الإثنين 12/مايو/2025

واشنطن: النجاح في الفضاء.. والفشل على الأرض!

واشنطن: النجاح في الفضاء.. والفشل على الأرض!
صحيفة الشرق الأوسط 22/10/2006
 
 

يستطيع الرئيس الأميركي تنظيم السير في الفضاء، ولكنه لا يستطيع تنظيم السير في شوارع بغداد. فقد تم قبل أيام إصدار قانون بهذا الخصوص، هو الأول من نوعه في العالم، ليحفظ مصالح أميركا الاقتصادية والأمنية، ومن دون أن يرد أي ذكر للمصالح العلمية. وقد تصادف صدور القانون الفضائي مع حادث عابر، إذ تعرض قمر صناعي أميركي لأشعة ليزر صينية، ولم يتم التأكد أميركيا ما إذا كان هذا «العدوان» الصيني محاولة استطلاع علمية أو عملية سرية لتدمير القمر الصناعي، ولكن هذا الحادث زاد من قناعة المشرعين الأميركيين بأهمية إصدار القانون الفضائي الجديد.

لست على اطلاع بأحوال الفضاء وشؤونه وشجونه، بحيث أستطيع أن أعرف كيف تتحول عمليات استكشاف في الفضاء إلى مصالح اقتصادية وإلى مصالح أمنية. كنت أظن سابقا أن الهدف العلمي هو الذي يقف وراء أبحاث الفضاء، وكان هذا الظن سببا من الأسباب القوية للإعجاب بالمجتمع الأميركي الذي ينفق مليارات ومليارات من أجل المعرفة العلمية، والإطلاع على أسرار نشأة الكون، وأسرار المنظمة الشمسية، حيث تؤدي الاكتشافات إلى تطوير البشرية كلها، وتعميق علاقتها بالكون الذي تعيش فيه. ولكن ها هو أمل آخر يتحطم، وها هو مفهوم «إيجابي» عن المجتمع الأميركي يتلاشى. يقول القانون إن الولايات المتحدة ستمنع أي نشاط فضائي، لأية جهة، إذا تناقض مع أهداف ومصالح الولايات المتحدة الأمنية أو الاقتصادية، وقد نصبح من خلال هذا المنع إذا وقع، أمام حرب فضائية هي الأولى من نوعها في تاريخ البشرية. وآنذاك يكون هذا القانون الفضائي الأميركي نوعا من الحرب الاستباقية، وتنفيذا لاستراتيجية الحرب الوقائية التي شرٌع لها الرئيس جورج بوش بعد هجمات سبتمبر/ ايلول 2001، وانطلقت على أساسها حرب أفغانستان، ثم حرب العراق، ثم… حرب كوريا وايران، كي لا نذكر حروب لبنان وفلسطين.

كيف تستطيع الإدارة الأميركية أن تكون ناجحة إلى هذا الحد في الفضاء، وفاشلة إلى هذا الحد في الأرض؟ لا يستطيع سوى أنداد أميركا في الفضاء أن يجيبوا عن الجزء الأول من السؤال، بينما نستطيع نحن بقدراتنا العقلية «الأرضية» أن نحاول الإجابة عن الجزء الثاني من السؤال فقط. وهنا أيضا. وحتى هنا. نستفيد من العقول الأميركية التي لا يمكن نكران كفاءتها، وفي المقدمة منهم جيمس بيكر، وزير الخارجية الجمهوري العتيد، الذي نظم الحرب على العراق عام 1991، وحرر الكويت، والذي نظم مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، إنما من دون أن يتمكن من تحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي. والذي ذاع صيت كفاءته حتى أن الأمم المتحدة باتت تلجأ إليه لحل المشكلات العالمية المستعصية، وهكذا أسندت إليه إيجاد حل لمشكلة الصحراء العالقة بين المغرب والجزائر منذ ما يزيد عن خمسة وثلاثين عاما. وقد بذل جيمس بيكر جهودا كبيرة هنا، ولكنه لم يستطع أن يحل طلاسم اللغة العربية كما يبدو، وبخاصة حين تكون منطوقة باللهجات المحلية السائدة في جبال الأطلس. وبسبب هذه الخبرات كلها، أسند له الرئيس جورج بوش أن يدرس المأزق الأميركي في العراق باللغة الإنجليزية، وأن يقدم بشأنه توصياته واقتراحاته. اعتبر جيمس بيكر أنه مكلف بمهمة وطنية قومية أميركية، فتعامل معها بجدبة بالغة، إذ شكل منذ شهر آذار/ مارس الماضي لجنة من خبراء الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وبدأ بدراسة المشكلة. وهو أنهى دراسته، وصاغ تقريره، وبلور توصياته واقتراحاته، ولن يعلن عنها إلا بعد انتهاء الانتخابات النصفية. ولكنه لم يستطع الصبر على ما لا يصبر عليه، فأدلى بتصريحات توضح شيئا مما توصل إليه.

توصية بيكر الأولى كانت: ضرورة الانسحاب العسكري الأميركي من العراق، إنما على مراحل.

توصية بيكر الثانية كانت: ضرورة الاتصال مع كل من ايران وسوريا، والتشاور معهما، والتعاون معهما، في محاولة لتوفير الاستقرار للوضع في العراق.

توصية بيكر الثالثة كانت: عدم الإصرار على تطبيق الديمقراطية في العراق، والاكتفاء بحل يستند إلى صيغة تمثيلية.

وإذا كانت هذه التوصيات تنسف سياسة الرئيس الأميركي في العراق، ومن قبل قائد جمهوري كبير مساند له ولعائلته أيضا، فإن السبب وراء ذلك هو الوصف الذي قدمه بيكر أمام مجلس الشؤون العالمية في هيوستن (17/10/2006) للوضع في العراق قائلا «إن الأمر هناك صعب جدا جدا». وما أن تسربت لمسات التقرير الأولى إلى الإعلام الأميركي، حتى بادر الرئيس الأميركي نفسه إلى تقديم اعتراف خطير قال فيه «إن ما يجري في العراق الآن يشبه ما جرى في فييتنام»، ومع أنه أردف تصريحه هذا باستدراك جاء فيه «أقول للشعب الأميركي أننا لن نهرب»، إلا أن ما جرى في فييتنام عام 1974 هو أن الأميركيين هربوا من هناك. وهذا الحديث عن فيتنام وعن الهرب، هو الذي يدفعنا للتساؤل عن سبب نجاح أميركا في الفضاء وفشلها على الأرض.

وما يحدث على الأرض لافت للنظر حقا. وحتى لو ابتعدنا عن الحديث الاستراتيجي، فإن الوقائع كما تجري أمام الجميع، تستطيع أن تنوب عن التحليلات الاستراتيجية. في مطلع هذا الشهر قامت كونداليزا رايس بزيارة مفاجئة الى بغداد (6/10/2006)، وتصرفت هناك كالجنرال الذي يلقي الأوامر على جنوده منتظرا منهم أن يبلغوه بإنجاز المهمة. خاطبت نوري المالكي رئيس الوزراء بصلافة قائلة «إن الوضع الأمني ليس من الأوضاع التي يمكن التسامح حيالها»، وأن أمام المالكي فسحة قصيرة من الوقت ليتصرف خلالها. ولكن ما لم تشر إليه رايس أن قنابل المقاومة العراقية استقبلت طائرتها في المطار، واضطرت الطائرة أن تؤخر هبوطها نصف ساعة لكي تتمكن من الهبوط بأمان. كيف استطاعت المقاومة العراقية أن تعرف موعد وصول طائرة رايس في زيارتها السرية للغاية؟ سؤال لا شك أن رايس توقفت عنده طويلا.

وهناك حدث آخر ذو دلالة يتعلق بما يسمى (فرق الموت). والشائع أميركيا أن فرق الموت هي عبارة عن أفراد من المليشيات يتسللون إلى قوى الأمن، ويمارسون من خلالها عمليات قتل طائفية. هكذا تحدثت صحيفة «شيكاغو تريبيون» عن الموضوع يوم (6/4/2006)، وتم يومها اعتقال 22 شخصا بحسب هذه التهمة، بعد أن أكد النبأ الجنرال الأميركي (ريك لينتش). ولكن ما أن حل يوم (13/10/2006) حتى أعلن الميجر جنرال (ويليام كالدويل) إن وزارة الداخلية العراقية قررت سحب اللواء الثامن من الخدمة لأنها فقدت الثقة به، وبسبب السماح لفرق الموت بالتحرك (من خلاله) بحرية. وبعد خمسة أيام فقط، أعلن ناطق باسم وزارة الداخلية العراقية إنه تم طرد 3000 ضابط وشرطي منذ شهر حزيران/ يونيو الماضي، ثم بدأ الحديث عن إلغاء فرق بأكملها من الخدمة الأمنية، وأصدر وزير الداخلية العراقي أمرا بـ«الغاء مراكز الفرقتين الأولى والثامنة في الشرطة، ووضعهما تحت إمرة القيادة المركزية لقوات الشرطة الوطنية العراقية».

لقد بدأ الأمر بالحديث عن أفراد وانتهى بالحديث عن فرق كاملة. وإذا كان من الممكن الحديث عن تسلل أفراد فهل يمكن الحديث عن تسلل فرق؟ وحين تتحول فرق شرطة بالكامل إلى (فرق موت) فهل يمكن إلغاء مسؤولية وزارة الداخلية عنها وإلصاق المسؤولية فقط بالمليشيات؟

نورد هذه الأسئلة لا لنتهم، بل لنورد رواية عراقية أخرى، رواية يتحدث عنها العراقيون العاديون بالاسم والعنوان. يقولون مثلا: ابن عمنا فلان، الذي يسكن مدينة كذا، يعمل مع الفرقة الفلانية التابعة لوزارة الداخلية، أو التابعة لوزارة الدفاع. ثم يوضحون ويقولون: لقد جاء ابن عمنا مع القوات الأميركية يوم احتلال العراق، جاء كجندي مدرب ملحق بفرقة خاصة، وتم إلحاق فرقته بوزارة الداخلية، بينما كانت هناك فرقة ثانية ألحقت بوزارة الدفاع، وتم إبلاغ كل من وزير الداخلية ووزير الدفاع، إنه بالرغم من تبعية هذه الفرقة لوزارته إلا أن الوزارة ليست مسؤولة عنها. وهذه الفرق، كما يقول العراقيون العاديون، هي التي تسمى فرق الموت، وهي التي تزور المناطق السنية لتقتل باسم الشيعة، ثم تزور المناطق الشيعية لتقتل باسم السنة. ثم تأتي ردود الفعل العفوية المتوقعة، يغضب أهل الشيعة فيذهبون إلى قتل السنة، ويغضب أهل السنة فيذهبون إلى قتل الشيعة. والخلاصة أن فرق الموت هذه معدة أميركيا، ومن أجل إحداث مواجهة طائفية سنية ـ شيعية، هي المواجهة التي نشهدها منذ أشهر، والتي تنذر بحرب طائفية شاملة. ولعل ما يجري الآن هو أن رئيس الوزراء نوري المالكي يطالب بإلغاء عمل هذه الفرق، بعد أن «نجحت» في عملها واستطاعت جر قوى طائفية نحو نقطة الاقتتال، بينما يسعى هو إلى النجاح عبر توافق سياسي.

والحدث الأخير الذي يجري على الأرض ويحمل دلالته الخاصة، هو لقاء مكة، ووثيقة مكة (19/10/2006). اللقاء الذي يجمع بين قادة من السنة وقادة من الشيعة تحت رعاية المجمع الفقهي الإسلامي ومنظمة المؤتمر الإسلامي، من أجل وقف كل مظاهر الاقتتال الطائفي، ومن أجل ترسيخ مفهوم التعايش وبناء البلد الموحد. والمهم في هذا الحدث، وبخاصة إذا كان معطوفا على سحب «فرق الموت» من التداول، أنه خطوة تتم خارج السياق الأميركي، وضد السياق الأميركي.

إذا جمعنا هذه الأحداث كلها، نستطيع أن نفهم لماذا يقول جيمس بيكر إن الوضع في العراق صعب جدا جدا. ولماذا يقول الرئيس جورج بوش إن الوضع في العراق الآن يشبه الوضع الذي كان في فيتنام.

وإذا جمعنا هذه الأحداث كلها، نستطيع أن نفهم لماذا تنجح أميركا في معالجة شؤون الفضاء، وتفشل في معالجة شؤون الأرض.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

نتنياهو: سنضم 30% من الضفة الغربية

نتنياهو: سنضم 30% من الضفة الغربية

رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إن تل أبيب "ستكون قادرة على ضمّ 30%" من الضفة الغربية....