصوره.

ما من عراقي واحد يقبل دفع قيمة تلك الفاتورة من رصيده الحضاري وذاكرته الثقافية.

مغول العصر توغلوا في دم الحضارة البابلية والآشورية والسومرية، انتهكوا حرمة العراق من جلجماش إلى أبي حنيفة النعمان .