صراع المصطلحات

خذ، مثلاً، مصطلحاً شائعاً مثل عصر الاكتشافات، وهو ترجمة لمصطلح Age of explorations، ويُشير إلى الحقبة الممتدة من أواخر القرن السادس عشر حتى أوائل القرن الثامن عشر تقريباً، وهي الفترة التي تُوصف بأنها شهدت اكتشاف الإنسان الغربي لما يُسمى العالم الجديد. فالمصطلح يعني أن الإنسان الغربي اكتشف أرضاً جديدة فيها أشجار وأحجار وأزهار، ولكن هل كان فيها بشر؟ إن لفظة اكتشف تنكر وجود أي بشر، أو تهمِّش هذا الوجود على الأقل، على رغم أن العالم الجديد- الأميركيتين- كان يعج بالأمم والحضارات المتنوعة، فكيف إذاً ظهر مصطلح عصر الاكتشافات؟
يعكس هذا المصطلح تمركز الإنسان الغربي حول ذاته، وجعْلها معياراً وحيداً للحكم على ما حوله، ولأنه مركز الكون، فلابد أن يهمل الآخرين تماماً وكأنه لا وجود لهم، والعالم الجديد هو أرض بلا شعب، مثلما قال الصهاينة عن فلسطين، ولهذا كان من الطبيعي، وقد عثر الإنسان الغربي على الهنود الحمر هناك، أن يبيد غالبيتهم (ويُقال إن عدد الهنود الحمر في أميركا الشمالية كان يتجاوز ستة ملايين نسمة)، وأن يستعبد من بقي منهم حياً.
أما إذا تُرجم المصطلح بعبارة عصر الاكتشافات الاستعماري الاستيطاني الإبادي، فسوف يتضح المفهوم العنصري الإبادي الكامن وراء مصطلحٍ يبدو بريئاً ومحايداً.
وبالمثل، فإن مصطلحاتٍ مثل الحرب العالمية الأولى والثانية والرأي العام العالمي تنبع من التمركز الغربي العنصري نفسه حول الذات، فالحروب العالمية اندلعت بين الدول الغربية من أجل الهيمنة واقتسام الغنائم، والرأي العام العالمي لا شأن له بالرأي العام في الهند والصين وإندونيسيا، أي ما يقرب من نصف البشرية! ولكن العالم بالنسبة للإنسان الغربي هو الغرب، ولهذا تصبح كل الأحداث عالمية لمجرد أنها تنتمي إلى الغرب. وفي المقابل، ينبغي أن نقول الحرب الغربية الأولى التي يُقال عنها عالمية، أو الحرب العالمية (أي الغربية) الثانية، حتى تتضح المفاهيم الكامنة.
وتتبدى المشكلة نفسها في مصطلح الحروب الصليبية، الذي ما زال بعض الكتاب العرب يصرون على استخدامه دون وعي بما ينطوي عليه من مفاهيم قد تكون مضادةً تماماً لمنطلقاتهم أو على الأقل قد تكون ضارةً أشد الضرر بما يسعون إليه من أهدافٍ، فالمصطلح هو ترجمة لكلمة (Crusades) التي تعني بشكلٍ عامٍ أية حملة عسكرية عنيفة، ولكنه يتبنى في الوقت نفسه الشعارات المخادعة التي حاول الغزاة الفرنجة بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر أن يتستروا بها لإخفاء أغراضهم الحقيقية في النهب والسيطرة. فقد رفع هؤلاء الغزاة رايات المسيحية لإضفاء نوعٍ من القداسة على حملاتهم العسكرية ولزرع الفتنة بين المسيحيين والمسلمين في الشرق ولاستمالة مسيحيي المشرق إلى جانبهم من خلال الإيحاء بأنهم إنما جاءوا لإنقاذهم من الاضطهاد الإسلامي.
ولم يكن لهذه الادعاءات أن تنطلي على العرب آنذاك، فسرعان ما اتضح أن الغزاة براء من كل القيم المسيحية والدينية عموماً، وأن العرب من مسلمين ومسيحيين يقفون صفاً واحداً في مواجهة تلك الغزوة الهمجية، بل ويمكن القول إن المؤرخين العرب القدامى كانوا على إدراكٍ كاملٍ بأبعاد الغزو وحقيقته، عندما استبعدوا صفة الصليبية واستخدموا بدلاً من ذلك تعبيراتٍ مثل غزوات الفرنجة أو حروب الفرنجة لوصف تلك الحملات التي شكلت إحدى حلقات السعي الغربي للهيمنة على المنطقة العربية.
ولو انتقلنا إلى المصطلحات المتعلقة بالصراع العربي الصهيوني، لوجدنا أن طائفةً كبيرةً من الترجمات الببغائية، التي تُسمى ترجمات أمينة، قد تبنت كثيراً من المفاهيم الصهيونية المضللة، والتي تحاول إسباغ قدرٍ من الشرعية أو العدالة على المخطط الصهيوني المتمثل في اغتصاب الأرض العربية وفرض الهيمنة على المنطقة. ويتضح ذلك في ترجمة مصطلح الصهيونية العالمية، وهو ترجمة حرفية دقيقة للمصطلح الإنجليزي (World Zionism). فمن الواضح أن الترجمة لم تدرك أن المفهوم الكامن وراء المصطلح نابع من أيديولوجية شاملة، لا هي بموضوعية ولا محايدة، وإنما تعبر عن آمال وطموحات ومشروعات أصحابها، فالصهيونية تدَّعي أنها تعبير عن القومية اليهودية، أي أنها قومية اليهود، كل اليهود أينما كانوا، وحيث أن اليهود موجودون في كل بقاع الأرض: في فرنسا والهند والصين وتنزانيا، فهي عالمية.
ولكن، لو دققنا النظر لاكتشفنا أن المصطلح الذي اختاره الصهاينة لمنظمتهم (المنظمة الصهيونية العالمية) يعكس هذا التحيز، فالصهيونية ليست ظاهرة عالمية، لأنها لا توجد في إفريقيا (باستثناء الجيب الاستيطاني السابق في جنوب إفريقيا)، ولا في آسيا (باستثناء الجيب الصهيوني في فلسطين)، ولا في أميركا اللاتينية (باستثناء بيونس آيرس في الأرجنتين وربما ريو دي جانيرو في البرازيل)، ويرجع هذا لسببٍ بسيطٍ، وهو أن الغالبية الساحقة من يهود العالم (أكثر من 90 في المئة) تركزت في العالم الغربي منذ القرن التاسع عشر، وازداد التركز في القرن العشرين، فلا يوجد في الصين سوى عشرة يهود، ولا يوجد في الهند سوى بضع مئات، ومن ثم، فالصهيونية ظاهرة غربية تماماً وليست عالمية.
وينطبق القول نفسه على كلمة Settlement، التي ترجمناها بحرفية مفرطة بكلمة مستوطنة، وهي مشتقة من التوطين والوطن، مع أن المفروض أن نترجمها بعبارة مستعمرات استيطانية، ويزداد الأمر سوءاً وببغائية حين نتحدث عن مستوطنات غير شرعيـة، وهي ترجمة لعبارة Illegal Settlements التي تُستخدم في الخطاب السياسي الإسرائيلي للإشارة إلى المستعمرات التي تُشيَّد بدون تصريح من الدولة الصهيونية، وكأن هناك مستعمرات أخرى شرعية، وكأن هذه الدولة هي صاحبة الحق المطلق فيها، وكأنها لم تغتصب كل هذه الأرض التي تُقام عليها المستعمرات من العرب أصحابها الأصليين.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

15 شهيدا بينهم أطفال بمجزرة إسرائيلية في مدرسة تؤوي نازحين في جباليا
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي، مجزرة فجر اليوم الاثنين، بعدما استهدفت مدرسة تؤوي نازحين في جباليا البلد شمال غزة،...

تحذير أمني من تكرار جيش الاحتلال الاتصال بأهالي غزة وجمع معلومات عنهم
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام حذرت منصة أمن المقاومة (الحارس)، الأحد، من تكرار جيش الاحتلال أسلوبا خداعيا عبر الاتصال على المواطنين من أرقام تُظهر...

الزغاري: نرفض المساس بحقوق أسرانا وعائلاتهم
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس جمعية "نادي الأسير الفلسطيني" الحقوقية، عبد الله الزغاري، إنّ صون كرامة أسرانا وحقوق عائلاتهم يشكّل...

الأورومتوسطي: حديث نتنياهو عن مواصلة هدم بيوت غزة نسخة معاصرة للتطهير العرقي
جنيف – المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، إن حديث رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، عن أن "إسرائيل ستواصل تدمير بيوت...

حماس تعلن نيتها إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي مزدوج الجنسية الأميركية عيدان ألكسندر
الدوحة – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس حركة "حماس" في غزة، رئيس الوفد المفاوض، خليل الحية، الأحد، إنه "في إطار الجهود التي يبذلها الإخوة الوسطاء...

البرلمان العربي يدعو لتأمين ممرات إنسانية عاجلة إلى غزة
القاهرة – المركز الفلسطيني للإعلام وجه البرلمان العربي رسائل عاجلة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، والمفوض السامي لحقوق الإنسان، والمديرة...

نتنياهو: سنضم 30% من الضفة الغربية
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إن تل أبيب "ستكون قادرة على ضمّ 30%" من الضفة الغربية....