الانتفاضة الفلسطينية… والعدوان على لبنان

صحيفة الاتحاد الإماراتية 21/10/2006
أثناء انتفاضة عام 1987، أخبرني اللواء البدري مؤرخ الجيش المصري -رحمه الله- أن الجيش النظامي الذي يقوم بعمليات الأمن الداخلي وقمع العصيان المدني لأكثر من عام يفقد مقدرته القتالية. وقد رصدت الصحف الإسرائيلية آنذاك هذه الظاهرة. فقالت جريدة “حداشوت” (9 فبراير 1989) إن الجيش الإسرائيلي، صاحب العمليات الاجهاضية الشهيرة التي طالما دوخت الحكومات والنظم، تحول من الفعل إلى رد الفعل، ودخل محيط الإدراك العربي، وبدأ يدرك الواقع من خلال مقولات أطفال الحجارة. وكما قالت المجلة “إن الفلسطينيين هم الذين يحددون قدر ومستوى التصعيد، وهذا هو الخطر الحقيقي الذي يواجه “إسرائيل”، لأنها لا تسيطر بصورة فعلية على قوانين اللعبة”.
وقد جاء في “القبس” (عدد مارس 1998) نقلاً عن “الهيرالد تريبيون” أن الجيش الإسرائيلي الذي يتميز بتكنولوجيته المتقدمة، اضطر إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فبدلاً من التركيز على استخدام الأسلحة التي تعمل بالكمبيوتر، يقوم الباحثون بصنع هراوات من “الفيبر جلاس” بدلاً من الهراوات الخشبية التي تنكسر بسرعة. كما ظهر مدفع يطلق الحجارة، وهناك (كذلك) الجرافة التي أصبحت رمزاً آخر يدل على عمل الجيش. وكانت قيادة القوات المسلحة الإسرائيلية ترى أن استمرار الانتفاضة سيؤدي إلى أن يفقد الجيش مقدرته القتالية تماماً (الجيروزاليم بوست ملحق 30 يناير 1998)، وأن الانتفاضة أدت إلى توقف أو تعطيل برامج التدريب، (الجيروزاليم بوست 8 فبراير 1998). وقد اشتكى أحد الضباط الإسرائيليين من أنه لا يقوم بأداء ما دُرب عليه، ولا يقوم بتدريب الجنود ليقوموا بما ينبغي عليهم القيام به (تايم 15 فبراير 1998).
وأعلن رئيس أركان حرب الجيش الإسرائيلي (عل همشمار 3 يناير 1998، في مقال لـ”أرييه بالجي” بعنوان “جنوب أفريقيا وصلت هنا بالفعل”) أن الجيش سيبدأ برنامجاً لإعادة تدريب الجنود على طرق حفظ الأمن في المناطق. ويقول كاتب المقال إن هذا يعني تحول “إسرائيل” إلى جنوب أفريقيا، أي أن الجيش الإسرائيلي سيفقد قدراً كبيراً من مقدرته القتالية بسبب قيامه بالعمليات الأمنية الداخلية. وقد علق الأستاذ “إسحق غلنور”، وهو أستاذ في العلوم السياسية بالجامعة العبرية وضابط احتياطي برتبة رائد في الجيش الإسرائيلي، عما هو متوقع بقوله: “سيخرج الجنود الإسرائيليون من الأرض المحتلة وقد نسوا كيفية استخدام البندقية وماسورتها إلى الأمام، بعد أن تعودوا على استخدامها بشكل معكوس في الأرض (وول ستريت جورنال عن القبس 22 أبريل 1988). إن المنتفضين أرغموا الجيش الإسرائيلي على أن يحارب في أرضهم وعلى أرضيتهم وحسب قواعد اللعبة التي وضعوها. وبذلك تحول الجيش الإسرائيلي بالتدريج من جيش يقوم بالقتال حسب أكثر الطرق حداثة إلى جيش قمع يقوم بقذف المتظاهرين بالحجارة وتكسير عظامهم حسب أكثر الطرق بدائية.
وقد رصدت الصحف الإسرائيلية بعد الحرب السادسة ظاهرة تراجع المقدرة القتالية للجيش الإسرائيلي بسبب انشغاله بقمع المقاومة الفلسطينية، إذ لاحظ “عوزي بنزيمان” (هآرتس 17 سبتمبر 2006) في مقال بعنوان “على الجيش إعادة تقييم دروس حرب لبنان وتطوير نظرية قتالية جديدة” أن الجيش الإسرائيلي قد “تعفن وضمُر” كما قال رؤوبين بدهستور (هآرتس 3 سبتمبر 2006) “لقد تحلل الجيش البري (أي قوات المشاة) إلى حد كبير، وانحصر اهتمامه في عمليات (عسكرية) لمواجهة الإرهاب الفلسطيني.” ولاحظ “جدعون ألون” (حرب لبنان الأخيرة أثبتت فشل نهج الاحتلال والتمترس خلف القوة” هآرتس 20 أغسطس 2006) وأن الجيش الإسرائيلي اعتاد التحرك في أزقة يقطنها الضعفاء، فوجد نفسه فجأة أمام مقاتلين مسلحين وذوي عزيمة وبأس. النتيجة موضوعة أمام أعيننا. طواقم الدبابات اعتادت على مواجهة أمطار الحجارة والقنابل في المناطق، واجهت في لبنان صواريخ قادرة على اختراق المدرعات، فعجزت عن التصدي لها… الجيش الذي قضى وقته في أعمال بوليسية سخيفة وتصفيات يائسة في مناطق الاحتلال لا يعرف كيف يخوض الحروب الحقيقية”. (هآرتس 20 أغسطس 2006). ويزيد مستشار النظم الإدارية، “تسفي كسا”، الأمر وضوحاً في مقال له بعنوان “حالوتس هو الأنسب لإعادة بناء الجيش لأنه الوحيد الذي لم يتعامل مع مشروع الاستيطان” (معاريف 20 سبتمبر 2006) فيقول لقد تحول الجيش الإسرائيلي من جيش إلى شرطة. انشغل جنوده وقادته، في الخدمة الإلزامية والاحتياط، من أدناهم إلى أعلاهم، بثلاثة أمور: بالفلسطينيين في الصباح، وبالفلسطينيين في الظهيرة، وبالفلسطينيين في المساء، وبالحراسة في الصباح الآتي.
ويزيد “غادي طؤوف” الأمر إيضاحاً في معاريف (25 أغسطس 2006) فيقول لقد كشفت الحرب الأخيرة أمراً خطيراً، وهو أن “الجيش الإسرائيلي منذ سنين طويلة غدا شرطة في الأساس. لم يكن مستعداً للقتال، وهو المهمة الرئيسية لكل جيش، لأنه من ناحية تنفيذية مشغول بأمور مغايرة تماماً: الحراسة على الحواجز، والاعتقالات، ومطاردة المطلوبين، والاغتيال، ومصاحبة المواطنين وسائر المهمات التي يشتمل عليها الاحتلال. ينبغي أن نأمل أن تُذكرنا الزعزعة الحالية بهذا أيضاً وهو أن الاحتلال المتواصل يضر بقدرة كل جيش على الوفاء بدوره الرئيسي.
أما “ياريف أوبنهايمر”، سكرتير “حركة السلام الآن”، في معاريف (23 أغسطس 2006) فيبين أنه قبل اندلاع المجابهة في الشمال اضطرت قوات كثيرة لتولي مهام أمنية في أرجاء الضفة بدلاً من أن تتدرب وتستعد لمجابهة عسكرية عنيفة محتملة في كل لحظة. كما أن الجانب المالي تأثر من ذلك إذ اضطر الجيش لتحويل موارد ضخمة للحفاظ على المستوطنات ومقارعة الفلسطينيين على حساب أيام التدريب والتسلح استعداداً للمجابهة مع الدول العربية والتنظيمات الإرهابية.
“بدلاً من التدرب على القتال في مواجهة العدو، اضطر جنود المدرعات والهندسة وسلاح المشاة إلى الوقوف على الحواجز ساعات طويلة في أرجاء الضفة، والتجول في داخل القرى الفلسطينية بحثاً عن المطلوبين”.
(إضافة إلى ذلك الحرب في الشمال كشفت حقيقة أن الفصائل الفلسطينية قد درست خلال سنوات الانتفاضة طرق عمل الجيش الإسرائيلي بصورة دقيقة ونقلت المعلومات إلى أطراف معادية مثل إيران و”حزب الله”. كل هذه الأمور أضعفت من قوة الجيش الإسرائيلي وأضرت باستعداد الجيش للحرب القريبة).
الذين يدعون أنه لا يمكن إلحاق الهزيمة ب”إسرائيل” عليهم أن يدركوا أنه ليس المطلوب هو “هزيمة” “إسرائيل” وإنما إنهاكها حتى يقبل الإسرائيليون الدخول في مفاوضات لتحقيق السلام المبني على العدل وليس السلام المبني على توازن القوى، سلم يستند إلى الشرعية الدولية والإنسانية والذي يقر بحق عودة الفلسطينيين. وعلينا جميعاً أن ندرك الأبعاد الاستراتيجية للنصر العظيم الذي حققه المقاتلون في جنوب لبنان، وكيف أنهكت المقاومة الفلسطينية الجيش الإسرائيلي، وأفقدته كثيراً من مقدرته القتالية.
والله أعلم
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

تحذير أمني من تكرار جيش الاحتلال الاتصال بأهالي غزة وجمع معلومات عنهم
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام حذرت منصة أمن المقاومة (الحارس)، الأحد، من تكرار جيش الاحتلال أسلوبا خداعيا عبر الاتصال على المواطنين من أرقام تُظهر...

الزغاري: نرفض المساس بحقوق أسرانا وعائلاتهم
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس جمعية "نادي الأسير الفلسطيني" الحقوقية، عبد الله الزغاري، إنّ صون كرامة أسرانا وحقوق عائلاتهم يشكّل...

الأورومتوسطي: حديث نتنياهو عن مواصلة هدم بيوت غزة نسخة معاصرة للتطهير العرقي
جنيف – المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، إن حديث رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، عن أن "إسرائيل ستواصل تدمير بيوت...

حماس تعلن نيتها إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي مزدوج الجنسية الأميركية عيدان ألكسندر
الدوحة – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس حركة "حماس" في غزة، رئيس الوفد المفاوض، خليل الحية، الأحد، إنه "في إطار الجهود التي يبذلها الإخوة الوسطاء...

البرلمان العربي يدعو لتأمين ممرات إنسانية عاجلة إلى غزة
القاهرة – المركز الفلسطيني للإعلام وجه البرلمان العربي رسائل عاجلة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، والمفوض السامي لحقوق الإنسان، والمديرة...

نتنياهو: سنضم 30% من الضفة الغربية
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إن تل أبيب "ستكون قادرة على ضمّ 30%" من الضفة الغربية....

الجهاد: لن نطلق سراح أسرى الاحتلال ما لم تتوقف الحرب
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام قال نائب الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي محمد الهندي، إن المقاومة الفلسطينية لن تطلق سراح الأسرى الإسرائيليين ما...