الإثنين 24/يونيو/2024

المأزق الإسرائيلي بعد حرب فاشلة

المأزق الإسرائيلي بعد حرب فاشلة

 

صحيفة الاتحاد الإماراتية 19/10/2006

صراعات حادة تموج بها الساحة السياسية والعسكرية في “إسرائيل” منذ أن وضعت حربها الأخيرة على لبنان أوزارها. صراعات تتردد أصداؤها في مختلف جوانب المجتمع بأكثر مما حدث عقب أي حرب سابقة، باستثناء حرب 1973. ومع ذلك فهي لا تقود إلى تصحيح الأخطاء والاختلالات بخلاف ما حصل بعد كل حرب سابقة، وخصوصاً حرب أكتوبر .

وهذا هو جوهر المأزق الذي يواجه “إسرائيل” اليوم ويؤثر في مستقبلها بأكثر مما ترتب على أي مأزق سابق. فقد كشفت الحرب الأخيرة أوجه وهن كثيرة ينطوي بعضها على أخطار لا سابق لها. وهن في الأداء السياسي والعسكري يعود، في أهم جوانبه وأخطرها على الإطلاق، إلى تدهور شديد في منظومة القيم التي زرعها مؤسسو هذا الكيان أو من كان يُطلق عليهم “الرواد”. هذه القيم التي ارتبطت بإخلاص شديد للعقيدة الصهيونية، خلقت شعوراً قوياً بالمصلحة العامة ووفرت قوة دافعة لعمل جبار قام به مهاجرون على أرض لم تربطهم بها إلا صلة أيديولوجية دفعتهم إلى انتزاعها من أصحابها .

لقد تفوقت “إسرائيل” على العرب لفترة طويلة استناداً إلى هذه القيم التي أحدثت فرقاً بين من عملوا فأتقنوا عملهم ومن كان العمل من أجل الأوطان بالنسبة إليهم عبئاً ثقيلاً، إذا أدوه واكتفوا بأقل الجهد وخلطوه بالمصالح الخاصة والمنافع الذاتية .

وإذا كان لتلك القيم كل هذه الأهمية، لابد أن يكون التدهور الذي لحق بها وكشفته الحرب الأخيرة على لبنان هو أخطر نتائج هذه الحرب على الإطلاق. فهذا التدهور القيمي هو المسؤول الأول عن سوء الأداء الإسرائيلي فيها. فأما الأداء السياسي فقد انحط مستواه بسبب ضعف الشعور بالمسؤولية وشيوع الاستهتار في أوساط قطاع من النخبة السياسية. وقد بلغ هذا الاستهتار حد إعلان الحرب بدون تأكد من الاستعداد لها، والزج بقوات الاحتياط فيها دون تدريب كافٍ. وأما الأداء العسكري فقد تدنى لأسباب من أهمها تضعضع قيم القتال والإقدام والتضحية، واستهانة ضباط كبار لم يعودوا يشكلون مثالاً يحتذى في نظر جنودهم، وتخاذل قادة الألوية الذين جبنوا عن قيادة قواتهم على الأرض في جنوب لبنان وبقوا خلفهم يتابعون تقهقرهم من بلدة إلى أخرى عبر أجهزة “بلازما”. وليس هذا إلا غيضاً من فيض الممارسات التي تعود إلى تدهور قيمي في المقام الأول .

ومع ذلك فما كان لتدهور في القيم أياً يكن مداه أن يكتسب كل هذه الأهمية، وأن يطرح السؤال جدياً عن مستقبل “إسرائيل”، إلا لتزامنه مع ميل غير مسبوق إلى تعطيل قاعدة المساءلة والمحاسبة في لحظة بالغة الدقة .

فلم تكن “إسرائيل” في حاجة إلى إعمال هذه القاعدة أكثر مما هي الآن. ومع ذلك فهي لم تشهد في أي وقت مضى مثل هذا السعي إلى الإفلات منها. فرئيس الحكومة إيهود أولمرت يهرب من المساءلة أمام لجنة تحقيق مستقلة وينجح في تشكيل لجنة شبه حكومية ستخفي من الحقائق أكثر مما تكشف. ووزير دفاعه عمير بيريتس ورئيس أركانه دان حالوتس لا يتمتعان بالمسؤولية التي تدفع من في وضعهما إلى الاعتراف بالتقصير، رغم أن أولهما صار عنواناً للفشل بينما أصبح الثاني رمزاً للغطرسة المستهترة. فأين ذلك مما حدث بعد حرب 1973 مثلاً؟

في تلك الحرب، تعرضت “إسرائيل” إلى هزيمة أكثر وضوحاً مما حدث لها في الحرب الأخيرة. ولكن أداءها السياسي والعسكري قبل 23 عاماً كان أفضل كثيراً. ففي أكتوبر 1973 فوجئت بالهجوم العسكري المصري- السوري المنسق والمخطط له بخبرة وحنكة بالغتين، بخلاف ما وقع في الحرب الأخيرة، حيث كانت هي المبادرة بقرار الحرب عقب عملية “الوعد الصادق”، وليس من هاجم كمن تعرض للهجوم، ومع ذلك كان أداؤها عندما هوجمت أفضل منه حين هاجمت .

والمفارقة هي أن قاعدة المحاسبة والمساءلة فعلت فعلها بقوة بعد حرب 1973 عندما كانت الاختلالات الواجب تصحيحها أقل، بينما يجري التلاعب بهذه القاعدة منذ توقف حرب 2006 رغم أن حاجة “إسرائيل” إليها أكبر مما كانت عليها قبل 33 عاماً. في عام 1973، خضع قادة كبار “محترمون” -رغم أنهم أعداؤنا- لمحاسبة قاسية. وكان بينهم بعض من “الرواد” الذين أقاموا الكيان الإسرائيلي وضحوا من أجل هذا الهدف. بعضهم تدمع عينا المرء عندما يطالع مذكراته فيجد فيها ما يدل على تفانٍ وإخلاص لمشروعه الصهيوني، ويقارن ذلك بأوضاعنا العربية. ومن هؤلاء مثلاً، موشى ديان الذي لم تشفع له أمجاده في بناء “إسرائيل” وجيشها وتحقيق نصرها الأسطوري عام 1967، ولم يحمه تاريخه ونفوذه من أن يدان شر إدانة عند إخضاعه للمساءلة بعد حرب 1973. وكذلك الحال بالنسبة لرئيس الأركان حينئذ ديفيد أليعازر .

فمن يكون مثلاً إيهود أولمرت، أو عمير بيريتس، مقارنة بقادة من النوع الذي يحترمه أعداؤه قبل أصدقائه؟ أليس في عدم إخضاعهما وآخرين معهما لمساءلة أُخضع لها من فاقهم في كل شيء، مؤشراً على أن “إسرائيل” دخلت مرحلة “للخلف در”، وأن الاختلالات التي كشفتها الحرب على لبنان قد لا يمكن تصحيحها، بل ربما تتفاقم وتؤثر جدياً في مستقبلها؟

يريد أولمرت وبيريتس وحالوتس النجاة من إدانة لابد أن تلحقهم إذا أُخضعوا لمساءلة جادة بشأن اتخاذ الأول قرار الحرب وتولي الثاني والثالث تنفيذه، دون أن يتأكدوا من توفر شروط نجاحه. وهم يسعون إلى الإفلات من أسئلة كبرى مثل السؤال عن الانهيار الذي حدث في مستوى استعداد فرق الاحتياط، وفي نظام استدعائها، الأمر الذي أدى إلى فشل الاستعانة بها .

وعندما يصل الإخفاق إلى هذا المدى، يصبح مستقبل الجيش الإسرائيلي متوقفاً على تصحيح الاختلالات الجوهرية، ولا يتأتى ذلك إلا بسؤال من يتهربون من المساءلة، خاصة وزير الدفاع الذي كان أداؤه مضحكاً. ولو أن لديه شعوراً بالمسؤولية التي كان هناك الكثير منها لدى أسلافه في الوزارة، لبادر إلى التنحي عن منصب وزير الدفاع عشية الحرب. وكان بإمكانه أن يتبادل موقعه مع أحد زملائه في الحكومة ممن يفضلونه كثيراً في هذا الموقع، مثل شمعون بيريز أو شاؤول موفاز .

ولو أنه، وأولمرت، أُخضعا إلى مساءلة جادة لوجب سؤالهما أيضاً عن الاستهتار الذي دفعهما إلى إغفال الاستعانة بخبرة بيريز وموفاز. فعندما يكون في الحكومة من يستطيع أن يعوض جهل رئيسها ووزير الدفاع فيها بشؤون الحرب، يصبح الاعتماد عليه ضرورياً. وحين لا يحدث ذلك، تعالياً منهما أو استكباراً، فهذا يكفي لإدانتهما إذا تبين من استجوابهما أن بيريز وموفاز حاولا المساعدة فلم يجدا سبيلاً إليها لأن من بيديهما القرار كانا سعيدين بجهلهما وسوء أدائهما .

غير أن أهمية المساءلة تتجاوز بكثير تحديد مسؤولية أولمرت وبيريتس. فهي تكتسب قيمتها من أنها السبيل إلى التصحيح. وإذ تبدو “إسرائيل” اليوم أقل قدرة على هذا التصحيح من أي وقت مضى، فربما يسجل التاريخ أن حرب 2006 لم تكن فقط كاشفة ولكن أيضاً موحية بتحول في مسار الصراع العربي- الإسرائيلي. غير أن هذا التحول يبقى مشروطاً بأن نشرع نحن، على الصعيد العربي، في إصلاح أوضاعنا. فلهذا الإصلاح أهمية أكبر من إخفاق “إسرائيل” في مراجعة أخطائها .

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات