السبت 10/مايو/2025

الحقبة الشارونية.. والسلام من طرف واحد!

الحقبة الشارونية.. والسلام من طرف واحد!

منذ عام على الأقل، كانت الاستطلاعات الإسرائيلية على اختلاف مصادرها وأهوائها، تختبر المزاج السياسي العام، وأحياناً تقيسه بباروميتر واحد اسمه الجنرال شارون، وقد استدرجت تلك الاستطلاعات كثيراً من العرب ليتوقعوا غروب شارون، خصوصاً وأن لديهم تفكيراً رغائبياً حول المسألة، والقليلون فقط، لم تستدرجهم تلك الاستطلاعات المتموجة، لأنهم يعرفون جيداً أن هذه الحقبة الإسرائيلية هي شارونية بامتياز خصوصاً بعد أن تحول الرجل إلى منحى سياسي يتجاوز الليكود كحزب، ويستثير الاحتياطي الصهيوني في ذاكرة الراديكاليين اليهود، بعد أن عزف لهم طويلاً على وتر واحد، هو وتر الأمن حتى في بعده الشخصي.

وكان بعض الكتاب والمعلقين الإسرائيليين منهم (يوري أفنيري) قد أشاروا إلى البطالة السياسية والحزبية في “إسرائيل” خلال الأعوام الأخيرة وتحديداً منذ تصاعد وتيرة الانتفاضة الثانية.

أما الحراك السياسي الذي يلاحظه المراقبون على سطح المشهد فهو مجرد تموجات لا تجاوز السطح، لأن المزاج العام صاغه إعلام إسرائيلي عاد إلى أدبيات ما قبل الدولة العبرية، خصوصاً حين صور هذا الإعلام الهجوم الشرس على الانتفاضة كما لو أنه يستكمل ما يسمى حرب الاستقلال عام 1948.

ومن فاجأهم فوز شارون الساحق والمثير في الانتخابات الأخيرة أغفلوا جملة ظواهر دفعة واحدة، منها ذلك المناخ المحتقن الذي حاولت “إسرائيل” من خلاله أن تتماهى مع الولايات المتحدة في الحرب ضد الإرهاب، فقد بذل الجنرالات قصارى جهدهم لدمج الموقف الإسرائيلي مع الموقف الأميركي بعد أحداث سبتمبر 2001، وحين عرضت تل أبيب خدماتها أمام واشنطن كان المقصود هو هذا الدمج، بحيث تتصاعد العلاقة مع الحليف ليصبحا معاً في خندق واحد، وأمام عدو واحد، الشيء الآخر، الذي كان يرجح فوز شارون هو التزامن بين الانتخابات الإسرائيلية واقتراب موعد الحرب ضد العراق.

فـ”إسرائيل” التي قايضت صمتها عام 1991 بإفراج بوش الأب عن ضمانات القروض لن تلزم الصمت هذه المرة، فالحرب إن اندلعت ستكون بمثابة الفرصة الذهبية لتنفيذ مخطط قديم متجدد، سواء تعلق بالترانسفير الواسع، أو بالإجهاز على الانتفاضة، وسبق أن اعترف شارون نفسه عندما كان وزيراً للبنية التحتية وهي اسم آخر لرئاسة الوزراء لأن من حقه من يحمل حقيبتها أن يتدخل في كل الحقائب الوزارية، سبق له أن قال: بأن “إسرائيل” لا تفوت زلزالاً سياسياً في العالم، وهي قادرة على تحويل المصائب إلى فوائد والحرب الوشيكة مصيبة تندرج في قائمة الزلازل السياسية التي ستستثمرها “إسرائيل” حتى النخاع!

إن أخطر مافي هذا الفوز الذي حققه شارون هو أن نهج الجنرال تحول إلى ظاهرة شارونية تشمل حتى هؤلاء الذين كانوا يتحفظون عليه ذات يوم، فهو لم يكن عسكرياً حسن السمعة في الأوساط اليهودية، لأنه رغم الربح الذي حققه عام 1973 إلا أنه صنف ضمن الجنرالات المجازفين الذين مارسوا حماقات عسكرية غير مأمونة النتائج، إذن هناك عوامل إقليمية ودولية إضافة إلى تحولات في المزاج السياسي داخل “إسرائيل” أدت إلى فوز شارون، رغم أنه في سن ترشحه للبطالة السياسية.

وما يدفعنا إلى تسمية هذه الحقبة من تاريخ الدولة العبرية القصير بالحقبة الشارونية، هو القبول التدريجي لحزب العمل بالانصهار في حكومة تجاوزت الائتلاف إلى الاندماج، فحزب العمل إضافة إلى تآكله الداخلي، يعود إلى «الليكودية» الكامنة فيه عندما تتعرض “إسرائيل” إلى خطر وهذا ما اعتقده حزب العمل خلال الانتفاضة، فأسلم أوراقه وسفنه لقرصان محترف وتخلى عن شعارات ازدهرت في فترات اللاحرب واللاسلم!

شارون حلم منذ بواكيره الدموية في مجزرة «قبية» بما يسمى الريادة الثانية للصهيونية، فهو يريد أن يدخل إلى الذاكرة اليهودية من أوسع الأبواب وأن يكون وايزمان الثاني أو بن غوريون الثاني، وهذا ما دفعه إلى تسمية حربه ضد الانتفاضة بأنها النصف الثاني من حرب الاستقلال عام 1948، ولأنه ككل الغلاة والمتعصبين يقرأ التاريخ بعين واحدة، فقد نسي أن الانتفاضة تستكمل بدورها النصف الأول للمقاومة، وأن للتاريخ وجهاً آخر لا يستطيع أن يراه.

على أية حال، لا يمكن لمراقب أن يقرأ هذا التحول الملحوظ في المزاج السياسي السائد في إسرائيل بمعزل عن الأحداث، سواء كانت متعلقة بالانتفاضة وديمومتها أو بأحداث سبتمبر أو بالحرب الوشيكة ضد العراق، فالإسرائيليون ضحايا جنرالاتهم قبل أي شيء آخر لأن استراتيجية التوتير، والتخويف والعزف على وتر الأمن، حولتهم إلى قطعان مذعورة مستعدة لتصديق كل من يزعم أنه قادر على حمايتها وإزالة كل مصادر الخوف من طريقها.

لكن ما حدث لم يقدم حداً أدنى من مصداقية شارون حول هذه المسألة، فاجتياحاته المتعاقبة لم تحقق الأمن الموعود للإسرائيليين، والجدار الواقي الذي حلم به لم يحقق الغاية المنشودة من تشييده وتناسى أن «أعقاب أخيل» الإسرائيلي عديدة، وأن فائض القوة لا يفضي بالضرورة إلى فائض الأمن والاستقرار، والصهيونية التي شيدت منذ مولد الدولة التي جسدت حلمها واسطورتها سوراً ايديولوجياً، وتشرنقت داخله، لم يخطر ببال منظريها وروادها الأوائل أنها عالجت «الغيتوهات» المتباعدة والصغيرة بـ «غيتو» كبير، وبسعة الدولة.

ورغم أن بعض المحللين الإسرائيليين الأقل تطرفاً ينصحون اليهود بالاقلاع عن الفكرة المجنونة والعصاب العرقي دفاعاً عن مستقبلهم، إلا أن صوت الطبول أعلى، وما قدمه الحليف الأميركي من إغاثات ووعود بمزيد من الحماية السياسية والعسكرية والاقتصادية أسال المزيد من لعاب الجنرالات، وتوهموا أن هذه الفترة قد تكون الأكثر ملاءمة للافصاح عن المسكوت عنه في الأجندة الصهيونية التي تأسست على التمدد والمزيد من السطو، ثم بدأت تترجم نوازعها العدوانية المزمنة إلى مشاريع إبادة سواء على المستوى العضوي «القتل والقبور الجماعية» أو على المستوى الرمزي كقضم الهوية الفلسطينية ومحاولة إذابتها.

ولم يكن الموقف الفاضح من النواب العرب في الكنيست كأحمد الطيبي وعزمي بشارة إلا تجريب أول جرعة سامة على هذا الصعيد، بحيث تبدأ الإبادة السياسية من المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1948، لأن المليون فلسطيني الذين حافظوا على هويتهم رغم الحصار الذي دام أكثر من نصف قرن تحولوا إلى لغم ديمغرافي كما تقول سلطات الاحتلال، وإذا لم يكن سهلاً تدمير اللغم، فلا أقل من نزع فتيله!

وإذا كان تحول شارون إلى منحى وتيار جارف في الحياة السياسية داخل “إسرائيل” مفهوماً للأسباب التي ذكرناها، فإن المثير للاستغراب، هو أن الموقف العربي الرسمي لم يكن مستجيباً بأي مقياس لهذا التحدي، فالمزيد من الراديكالية الإسرائيلية أدى إلى المزيد من الرخاوة والتسامح القسري لدى العرب، وبدلاً من استدعاء احتياطيهم ليعودوا إلى بواكير الصراع في بعده الوجودي آثروا الفرار من المواجهة، وحولوا الاستراتيجي إلى إجرائي، وبقيت أيديهم ممدودة للسلام «النووي» وهي تقطر دماً، وكل ما تفتقت عنه عبقرية الفرار هو تحويل السلام إلى خيار استراتيجي، ومن ثم إلى قضاء وقدر لا راد لهما!

والمفارقة هي أن الحقبة الشارونية بكل ما تعج به من تهديد ووعيد، ودفع التحدي إلى أقصاه تقابلها حقبة سياسية عربية تصلح أمثولة للتراجع، وتعويم المصطلحات، وتسطيح الصراع كما لو أنه مجرد خلاف كمي على مساحة أرض، أو منسوب ماء، وهو في الحقيقة أصبح يقاس بالدم ولا شيء آخر، منذ عادت الحرب إلى أولها، وضاع البعد الثالث بين القاتل والقتيل! وقد لا يستطيع أحد من المراقبين أن يحزر ما الذي سيصدر عن شارون خلال الحرب المحتملة على العراق، لكن القرائن تشي بما لا يسر على الإطلاق، فالتاريخ الشخصي له يجزم بأنه لا يعترف بأية كوابح، وبأنه أشبه بالضبع المتربص بالأشلاء بعد أن يجهز الأسد أو النمر على الضحية، لقد أعد لنا كعرب حقبته النووية، وأجندته «الترانسفيرية» والاستيطانية، فماذا أعددنا له غير خطاب أخرق، يواصل هجاءه وإدانته، ويتوقف عند توصيف منجزاته؟

هذا مع العلم أنه بدأ يتغذى ويسمن من هذه المبيدات اللفظية البائسة، التي لا تحمل أي رصيد مادي يهدده، أو يدفعه إلى أخذ أي من العرب على محمل الجد!

فهو بزعمه قبل فترة قصيرة أن العراق هرّب أسلحته التدميرية إلى سوريا، أضاف دمشق إلى أهداف الحملة العسكرية الأميركية، وكان قبل ذلك قد اعتبر مصر العدو الجذري، وهدد بتدمير السد العالي، وأهداف استراتيجية مصرية أخرى!

نعرف أن سايكولوجية المهزوم تملي عليه أن يغمض عينيه كي لا يرى الخطر المحدق به، لكن ليس إلى هذا الحد الذي يدفع العرب إلى تجاهل المخالب المغروزة في اللحم، فما من سلام يتم من طرف واحد، إلا إذا قبلنا بفرضية الحرب التي تتم من طرف واحد أيضاً، وها نحن نعيش هذه الأحجية التي تتحدى أذكى العقول، وهي أن “إسرائيل” تحارب من طرف واحد والعرب يعلنون السلام من طرف واحد، فالحرب ضد الفلسطينيين لا تقبل الاختزال بحيث تكون ضدهم «فقط» أي بمعزل عن العرب والمسلمين لأن ما استبيح وانتهك من المقدسات يخص مليار ونصف المليار من العرب والمسلمين لكن سايكولوجيا المهزوم هي المسؤولة عن هذه الفلسفة البائسة التي تنسب فلسطين بكل ما تعنيه وترمز إليه إلى أهلها فقط!

شارون بانتظار الليل كي يستطيل شأن كل اللصوص، والحرب القادمة هي ليل لا آخر له، قد تستطيل خلاله الذراع الصهيونية إلى عواصم لا عاصم لها غير «خيار السلام الاستراتيجي»! وقد تكون هناك مفاجآت تربك القطيع وتضاعف من تبعثره، فيعض بعضه بعضه، وقد يصطنع حروباً مليئة بالحماقات كي يصرف النظر عن عدو تاريخي واستراتيجي إلى أعداء وهميين هم باختصار «الأشقاء اللدودون».

إن إعادة انتخاب شارون تقرع الأجراس وتدشن الحقبة الثانية من الصهيونية التي تستكمل مشروعها، لكن الرنين يذهب سدى إذا كان الصمم قد تحول إلى وباء قومي!

 

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات