الأحد 11/مايو/2025

أزمة الحوار الفلسطيني بين المرونة المطلوبة والتنازلات المرفوضة

أزمة الحوار الفلسطيني بين المرونة المطلوبة والتنازلات المرفوضة

نائب رئيس تحرير «أخبار اليوم» المصرية

مجرد اللقاء بين الفصائل الفلسطينية في القاهرة كان انجازاً. وإذا كان اللقاء لم يحقق ما كان «البعض» يأمل في تحقيقه، فإن ذلك لا يجعلنا نهدر ما تحقق من انجاز، أو نعود لخانة الصفر، أو نبدأ في تبادل الاتهامات. اللقاء كان انجازاً.. لأنه ضم تقريباً كل الفصائل الفاعلة على الساحة الفلسطينية.

وهو ما يعني أن الكل يدرك حجم المخاطر التي تتعرض لها القضية الفلسطينية والمنطقة كلها، ويعني أيضاً أن الكل يبحث عن نقاط التقاء تجسد هذا التلاحم على أرض الواقع بين مختلف أبناء شعبنا الفلسطيني المجاهد وهو يواجه آلة الحرب الاسرائيلية المدعومة أميركياً والتي لا تفرق وهي ترتكب مذابحها بين «جهادي» و«فتحاوي» وإنما تعرف أن لها هدفاً واحداً هو كسر إرادة هذا الشعب المجاهد وارغامه على الاستسلام للشروط الإسرائيلية.

واللقاء -بحد ذاته- كان انجازاً لأنه يتواصل منذ مدة، وتتسع مساحة تمثيله لمختلف التيارات يوماً بعد يوم، ولأنه كرس لغة للحوار تعرف الاختلاف وتحترم الآخر ولا تطلق اتهامات الخيانة والعمالة مع أي اختلاف في وجهات النظر.

واللقاء كان -في حد ذاته- انجازاً، لأنه رغم الفشل في التوصل إلى اتفاق نهائي حول القضايا المطروحة وفي مقدمتها الاقتراح بوقف العمل العسكري ضد الإسرائيليين لفترة محدودة لتهيئة الأجواء لاستئناف المفاوضات، فإن كل الأطراف كانت حريصة على ترك الباب مفتوحاً لاستئناف الحوار، وإذا كان الموعد المبدئي المقترح لذلك هو الرابع أو الخامس من فبراير هو موعد مبدئي، فإن المؤكد أن المشاورات لن تنقطع، وأن جولات قادمة من الحوار ستتم بعدما تتضح الظروف والمتغيرات التي ستسفر عنها الانتخابات الإسرائيلية، وشكل الحكومة القادمة من ناحية، وبعد أن تتضح الرؤية حول تطورات العاصفة الأميركية الهوجاء على العراق من ناحية أخرى.

اللقاء انجاز

واللقاء كان أيضاً انجازاً.. لأنه يتم في القاهرة وتحت رعايتها. فالقاهرة التي حصرت علاقاتها الفلسطينية في الماضي القريب في السلطة وحدها، تمد الآن شبكة اتصالاتها لتشمل الجميع تقريباً. والفصائل الفلسطينية -حتى من كان منها يوزع اتهامات الخيانة يميناً وشمالاً- تدرك الآن جميعها أنها لا تملك ترف التخلي عن هذه الفرصة لمد الجسور مع مصر، بعد أن أدرك الجميع كيف كان غياب مصر كارثة على العرب جميعاً، وبعد أن أدركت القاهرة أن الدعوات الجاهلة أيام السادات للابتعاد عن العرب ومشاكلهم لا تصب إلا في خانة المؤامرة لحصار مصر وتهديد أمنها وفي الوقت نفسه ترك الأمة العربية بدون بوصلة تهدي إلى الطريق وقاطرة تقود العمل المشترك.

وإذا كانت كل الأطراف قد قامت بعملية مراجعة لموقفها، وبذلت جهداً مشكوراً كي تصل إلى هذا اللقاء، فإن ذلك لا ينبغي أن يخفي أن هذه الجهود جاءت متأخرة كالعادة، وأن هذه القناعات جاءت بضغط ظروف خارجية وفي ظل أوضاع داخلية وإقليمية سيئة.. مما حد كثيراً من مجال الحركة وقيد آفاق الأهداف التي يمكن الالتفاف عليها لتكون الحد الأدنى في برنامج وطني واحد يقود مسيرة الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال النازي الصهيوني.

كانت قيادة عرفات دائماً حريصة على ابقاء القرار في يدها وحدها.. وربما كان ذلك أحد المزالق التي قادت إلى نفق أوسلو التي أورثت الشعب الفلسطيني أسوأ الاتفاقيات وقدمت أفدح التنازلات. ومع ذلك فقد ساهمت الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية في اقناع العديد من فصائل المقاومة التي عارضت «أوسلو» بأن تفعل المستحيل لتفادي أي صدام فلسطيني – فلسطيني، وأن تحاول تعديل المسيرة من الداخل.

لكن المؤسف أن عشر سنوات مضت بعد ذلك في ظل السلطة الفلسطينية لم تفلح في فتح أبواب الحوار الحقيقي بين جميع الفصائل، ولم تنجح في رأب الصدع الوطني. ورغم جهود تم بذلها على صعيد الإدارة المحلية لاقامة البنية الأساسية من مدارس ومستشفيات.. الخ، فإن ذلك كان يتم في اطار الرهان على أن الحل قادم، وأن أميركا ستفرض في النهاية رؤية متوازنة تحقق معادلة «الأرض مقابل السلام» وتعطي الفلسطينيين دولتهم في حدود 67، وتوفر لـ”إسرائيل” الأمن والتفوق الاستراتيجي.

وعندما جاءت لحظة الحقيقة، وأدرك عرفات -في كامب ديفيد- أن الحل الأميركي لن يوفر الحد الأدنى من المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني، وأن المطلوب أن يوقع صك القبول بالشروط الإسرائيلية والقبول بتهويد القدس، والتنازل عن نصف الضفة، والتخلي عن حق العودة مقابل كيان هزلي لا يملك من شروط الدولة الحقيقية شيئاً.. عندما جاءت هذه اللحظة ورفض عرفات التوقيع لم يكن المشهد الفلسطيني في أحسن حالته:

– كانت السلطة نفسها في حالة ضعف.. منقسمة على نفسها، متصادمة مع المجلس التشريعي، وبعض أعضائها متهمون بالفساد، وممارسات أجهزتها الأمنية المتعددة والمتصارعة محل اتهام.

– وكانت منظمة التحرير معطلة، بعد رفض كل المحاولات لفصل قياداتها عن قيادة السلطة ومد مظلتها لتسع كل التيارات السياسية الفاعلة، وبعد فشل محاولات تفعيل العمل بها لتكون قادرة على التمثيل الكامل للشعب الفلسطيني خاصة في المهجر وفي ظل المؤامرات لاغتصاب الحقوق المشروعة وفي مقدمتها حق العودة.

– وكان اختلاف الرؤى بين نهج السلطة من ناحية ونهج «حماس» و«الجهاد» من ناحية أخرى يسيطر على الساحة، ويهدد -لو كان عرفات وافق على اتفاق كامب ديفيد- بتفجر الموقف بين الفصائل الفاعلة.

ثم جاءت انتفاضة الأقصى لتفرض على الجميع واقعاً جديداً. واستطاعت مقاومة الشعب الفلسطيني للعدوان الهمجي الإسرائيلي أن تفرض على الجميع منطق الوحدة، وتكونت القيادة الموحدة للانتفاضة لتضم كل الفصائل وتنسق بين الجهود. وكان انحياز شباب فتح لموقف تصعيد المقاومة ضد الاحتلال عاملاً حاسماً في بناء هذه القيادة، وتصاعدت الدعوة لتحويل وحدة الدم في الشارع الفلسطيني إلى جبهة حقيقية تقود النضال المشترك -وإلى حكومة تضم كل الفصائل الفاعلة.

وللأسف الشديد لم يتحقق ذلك. وفاتت فرصة حقيقية دفع الشعب الفلسطيني -ومازال- ثمنها غالياً. وبدلاً من قيادة موحدة تقاتل وتفاوض بناء على برنامج وطني واحد متفق عليه، تعددت السبل والاجتهادات. وبدلاً من غرفة واحدة للعمليات العسكرية ضد العدو، أصبح لكل فصيل عملياته التي كثيراً ما تصادمت وتقاطعت وبددت الجهد وأضاعت أرواحاً كان يمكن الحفاظ عليها. وبدلاً من اتفاق على الأهداف العامة وعلى التكتيكات المطلوبة تعددت الاطروحات بين من يطالب بإيقاف الانتفاضة ومن يطالب بتصعيدها، ومن يدين العمليات الاستشهادية ومن يراها السلاح الأفعل في المعركة، وبين من يقف وراء عرفات ضد المحاولات الأميركية الإسرائيلية لعزله ومن يرغب في وراثته، وبين من يحمل أوسلو وتوابعها مسئولية التدهور في الموقف ومن يحمل المقاومة وعدم الرضوخ لأميركا هذه المسئولية.

ظروف بالغة الخطورة

والآن.. تجيء الفصائل كلها إلى القاهرة في ظل ظروف بالغة الخطورة، فالعاصفة الأميركية قادمة ولن تقف عند حدود العراق لتحتل أراضيه وتستولي على بتروله وتحيل دولته الواحدة إلى شظايا، وإنما تمد بصرها بعد ذلك -وتحت زعم زائف بالحرب ضد الإرهاب- إلى العالم العربي كله لتعيد تشكيله وفقاً لرؤيتها العنصرية ورغبتها المحمومة في جعل المنطقة قاعدة لإمبراطوريتها الجديدة.

و”إسرائيل” -تحت حكم شارون ودعم اليمين الاميركي الحاكم- انطلقت يدها بعد 11 سبتمبر في مذبحة مستمرة للشعب الفلسطيني واستهانة بالرأى العام العالمي.. وهي تعد العدة الآن لاستكمال المذبحة وانتهاز فرصة العدوان الأميركي ضد العراق لفرض أمر واقع جديد على أرض فلسطين ينسف أي فرصة للتسوية ويكرس الهيمنة الصهيونية على القدس والضفة، وينتزع من العرب كل ما تريده من تنازلات.

والقاهرة -مثل باقي العواصم العربية- تدرك حجم المخاطر، وتحاول أن تتحرك حتى لو جاءت الحركة المتأخرة والقدرة على المواجهة أقل مما ينبغي. الكل يدرك أنه في قلب الخطر.. سوريا ولبنان متهمتان بمساعدة منظمات المقاومة «الإرهابية عند أميركا» والسعودية أصبحت بين يوم وليلة مصنع الإرهاب المطلوب إغلاقه أو تغيير نشاطه، ومصر مطلوبة للإصلاح الأميركي حتى تقتنع بأن تنكفئ على نفسها وتغلق عليها حدودها بعد أن تحاصر بالمشاكل والأزمات.

من هنا يأتي الترحيب بلقاء القاهرة من حيث هو دليل على استشعار الجميع حجم المخاطر، ومن حيث هو إعلان عن الجدية في مواجهة الموقف المتفجر، ومن حيث هو إدراك من الفصائل الفلسطينية بضرورة العمل على بناء موقف وطني واحد وقيادة موحدة ورؤية مشتركة مهما كانت المصاعب، ومن حيث هو تأكيد على وعي القاهرة بمسئولياتها العربية التي لا تملك أن تتخلى عنها مهما كانت الضغوط أو العقبات.

بناء موقف وطني

وإذا كانت الأطراف لم تنجح في التوصل إلى اتفاق في اجتماع القاهرة، فإن مواصلة الحوار في ظل الاحساس بالعقبات والذي ينبغي أن تحكمه عدة عوامل داخلية وإقليمية ودولية، وتحدد حركته مبادئ أساسية لا يمكن التخلي عنها مهما كانت الضغوط وفي مقدمتها:

ـ أن حق المقاومة المشروعة ضد الاحتلال هو حق مقدس لا يمكن التخلي عنه. وإذا كانت المزايدات هنا غير مطلوبة فإن المناقصات أيضاً ينبغي استبعادها.

ـ أن المطلوب أساساً هو القيادة الوطنية الموحدة التي تقود النضال الوطني في هذه الظروف الصعبة، والتي تضع الضوابط لحركة المقاومة ولمسار العمل السياسي معاً، ودون تفريط في الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.

ـ إنه رغم خطورة الظروف، فإن هذا ليس تقديم الهدايا المجانية للطرف الآخر. وإذا كان الشعب الفلسطيني يمر بأصعب الظروف، فإن الكل معه في أزمة.. الأطراف العربية والإقليمية والولايات المتحدة نفسها. فالمنطقة كلها تسير إلى انفجار لن ينجو منه أحد إذا استمرت الحماقة الأميركية واستمرت معها الغطرسة الإسرائيلية.

ـ إن الحديث عن الهدنة المقترحة ينبغي أن يأتي من خلال الإرادة الموحدة للنضال الفلسطيني في هذه المرحلة، وبدون المساس بالحق المشروع في مقاومة الاحتلال، والحديث عن استثناء المدنيين من القتال ينبغي أن يكون من الجانبين. والقبو

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات