تل أبيب عبء على واشنطن.. أم مخزون استراتيجي؟

تؤكد لنا مفاصل علم السياسة والشواهد التاريخية أن العلاقات الدولية هي علاقات مصالح ومنفعة قبل كل شيء، وما حدث من هزيمة “إسرائيلية” في لبنان، دلالاته واسعة وتتجاوز فهمنا التعبوي، لأنه يشكل لحظتين: الأولى- لحظة رؤيوية تؤكد فشل القوة العسكرية الإسرائيلية في القضاء على المقاومة وثقافتها الآخذة بالتنامي في المنطقة العربية والإسلامية، أما اللحظة الثانية، فهي سياسية بحتة، اكتشف فيها الحلف الأميركي- الإسرائيلي أن مشروعه يصطدم بحائط متين لا تزعزعه المؤامرات، وأن المنطقة ليست كما كان يتصور (أرض خصبة) جاهزة لتطبيق السياسيات والاستراتيجيات الأميركية التي تسمح برسم نظام عالمي جديد.
هذا ما يجعلنا نطرح تساؤلاً قويًا، حول مضاعفات وانعكاسات هذه الحرب على موضع “إسرائيل” على الخريطة الأمريكية كحليف استراتيجي، حيث إنه بعد تقهقر جيشها المدجج بأحدث الأسلحة والدبابات والطائرات على مداخل القرى اللبنانية، باتت الكثير من الأسئلة تُطرح حول مدى متانة الأسس والمبادئ التي ترتكز عليها العلاقات الأميركية- الإسرائيلية، بمعني آخر: مَن الذي يحمي مصالح مَن؟ ويستنتج هذا التساؤل من انتقادات بعض الكتاب الأميركيين لسياسة “إسرائيل”، وفي ارتياب المحللين العسكريين والكتاب الإسرائيليين من بواعث وأفعال الإدارة الأميركية بعد هزال نتائج الحرب.
ولكن كي نفهم ونشخص انعكاسات الحرب على الحلف الأميركي-الإسرائيلي، لابد من إلقاء الضوء على الخلفية التاريخية، والمشروع السياسي الاستراتيجي في المنطقة لهذا الحلف، فنحن حينما نتحدث في هذا السياق، يتوجب علينا استبقاء التاريخ في ذاكرتنا لنجري مقارنات بين الوقائع والخيارات الاستراتيجية، وبين العلاقات والمصالح.
فتطور العلاقات بين واشنطن و”تل أبيب”، جاء نتيجة التزام أميركي بتحقيق أمن “إسرائيل” ووجودها وتفوقها من جهة، ولتصاعد الضغوط الإسرائيلية على رجال الكونغرس وكبار رجال الدولة في واشنطن من جهة ثانية. أضف إلى ذلك حاجة “إسرائيل” الماسة إلى المساعدات الأميركية، وحاجة الأخيرة إلى قوة عسكرية قمعية تساهم في تنفيذ استراتيجيتها الدولية، وخاصة تجاه العالمين العربي والإسلامي، وهذا ما جعل الجانبين يندفعان لتأسيس شبكة علاقات تعاونية وطيدة يتبادلان من خلالها المصالح والخدمات.
مع حلول عقد السبعينيات، أخذت المعونات الأميركية، بشقيها الاقتصادي والعسكري، تتزايد بسرعة، بينما كان نفوذ اللوبي اليهودي (إيباك) يزداد قوة ورسوخًا في أروقة البيت الأبيض. وقامت “إسرائيل” بإبداء استعدادها للدفاع عن المصالح الأميركية في مختلف أنحاء العالم، لزيادة نفوذها داخل أروقة الكونغرس وأجهزة الحكومة الأميركية، وهذا ما تم فعلاً.
وهكذا أخذ التعاون الاستراتيجي بين “تل أبيب” وواشنطن ينمو ويزدهر، ويأخذ أشكالاً وصورًا عدة، ولكن حجم المساعدات المقدمة للدولة العبرية بقي مرهونًا بمدى نجاعة برامجها السياسية والعسكرية والعدوانية التوسعية تجاه البلاد العربية.
وعلى مدار السنوات الماضية، استطاعت “إسرائيل” تحقيق الأهداف الأميركية في المنطقة من خلال الحروب التي خاضتها مع الدول العربية، وهذا ما عزز العلاقات بين الطرفين بشكل كبير، وباتت واشنطن تعتبر الدولة العبرية كنزًا استراتيجيًا، ومسألة تمس الأمن القومي الأميركي بصورة خاصة، بحيث نشأت علاقة مستوى خاص جدًا بين طرف لا تعوزه الموارد، وآخر لا يمل الإلحاح في الطلب. ومنذ عام 1982م استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن (32) مرة لصالح السياسة الإسرائيلية المتطرفة، وأحبطت (32) قررًا محرجًا ضد ممارسات “إسرائيل”.
ولكن، بعد فشل جنرالات وساسة “تل أبيب” في تحقيق الأهداف المعلنة لحرب لبنان الثانية، والمتمثلة بالقضاء على حزب الله الذي تعتبره الولايات المتحدة اليد الطولى لإيران في المنطقة، باتت العديد من الأسئلة تطرح حول موقع “إسرائيل” المستجد في الاستراتيجية الأميركية الإقليمية والعالمية، فخروج “إسرائيل” من الحرب دون تحقيق أدنى الأهداف، أحرجها أمام واشنطن التي تزداد مأزوميتها في العراق وأفغانستان يومًا بعد آخر، أضف لذلك عدم نجاحها في تمرير مشروعها في فلسطين، بعد صعود حركة حماس لسدة الحكم.
وكتب زئيف شيف المعلق العسكري في صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية بتاريخ 7/8/2006 يقول: ليس الأميركيون هم الذين خيبوا أمل “إسرائيل”، وإنما “إسرائيل” هي التي خيبت أمل أميركا من ناحية استراتيجية، عندما لم تفلح في أن تزود الإدارة الأميركية بأوراق عسكرية.
بينما وصف الكاتب الإسرائيلي أمير أورن الوضع بين الطرفين بقوله: ثمة من يطلب إذنًا وثمة من يصادق، ثمة من يثير توقعات، وثمة من يخيب الأمل…والرئيس جورج بوش خائب الأمل، لم يتصور بينه وبين نفسه أن الجيش الإسرائيلي هو على هذا النحو، لقد تصور الجيش الإسرائيلي دائمًا كجيش شديد القوة والعزم، جيش طافح بالسلاح الأميركي.
ومن هذا المنطلق، يمكن الخروج بتأكيد جازم أن رجال الإدارة الأميركية توصلوا لنتيجة واضحة، وهي أن حليفتهم الاستراتيجية التي يمطرونها بالمعونات والمساعدات المالية، ويوفرون لها أحدث ما تنتجه صناعتهم العسكرية من أسلحة، ليست قادرة على تحقيق أي من الأهداف الملقاة على عاتقها، فقد ثبت بالوجه القاطع أنها غير قادرة على حماية نفسها في المقام الأول، وهذا الأمر يقودنا لسؤال واحد، وهو: هل الولايات المتحدة الأميركية يمكنها التخلي عن “إسرائيل” بعد هذه التحولات؟
الإجابة السريعة والعقلانية لا بد أن تكون: (لا)، وذلك لعدة اعتبارات، نذكر منها:
1-لا يوجد حليف أفضل وأكثر قربًا لواشنطن من “إسرائيل” في منطقة الشرق الأوسط في المدى المنظور والاستراتيجي أيضًا، وذلك لعدة أسباب، هي:
أ-معظم دول الشرق الأوسط (عربية- إسلامية)، ولا يمكن لشعوبها القبول أو السماح لأنظمتها بتشكيل حلف استراتيجي مع واشنطن، وبالتالي فإنها لا تستطيع المراهنة على أي دولة سوى “إسرائيل” في هذه المهمة.
ب-أميركا بحاجة لدولة صديقة في منطقة الشرق الأوسط وقوية، و”إسرائيل” تعتبر الدولة النووية الوحيدة في المنطقة رغم كل عيوبها.
ج- وحدة الهدف لواشنطن وتل أبيب، المتمثل في القضاء على أي قوة في منطقة الشرق الأوسط قد تهدد المصالح الأميركية- الإسرائيلية، والمتمثل حاليًا في محاربة ما يسمى (الإرهاب الإسلامي)، وتصور “إسرائيل” نفسها دائمًا بأنها (الدولة) الضعيفة المحاصرة بالعملاق العربي المعادي لها، وهذا المفهوم غذي من القادة الإسرائيليين، ورسخ في عقول الأميركيين.
د- للولايات المتحدة مصالح حيوية في الشرق الأوسط، حافظت عليها “إسرائيل” على مدار سنين مضت، وبالتالي فإن العلاقة تاريخية، ويحكمها مبدأ التقادم، ويذهب البعض إلى القول أن واشنطن لديها التزام أخلاقي تجاه “إسرائيل” بصفتها القطر الذي يبحث عن السلام، والذي يرغب ويبدي ذلك في كل فترة أو دورة من الزمن، والذي يحتفظ بضبط النفس كلما تعرض للإثارة والاستفزاز من المحيط العربي.
2- حـرص “إسرائيل” التاريخي على الارتباط بالقوة العظمى السائدة في النظام الدولي كأحد أسـس نظرية أمنها القومي، وهو ما ترسـخ عبر عقود مضت مع بريطانيا، ومن بعدها أميركا، ومنذ إعلان قيام “إسرائيل” وخلال حروبها وحتى الآن، أكد مختلف الرؤساء الأميركيين دائمًا على أمن الدولة العبرية وبقائها وتفوقها على دول الجوار العربية.
3- قدرة “إسرائيل” على التأثير في دوائر صنع القرار في واشنطن من خلال اللوبي اليهودي (إيباك).
4- تشكل “إسرائيل” بالنسبة للولايات المتحدة أحد العناصر الرئيسية لملء الفراغ في الشرق الأوسط، طبقًا لمبدأ الرئيس أيزنهاور الذي أعلنه في (5 يناير/ كانون الثاني) عام 1957 بعد فشله في إقامة حلف بغداد.
5- شمل التعاون بين واشنطن و”تل أبيب” كل الجوانب العسكرية، ووضعت الولايات المتحدة الأميركية كل التكنولوجيا العسكرية الأميركية في خدمة “إسرائيل”، وبالتالي أصبحت إحدى القوى النووية- غير المعلنة- في العالم.
وبعبارة أخرى، إن العلاقة بين “إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية شكلت علاقة عضوية تبادلية في المصالح، وتقوم على المبدأ التالي: الولايات المتحدة تشكل كيانًا استعماريًا يرمي لفرض هيمنته ونفوذه على العالم أجمع، و”إسرائيل” تشكل أيضًا كيانًا استيطانيًا يسعى لإخضاع الآخر والسيطرة على مقدراته، وبموجب ذلك، فإن العلاقة تتجاوز دور التابع أو المتطفل إلى علاقة شراكة تكاملية.
ولذلك، لا يمكن القول إن الحلف الأميركي- الإسرائيلي سيضعف مستقبلاً، فلا تملك واشنطن أي خيار آخر سوى التحالف مع “إسرائيل” لحماية مصالحها ومساندتها في الشرق الأوسط، وهذا ما يجعلها تتجاوز أيضًا تنامي الشعور الدولي والعالمي بالانزعاج من سياستها المنحازة تجاه الصراع في الشرق الأوسط، فموقع “تل أبيب” الاستراتيجي ضمن المنظومة الأميركية، والعلاقات القائمة بينهما يستندان إلى أسس استراتيجية ثابتة، الأمر الذي أعطى القدرة على مواجـهة التبـدلات كافة، التي نتجت عن التغيرات الموضوعية في المنطقة العربية والعالم، بالشكل الذي لا يتـعارض مع مصالحـها وأهـدافها.
ف “إسرائيل” بنَت علاقاتها مع أميركا على أسس ثابتة، تربطها المصالح بشكل وثيق، ووحدة المصير والهدف والتراث التاريخي، كما يقول مستشار الأمن القومي للرئيس السابق جيمي كارتر: يجب على العرب أن يفهموا أن العلاقات الأميركية – الإسرائيلية، لا يمكن أن تكون متوازنة مع العلاقات الأميركية- العربية؛ لأن العلاقات الأميركية الإسرائيلية علاقات حميمة مبنية على التراث التاريخي الذي يتعزز باستمرار، بواسطة النشاط السياسي لليهود الأميركيين، بينما العلاقات الأميركية – العربية لا تحتوي على أي عامل من هذه العوامل.
وهكذا نخرج بنتيجة أن الولايات المتحدة ستبقى تتعامى عن جميع سلبيات حليفها الاستراتيجي للعوامل سابقة الذكر، وما شاهدناه من تحركات أميركية توجت بزيارة كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية، للمنطقة مؤخرًا، دليل على أن واشنطن تحاول الالتفاف على نتائج الحرب، في محاولة منها لحفظ ماء وجهها و”إسرائيل”، ومحاولة لتبديد أية مكاسب سياسية للحرب، وذلك بالترويج لما خرجت علينا به- أخيرًا وليس الآخر- وأسمته بحلف المعتدلين.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

الاحتلال يستهدف مجموعات شرطية أثناء ملاحقتها عصابات لصوص بغزة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام استشهد وأصيب عدد من عناصر الشرطة الفلسطينية، مساء اليوم الجمعة، إثر استهداف طائرات الاحتلال الإسرائيلي في مدينة غزة...

أجبره الاحتلال على هدم منزله في العيسوية فجعل منه محرابا
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام أجبرت بلدية الاحتلال الإسرائيلي، المقدسي محمود عبد عليان على هدم منزله في حي المدارس بقرية العيسوية بالقدس المحتلة...

المظاهرات تعمّ المدن المغربية للمطالبة برفع الحصار عن غزة
الرباط – المركز الفلسطيني للإعلام طالب آلاف المغاربة، الجمعة، وللأسبوع الـ74 على التوالي برفع الحصار عن غزة وفتح كافة المعابر لدخول المساعدات...

حماس: الاحتلال يسعى لكسر إرادة شعبنا بكل السبل وسط غياب الضمير العالمي
الدوحة – المركز الفلسطيني للإعلام قال القيادي في حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، عبد الرحمن شديد، الجمعة، إن قطاع غزة يواجه اليوم واحدة من أسوأ...

المقاومة تعلن تفجير جرافة وقنبلة برتل لآليات الاحتلال شرق غزة
الخليل- المركز الفلسطيني للإعلام أعلن الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي " سرايا القدس" عن تفجير جرافة عسكرية إسرائيلية وقنبلة من مخلفات الاحتلال...

مظاهرات مليونية في اليمن تضامنًا مع غزة
صنعاء – المركز الفلسطيني للإعلام تظاهر مئات الآلاف من اليمنيين، الجمعة، في 14 محافظة بينها العاصمة صنعاء، دعما لقطاع غزة في ظل استمرار الإبادة...

ايرلندا تدعو “إسرائيل” لرفع الحصار عن غزة والسماح بدخول المساعدات
دبلن – المركز الفلسطيني للإعلام حذّرت ايرلندا من استمرار الكارثة الإنسانية في غزة، وأنه لم تدخل أي مساعدات إنسانية أو تجارية منذ أكثر من ثمانية...