الجمعة 28/يونيو/2024

صراع «فتح» و«حماس» من منظور تفاوضي

صراع «فتح» و«حماس» من منظور تفاوضي

صحيفة الحياة اللندنية 18/10/2006

 

التنافس السياسي بين «فتح» و«حماس» أو حتى الصراع على السلطة بينهما، إن كان هناك حقا سلطة قابلة للتنافس والصراع عليها، أمر طبيعي ومشروع ومتوقع. فلكل من هذين الفصيلين الفلسطينيين الكبيرين رؤيته السياسية وتجربته ومشروعه المختلف الذي يحق لكل منهما الترويج له بالطريقة التي يراها مناسبة شريطة أن يقبل بحكم الشعب الفلسطيني له أو عليه وأن يلتزم بحكمه هذا التزاماً صارماً. لكن حين يتحول التنافس بينهما إلى صراع صفري، كأن مكاسب أي طرف هي بالضرورة خسارة صافية للطرف الآخر، وحين يتصاعد الصراع إلى صدام مسلح يستبيح فيه كل طرف دم الآخر ويلقي بالمسؤولية عليه، فلا بد أن نشعر بالقلق لأن ذلك هو الجنون بعينه والذي لن يفضي إلا إلى شيء واحد وهو هلاكهما معاً وضياع قضية الشعب الذي صبر طويلاً ويدعي كل منهما شرف تمثيله.

من حقنا جميعاً أن نشير بإصبع الاتهام إلى هذا الطرف أو ذاك، شريطة توخي الموضوعية في أحكامنا. فليس من الإنصاف في شيء إظهار «فتح» وكأنها مجرد جماعة أدمنت السلطة حتى استهلكتها وأفسدتها وحولتها إلى أداة طيعة في يد العدو. صحيح أن الفساد طال بالفعل فتحاويين كثيرين، وصحيح أيضاً أن نفراً من هؤلاء أدمن السلطة إلى درجة الاعتقاد بأن لا أحد غير مؤهل أو جدير بممارستها، إلا أن قواعد الإنصاف تقضي في الوقت نفسه الاعتراف بأن «فتح» كانت الأسبق في ممارسة الكفاح المسلح وبأن قواعدها وبعض كوادرها لا تزال على العهد. وتكفي نظرة عابرة على قائمة شهداء السنوات الأخيرة والمعتقلين القابعين حتى الآن في السجون الإسرائيلية كي تبرز هذه الحقيقة ناصعة على نحو لا يرقى إليه الشك. وليس من الإنصاف أيضاً إظهار «حماس» وكأنها مجرد حلقة في تنظيم عالمي تحركه دوافع دينية عقائدية بأكثر مما تحركه مشاعر وطنية أو حسابات عقلية، أو جزء من مشروع عالمي لا تملك أدوات توجيهه أو السيطرة عليه وبالتالي فليس في وسعها سوى أن تتحول إلى أداة في يد من يملكون السيطرة والتوجيه. صحيح أن «حماس» تنتمي إلى تيار إسلامي أوسع قد يكون له مشروعه الخاص على الصعيد العالمي، لكن ذلك لا ينفي خصوصية التنظيم كفصيل أفرزه واقع الاحتلال الإسرائيلي وحوله إلى رافد أساسي من روافد حركة التحرر الوطني الفلسطينية. وصحيح أيضاً أن تجربة «حماس» في ممارسة السلطة والعلاقات الدولية بمعناها الواسع تبدو محدودة إذا ما قورنت بتجربة «فتح» وبعض الفصائل الفلسطينية الأخرى، غير أن الإنصاف يقتضي أن نسلم لها بدرجة عالية من النضج عكسه خطابها السياسي في الآونة الأخيرة، وبالذات منذ انفرادها بتشكيل الحكومة الفلسطينية الحالية في آذار (مارس) الماضي.

ولأن «فتح» و«حماس» يشكلان الثقل الرئيسي لحركة التحرر الوطني في بلد محتل لا يزال طريقه نحو الاستقلال طويلاً ومحفوفًا بالمخاطر على نحو غير مسبوق في تاريخ حركات التحرر الوطني، فإن اندلاع الصراع بينهما إلى درجة الاقتتال في هذه المرحلة البالغة الحساسية يبدو أمراً عبثياً من شأنه أن يثير غضب واشمئزاز وحنق الكثيرين ممن لا يعنيهم سوى انتصار قضية عادلة وحصول الشعب الفلسطيني على حقه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة. ولوضع العلاقة بين هذين الفصيلين الكبيرين في سياقها الصحيح، علينا أن ندرك حقيقة أساسية وهي أن موقف «حماس» من قضية الاعتراف ب”إسرائيل” أو بالمبادرة العربية هو مجرد ذريعة لإخفاء الفشل في بناء موقف تفاوضي أكثر قدرة على استخلاص الحقوق الفلسطينية وبالتالي ليس هو السبب الحقيقي وراء الصراع الدائر بينهما. ومن الواضح أن الإشارات الصادرة عن “إسرائيل” في هذه الأيام تشير جميعها إلى أن ليس لديها ما تقدمه كأساس لتسوية مقبولة، سواء من «حماس» أو من «فتح»، وأن لها مصلحة أكيدة في تعميق الصراع بين الفصيلين الكبيرين وتحميلهما معاً مسؤولية فشل مشروع الدولة الفلسطينية بعد تصفية المقاومة تصفية تامة. وأحيل من لا يريد الاقتناع بهذه الحقيقة إلى مقال كتبه الدكتور موشي شارون، أستاذ التاريخ الإسلامي في الجامعة العبرية ومستشار مناحيم بيغن السابق للشؤون العربية، ونشرته صحيفة «جيروزاليم بوست» يوم 10 تشرين الأول (أكتوبر) تحت عنوان «التفاوض في البازار negotiating in the bazaar ».

يقول شارون إن الشرق الأوسط بازار تحترم فيه الاتفاقيات «حين تفرض وليس حين توقع»، ويعتقد أن الطرفين العربي والإسرائيلي لا يساومان على نفس السلعة. فبينما تبحث “إسرائيل” «مخلصة»، في رأيه، عن سلام مبني على القبول بها كدولة يهودية في المنطقة لا هم للعرب والمسلمين سوى «تدمير هذه الدولة وإقامة دولة فلسطينية (عربية) مكانها والتخلص من اليهود». كما يعتقد أن العرب يتصورون، عند ممارستهم لديبلوماسية البازار، أنهم يملكون سلعة السلام ومن ثم يحاولون رفع سعرها إلى أقصى حد، وأن الطرف الذي يفصح عن نواياه أولاً يصبح معرضاً لخسارة كل شيء. لذلك ينصح البروفيسور شارون حكومة “إسرائيل” بتبني استراتيجية تفاوضية تقوم على عشر قواعد:

القاعدة الأولى: عدم المبادرة بتقديم أي مقترحات وترك الخصم يطرح ما عنده أولاً.

الثانية: الإيحاء بأن ما يطرحه الخصم لا يستجيب لمتطلبات الحد الأدنى حتى لو تطلب الأمر الانسحاب من المفاوضات مئة مرة، «فالزبون المناكف هو الذي يحصل دوماً على أفضل سعر».

الثالثة: عدم التعجل في طرح مقترحات مضادة وترك الخصم يعدل من مقترحاته تحت الضغط العصبي، «لأن في التأني السلامة وفي العجلة الندامة».

الرابعة: تجهيز خطط تفصيلية تحدد فيها الخطوط الحمراء بدقة والتعامل مع ما يطرحه الخصم قياساً عليها.

الخامسة: تجنب السير في اتجاه الخصم لمقابلته عند منتصف الطريق والاستعداد للرد على تعنته.

السادسة: تجنب «الصياغات والأفكار» الخلاقة، لأن العرب أساتذة لسان يمتلكون فنون التلاعب بالكلمات، وعدم نسيان أن لغة السوق هي الدولار والسنت.

السابعة: إغراق الخصم بالتفاصيل كي لا يُمنح الفرصة للتهرب من أو تأجيل قضايا أساسية بدعوى أنها ثانوية.

الثامنة: تجنب المواقف العاطفية «لأن القبلات والأحضان لا تعبر عن حقيقة المشاعر أو السياسة المتبعة».

التاسعة: عدم الاستسلام للمقولات النمطية الموروثة من قبيل «الشرف العربي» وغيرها من المأثورات الذائعة حتى لا يستغل الخصم أي ضعف أو ميل للأنثروبولوجيا لمصلحته.

العاشرة: الإيمان بأن الربح هو الغاية، وأن كل مكسب يحصل عليه المفاوض الآن يمكن استخدامه كذخيرة في «الجولات المقبلة».

ويختتم البروفيسور مقاله مؤكداً أن هذا الجزء من العالم لم يتعود على النتائج السريعة لأنه يؤمن بأن «في العجلة الندامة».

وتعود أهمية مقال البروفيسور شارون، في تقديري، إلى أنه يعكس حقيقة مزاج عام سائد حاليا في “إسرائيل” يتجه نحو التشدد وينطلق في رؤيته لمستقبل التسوية من قناعة تامة بأن العرب هم المسؤولون عن فشل العملية السياسية وأنهم غير راغبين في السلام أصلاً. وإذا صح هذا الاستنتاج، وأظن أنه صحيح، فعلى الفلسطينيين والعرب أن يتوقعوا أنهم سيواجهون على طاولة المفاوضات في المرحلة المقبلة، بافتراض أن “إسرائيل” ستقبل الذهاب إليها، موقفاً تفاوضياً إسرائيلياً أكثر تشدداً وصلابة من كل ما عرفناه منها حتى الآن، كما سيجدون أنفسهم إن آجلاً أو عاجلاً أمام حائط مسدود إن هم ذهبوا للتفاوض من دون استراتيجية موحدة. وأظن أنه أصبح من الواضح تماماً أن التحركات الأميركية التي تجري منذ فشل العدوان على لبنان، والتي تحاول تسويق فكرة استعدادها للمشاركة في إحياء عملية السلام مع قوى الاعتدال وبعد عزل قوى التطرف في المنطقة، هي جزء من استراتيجية أميركية – إسرائيلية تستهدف إضعاف الموقف التفاوضي العربي بتحويل الصراع مع “إسرائيل” إلى صراع فلسطيني – فلسطيني وعربي – عربي وعربي – إسلامي.

من السهل على أي باحث أمين ومدقق في حقيقة المواقف العربية من عملية التسوية أن يكتشف أن الخلاف بين أطرافها يدور حول الوسائل وليس الأهداف، وأنه لا مكان بالتالي للتمييز بين معتدلين ومتطرفين. فالكل، بما فيهم «حماس»، جاهز لتسوية سلمية أساسها انسحاب “إسرائيل” إلى حدود 67 وإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة عاصمتها القدس الشرقية وتسوية مشكلة اللاجئين على أساس القرار 194 لعام 1949، وهي عناصر وردت جميعها في مبادرة بيروت العربية. قد يقول قائل إن «حماس» ترفض الاعتراف صراحة بمبادرة بيروت العربية وبالاتفاقات التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية، وهذا صحيح. لكن أحداً لم يسأل نفسه عن السبب الحقيقي لهذا الرفض ويقفز إلى استنتاجات تصب في خدمة دعاية إسرائيلية لها مصلحة في استخدام موقف «حماس» كذريعة وفي تسويقه كدليل على رغبة دفينة لتدمير “إسرائيل”. وينسى هؤلاء أو يتناسون أن “إسرائيل” لا تزال حتى الآن ترفض المبادرة العربية رفضاً قاطعاً كما ترفض أي حديث عن العودة إلى حدود 67.

من الواضح أن أطرافاً رسمية عربية عديدة لم تدرك بعد أن التفاوض أصبح علماً له قواعده وأصوله المستقرة، وأن بناء موقف تفاوضي قوي وصحيح يتطلب ضمن أشياء أخرى:

1- وجود تنوع في الآراء والاجتهادات قابل للتوظيف من خلال عملية متقنة لتوزيع الأدوار بين معتدلين ومتشددين.

2- إخفاء المواقف التفاوضية الحقيقية وعدم الكشف عن خطوطها الحمر والبدء بطرح أكثر المواقف تشدداً لزيادة هامش المناورة الذي يسمح للمفاوض بإظهار ما يكفي من المرونة للتكيف مع تطورات العملية التفاوضية.

3- امتناع صانع القرار عن التدخل في تفاصيل العملية التفاوضية أو التأثير على مسيرتها تجنباً لتقديم تنازلات مجانية في توقيتات غير ملائمة قد تشكل عبئاً على المفاوض الحقيقي.

4- الحرص على إشراك كل المؤسسات المعنية واستخدام الرأي العام عند الضرورة للتأثير على المفاوضات بما يخدم المواقف الوطنية.

في ضوء هذه القواعد المستقرة لأصول علم التفاوض، يصعب فهم عجز القيادة الفلسطينية عن استخدام وتوظيف حكومة «حماس» في بناء موقف تفاوضي يخدم الأهداف الوطنية الفلسطينية. فمن الناحية القانونية البحتة تعتبر منظمة التحرير الفلسطينية هي الجهة المسؤولة عن التفاوض مع “إسرائيل” ولا علاقة للفصائل الفلسطينية بهذا التفاوض حتى ولو كانت مشاركة في الحكومة. فكم من مرة شاركت في الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، أو حتى قادتها، قوى سياسية كانت رفضت اتفاقات كامب ديفيد أو معاهدة السلام مع مصر أو اتفاقية أوسلو من دون أن يشترط أحد عليها اعترافاً مسبقاً بأي من هذه الاتفاقات؟ ولا يوجد في الوقت نفسه ما يحول، على الصعيدين السياسي والقانوني، دون إعادة بناء وهيكلة منظمة التحرير الفلسطينية لتصبح معبرة تماماً عن خريطة ومو

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات