الأحد 11/مايو/2025

تدمير ذاكرة العراق التاريخية

تدمير ذاكرة العراق التاريخية

سقطت العاصمة العراقية في يد القوات الأمريكية يوم الأربعاء 9 نيسان (أبريل). خلال الأيام السبعة التالية تعرضت بغداد لعملية نهب وتدمير لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، أبداً على الإطلاق، ولا حتى خلال الغزو المغولي. بدأت عملية النهب والاستباحة للعاصمة العربية – الإسلامية بقيام مجموعات من اللصوص والغوغاء وبعض الفقراء بشكل غير منظم، بالإغارة على قصور وفيلات رجال الدولة والحكم السابقين، بعض الأبنية والمؤسسات الحكومية، وبعض السفارات ومؤسسات أجهزة الأمن ومكاتب الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى.

 

وليس هناك من شك بأن عملية النهب تلك قد حملت تعبيرات مختلفة. ففي أحد وجوهها، كانت تعبيراً عن الانتقام من السلطة والحكم السابق ومن رجاله، كما كانت تعبيراً عن توجهات الفوضى وعدم الانتماء للمدينة العريقة من قبل أبناء التجمعات السكانية العشوائية، إضافة إلى دوافع الفقر والحاجة لدى قطاعات من شعب عانى الكثير من وطأة حصار ظالم دام أكثر من 12 عاماً، وحكم فئوي وحرب قاسية مدمرة.

 

في وجه آخر منها عبرت عملية النهب عن دوافع إنسانية مجردة للفوضى واجتياز حدود القيم السائدة، وهو ما عرفته كل المدن عبر التاريخ كلما انهارت أطر وأدوات السلطة والحكم. وقد شاهد العالم كله عبر شاشات التلفزة وتقارير العشرات من الصحافيين في بغداد والمدن العراقية الأخرى مظاهر هذه الحالة من النهب والاستباحة في صور متتالية لشبان وأطفال وكهول يدفعون أو يجرون عربات محملة بأجهزة التبريد والمعدات الكهربائية أو قطع الأثاث.

ما رأى العالم نتائجه المأساوية وإن لم يشهد وقوعه الفعلي كان نوعاً آخر من النهب والتدمير طال كل مؤسسات الفكر والثقافة والتاريخ والفن في بغداد وفي غيرها من مدن العراق، وإن نال بغداد الحظ الأسوأ في هذا الدمار. مع نهاية الأسبوع الأول على سقوط العاصمة العربية ى الإسلامية التاريخية كانت المؤسسات والمراكز التالية قد نهبت، دمرت، وأشعلت فيها النيران:

 

1 – المكتبة الوطنية: وهي واحدة من أهم المؤسسات الفكرية والثقافية في العالم العربي، كما أنها مصدر هام لتاريخ العراق الحديث. تضم المكتبة مئات الألوف من المجلدات والكتب، بعضها قد يكون النسخ الوحيدة المتوفرة في أي مكان من العالم بما في ذلك مكتبتا الكونغرس والمكتبة البريطانية. ويمكن القول إن المكتبة احتوت نسخاً من الغالبية العظمى من الكتب التي طبعت ونشرت في العراق منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن. إضافة إلى ذلك، احتوت المكتبة نسخاً من الصحف والدوريات التي صدرت في العراق منذ بداية عصر الحياة الصحافية في عهد الوالي مدحت باشا في ستينات القرن التاسع عشر. كل هذا جعل من المكتبة الوطنية العراقية مرآة حقيقية لتاريخ العراق الفكري والاجتماعي – السياسي طوال القرنين الماضيين، ومصدراً لا يمكن الاستغناء عنه لكل الباحثين في تاريخ العراق وحاضره، عراقيون كانوا أو غير ذلك.

 

2 – دار الوثائق القومية العراقية: وهي المؤسسة الرئيسية لوثائق تاريخ العراق في العصر العثماني، عصر الاستعمار البريطاني، والعهدين الملكي والجمهوري. والدار هي واحدة من أكثر المراكز الوثائقية تنظيماً في العالم، استفادت بذلك من النهضة الهائلة في دراسة التاريخ في العراق خلال نصف القرن الماضي وهي النهضة التي قدمت للعالم العربي ككل مؤرخين كباراً مثل مصطفى جواد، صالح أحمد العلي وعبد العزيز الدوري، وجيلين متتاليين بعدهما من المؤرخين العراقيين البارزين. والجدير بالذكر أن تعقيدات التاريخ السياسي العراقي قد جعلت الدار مستودعاً لساحة تاريخية واسعة تتجاوز الساحة العراقية. فقد احتوت الدار مثلاً آلاف الوثائق الهامة المتعلقة بتاريخ الأشراف في الحجاز وتاريخ الأسرة الهاشمية ككل، كما وثائق تاريخ القضية الفلسطينية والسياسات العربية تجاهها خلال الفترة ما بين الحربين العالميتين. بل إن وثائق تاريخ العراق الملكي، بما في ذلك رسائل المسؤولين العراقيين وأوراقهم الشخصية وسجلات المراسلات الحكومية والدبلوماسية، وجدت جميعها في هذه الدار. إلى جانب ذلك، أودعت الدولة جزءاً كبيراً من وثائق الحرب العراقية – الإيرانية في هذه الدار. فوق ذلك كله، ضمت الدار الآلاف من الوثائق والمطبوعات الرسمية للعهد العثماني، خاصة تلك المتعلقة بولاية بغداد.

 

3 – مكتبة وزارة الأوقاف: وهي مكتبة ذات طابع خاص تضم مجموعة من نسخ القرآن الكريم تعتبر إحدى أهم وأكثر المجموعات القرآنية فرادة في العالم، كتبت بيد خطاطين مسلمين كبار ويعود بعضها إلى العصر العباسي. هذه المجموعة قد اختفت بالكامل. وليس من الواضح حتى الآن مصير الجزء الآخر من المكتبة وهو ذلك الخاص بآلاف الوثائق والمخطوطات والكتب الإسلامية، التي تغطي التاريخ الإسلامي كله من الحقبة العباسية وحتى العصر الحالي. كما أن الغموض يحيط مصير عدد لا يحصى من إجازات العلماء المسلمين وهي مصدر لا غنى عنه لدراسة التاريخ الفكري الإسلامي حتى مطلع القرن العشرين، بما في ذلك تاريخ العلاقات بين العلماء والكتب والمناهج الفكرية السائدة في مرحلة ما بعد مراحل التاريخ الإسلامي. إضافة إلى ذلك، فإن مصير آلاف الوقفيات التي تشكل المصدر الأهم لتاريخ العراق الاقتصادي- الاجتماعي غير معروف حتى الآن.

 

4 – المتحف العراقي: ذكر حتى الآن أن المتحف قد فقد 170 ألفاً من قطع آثاره المختلفة الحجم. وربما كانت الخسارة الحقيقية أكبر من ذلك بكثير. أما قاعات المتحف ذاته فقد تحولت إلى هياكل من الخراب. وقد ضم المتحف المجموعة الرئيسية لآثار العراق منذ العصر السومري، بعضها يعتبر قطعاً ذات أهمية فنية وتاريخية بالغة يعود تاريخها إلى خمسة آلاف سنة. والمتحف العراقي هو مستودع هائل لتاريخ العراق القديم ومنطقة الشرق الأوسط والإنسانية جمعاء، بل إن من الصعب بناء تصور الإنسانية لتاريخها بدون الميراث الهائل لبلاد الرافدين.

 

5 – أرشيف الإذاعة والتلفاز العراقي: وهو أرشيف لا يقل أهمية من الناحية التاريخية والثقافية عن المراكز الأربعة المذكورة أعلاه، فقد بدأت الإذاعة العراقية البث منذ الثلاثينات بينما أسس التلفاز العراقي في الخمسينات من القرن العشرين. يضم هذا الأرشيف عدداً لا يحصى من الاسطوانات والأشرطة والملفات التي تحتوي مواد موسيقية وغنائية، برامج ومواد وتسجيلات لمحطات هامة وبارزة في تاريخ العراق الحديث. بعض التسجيلات الخاصة بقيادات العراق السياسية منذ الملك غازي وحتى صدام حسين هي تسجيلات ذات أهمية تاريخية لا تقدر، والبعض الآخر من التسجيلات الفنية والموسيقية يعتبر إرثاً جميعاً للعراقيين والعرب والعالم.

 

6 – مركز صدام للفنون: وهو المركز الذي ضم مقتنيات الدولة العراقية من الأعمال الفنية التشكيلية خلال قرن بأكمله، بما في ذلك أعمال بعض من أبرز الفنانين التشكيليين العراقيين مثل فائق حسن وجواد سليم. وبينما يصعب الآن معرفة الرقم الحقيقي للأعمال المنهوبة، فإن من المؤكد أن كارثة تدمير واستباحة هذا المركز هي خسارة هائلة لميراث العراق الفني والثقافي. ومن المستحيل أن تكون هناك في أي مكان واحد من العالم أي مجموعة من الأعمال الفنية العراقية في مثل حجم هذه المجموعة وشمولها لكافة مذاهب وتجليات الإبداع الفني التشكيلي الحديث.

 

7 – مكتبة جامعة الموصل: وهي المكتبة الرئيسية في مدينة الموصل، المدينة التي تعتبر وعاء تاريخياً للميراث العربي – الإسلامي. وتضم المكتبة، إضافة إلى آلاف الكتب الضرورية لأي جامعة حديثة، آلافاً أخرى من المخطوطات العربية – الإسلامية وعدداً هائلاً من الوثائق التاريخية الخاصة بتاريخ المدينة والعراق منذ العهد العثماني وحتى الآن. وفي حين تأكد تعرض المكتبة للسلب والنهب طوال يومين على الأقل، فمن غير الواضح حتى الآن حجم الخسائر التي انتابتها.

 

8 – مركز المخطوطات التابع للمتحف العراقي: وهي المجموعة المركزية للمخطوطات العربية – الإسلامية في العراق. وقد أخبرت شخصياً قبل أسابيع قليلة من اندلاع الحرب أن د. أسامة النقشبندي، مدير المركز، قد أشرف على إعادة تخزين وحفظ هذه المجموعة، ولكن ليس من الواضح حتى الآن إن كانت قد سلمت من النهب والتدمير. ومن نافل القول إن هذه المجموعة التي تشمل كل جوانب الميراث العربي – الإسلامي هي من الأهمية بمكان بحيث يمكن القول إن أهميتها التاريخية قد تفوق مثيلاتها في أغلب العواصم العربي.

 

لقد جرت عملية التدمير والاستباحة هذه في غيبة عن الإعلام العالمي، ولكنها جرت تحت عين وسمع القوات الأمريكية المحتلة. بل إن شهود عيان أفادوا أنه في حالة المتحف العراقي على الأقل فإن القوات الأمريكية هي التي قصفت بوابة المتحف بقذيفة دبابة وفتحتها على مصراعيها لمن تعهدوا عملية النهب والسلب. وهناك تقارير تفيد بأن بعض الجنود والضباط الأمريكيين قد تم الاتصال بهم من قبل سماسرة وتجار آثار في الولايات المتحدة، وقبل وصولهم إلى الكويت، وزود من أبدى استعداداً للتعاون بقوائم للقطع الأثرية التي يسعى السماسرة والتجار للحصول عليها.

 

الوصول السريع لمئات القطع الأثرية العراقية المهربة إلى باريس ولندن يؤكد بلا شك بأن عملية النهب كانت عملية منظمة وان عناصر في الجيش الأمريكي قد لعبت دوراً رئيسياً فيها. أما الإفادات الصحافية، بما في ذلك إفادة روبرت فيسك مراسل الاندبندت الشهير، فتشير إلى أن إحراق هذه المواقع بعد نهبها قد قامت به مجموعات منظمة تنقلت في حافلات خاصة من مكان إلى آخر، وهو ما يعني وجود مخطط مدروس لتحطيم مراكز التاريخ والذاكرة العراقية.

 

مهما كانت الحقيقة وراء ما حدث، فإن ما لا يشك فيه أحد أن العراق قد تعرض لمذبحة هائلة لمصادر تاريخية قامت بها أو أشرفت عليها القوات الأمريكية المحتلة. وما وصفه روبرت فيسك بأنه محاولة للعودة بالعراق إلى العام صفر، هو مشروع واضح المعالم لتحويل الذاكرة الجمعية للشعب العراقي إلى صفحة بيضاء يسهل على المحتل وعملائه احتلالها بذاكرة جديدة.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

نتنياهو: سنضم 30% من الضفة الغربية

نتنياهو: سنضم 30% من الضفة الغربية

رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إن تل أبيب "ستكون قادرة على ضمّ 30%" من الضفة الغربية....