معسكر الهول في سورية يشهد على مأساة اللاجئين الفلسطينيين في العراق
كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية عشرة ليلاً حين غادرنا دمشق متجهين إلى منطقة الهول، في أقصى الشمال الشرقي لسورية. ففي تلك المنطقة التي تبعد 15 كيلومتراً عن الحدود السورية ـ العراقية؛ يوجد معسكر يقيم فيه أكثر من ثلاثمائة فلسطيني من لاجئي العراق، في ظروف شديدة التعقيد والبؤس.
إنهم لاجئون نزحوا بفعل عمليات القتل والإرهاب المنفلتة من عقالها في العراق، في ظل الاحتلال الأمريكي، وأُُرغموا على الفرار باتجاه الحدود الأردنية ـ العراقية في بداية العام الجاري.
وبعد أن أصرَّت الحكومة الأردنية على موقفها الرافض بالسماح لأولئك اللاجئين بالدخول إلى أراضيها والإقامة فيها إلى حين استقرار الأوضاع في العراق؛ أعلنت الحكومة السورية في العشرين من شهر نيسان (أبريل) الماضي، عقب لقاء الدكتور محمود الزهار وزير الشؤون الخارجية الفلسطيني مع الرئيس السوري بشار الأسد؛ عن موافقتها على استقبالهم في أراضيها.
وفي أوائل شهر أيار (مايو) دخل أولئك اللاجئون الأراضي السورية في تسع حافلات تحت إشراف الوكالة الدولية لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. واتجهت تلك الحافلات إلى معسكر كان قد تم بناؤه خلال حرب الخليج الثانية عام 1991 في منطقة الهول بمحافظة الحسكة، لاستقبال اللاجئين العراقيين الفارين من الحرب آنذاك، فيما يتسع هذا المعسكر لحوالي 20 ألف شخص.
مكتب الشتات
حينما اتصلتُ (مراسل المركز الفلسطيني للإعلام) بمكتب الشتات، التابع لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، للتزود بمعلومات عن اللاجئين الفلسطينيين في معسكر الهول قبل الذهاب إلى المعسكر لإعداد تقرير عن أوضاع المقيمين فيه وأحوالهم المعيشية؛ أخبرني “أبو الحسن” المسؤول عن متابعة ملف شؤون هؤلاء اللاجئين؛ بأنّ هناك سيارة ستنطلق ليلاً لنقل مؤن غذائية إلى اللاجئين في المعسكر المذكور بمناسبة شهر رمضان، مبدياً ترحيبه باصطحابي في هذه الرحلة التي استغرقت أكثر من عشر ساعات، تم خلالها عبور صحراء سورية من أقصى جنوبها الغربي إلى أقصى شمالها الشرقي.
أما سبب الاتصال بـ “حماس” دون غيرها من الأطراف الفلسطينية للتزود بالمعلومات عن اللاجئين المقيمين في “الهول”؛ هو كون هذه الحركة أكثر الأطراف الفلسطينية حرصاً على متابعة ملف اللاجئين الفلسطينيين في العراق، إضافة إلى أنّ “حماس” هي الطرف الفلسطيني الوحيد الذي يقوم بزيارات دورية لمعسكر “الهول” من أجل تقديم المعونات المادية والمعنوية.
وفي الطريق؛ أخذ “أبو الحسن”، وهو شاب في الثلاثينيات من عمره، يحدثني عن معاناة اللاجئين المقيمين في “الهول”، وقال لي “مؤكد أنك سمعت الكثير وقرأت الكثير عن النكبة التي حلّت بشعبنا عام 1948، غير أنك، لم تشاهد تلك المأساة لأنك لم تكن مولوداً بعد، ولكنّ زيارتك إلى معسكر الهول ستتيح لك أن تشاهد بأم عينك الظروف المشابهة للظروف التي عاشها شعبنا أيام النكبة”.
“أبو الحسن” والذي يزور المعسكر مع بداية كل شهر لنقل المؤن الغذائية إلى اللاجئين في “الهول”، والاطِّلاع على أوضاعهم ونقل مطالبهم إلى الجهات المعنية؛ لم يُخفِ عتبه الشديد على وسائل الإعلام، وخاصة الفلسطينية منها، بسبب عدم قيامها بتغطية أوضاع اللاجئين في المعسكر، على نحو يتناسب وحجم معاناتهم ومأساتهم.
معسكر الهول
مع ساعات الصباح، عبرنا بوابة معسكر الهول، حيث كتل الخيام المتراصة بلونها الشاحب، وشوادرها المتهدلة وسط الغبار الصاعد من الأرض، وقد بدت وكأنها مذعورة خائفة تحت قبة السماء التي مزقت زرقتُها غيوم الخريف الرمادية.
أطلق سائق الحافلة “زموراً” متقطعاً، وكأنها إشارة بأنّ حافلة المؤن قد وصلت، فأخذ الأطفال والشبّان والشيوخ يتسللون إلى خارج الخيام متجهين إلى الحافلة وعلامات الفرح بادية على محياهم. اندفع “أبو الحسن” نحوهم مبتسماً ليصافح عشرات الأيادي التي مُدّت باتجاهه. وبعد ذلك بدأ “أبو الحسن” بتوزيع المواد الغذائية المخصصة لشهر رمضان، وكان نصيب كل عائلة لترين من الزيت النباتي، و2 كيلوغرام من سكر، ونصف كيلوغرام من الشاي، وكيلو من الحليب الجاف، وعلبة جبن كبيرة، وعلبة “مرتديلا” كبيرة، ولتر زيت زيتون، ونصف كيلو زيتون، وكيلو من كل من العدس والبرغل والحمص والفاصولياء والفريكة، إضافة للمحارم وفوط الأطفال والملح والمنظفات وغير ذلك.
وبعد أن أدى وفد “حماس” وحشد غفير من اللاجئين صلاة الظهر في المسجد الذي شيّدته الحركة في المعسكر مؤخراً؛ غادر الوفد عائداً إلى دمشق، بينما بقيت أنا والمصوّر في المعسكر لنعيش ساعات مع اللاجئين الفلسطينيين في هجير الصحراء وحرّها اللافح.
الأطفال وتداعيات العزل والحرمان
بالقرب من الخيام، كانت تقوم بعض الغرف، من بينها غرفة خصصت كـ “روضة للأطفال”. كان باب هذه الغرفة مفتوحاً والمشرفة ترسم أشكالاً على السبورة، استأذنتها بالدخول، وما إن ولجت حتى بدأ الأطفال بالبكاء والعويل، فخرجتُ من الغرفة. لحقتْ بي المشرفة، وأخبرتني بأنّ الأطفال يخافون من الأشخاص الغرباء، وذلك كإحدى تداعيات الحياة القاسية والصعبة وظروف الحرمان والعزل التي يعيشونها في معسكر الهول، وقبل ذلك في معسكر “طريبيل” على الحدود العراقية ـ الأردنية.
ولفتت المشرفة؛ والتي هي واحدة من اللاجئين المقيمين في معسكر الهول، إلى أنّ سلوك الأطفال واستجاباتهم ليست سوية مقارنة مع الأطفال في الخارج، “فهم يخافون كثيراً، كما أنهم يميلون إلى الانطواء، واستجاباتهم بطيئة”، مضيفة أنّ “وسائل التربية والترفيه والرياضة معدومة في المخيم، كما أنّ المفوضية العليا للاجئين باتت تُغفل وجبات الحليب المخصصة للأطفال، أما وسائل التربية والترفيه والتعليم والرياضة؛ فهي معدومة، وقد طالبنا المفوضية العليا لشؤون اللاجئين بتأمينها، ولكن لا حياة لمن تنادي”.
ورداً على سؤال حول ماهية المطلوب لكي يستعيد الأطفال صحتهم النفسية؛ قالت “لا يمكن بحال من الأحوال أن يستعيد هؤلاء الأطفال صحتهم النفسية ما داموا يعيشون في معسكر مغلق، يجب على الأطراف المعنية، وفي مقدمتهما المفوضية العليا لشؤون اللاجئين ووكالة “الأونروا”؛ السعي بشكل جاد وحثيث لإخراج المقيمين من هنا وتمكينهم من العيش في المدن”.
مياه آسنة للشرب والغسيل
تطوَّع أحد الشبّان، ويدعى إيهاب التيم، وهو في أواخر العشرينيات من العمر، بمرافقتي خلال تجوالي داخل المعسكر ليطلعني على المرافق العامة.
دورات المياه في المعسكر هي عامة، منها دورات مخصصة للنساء وأخرى مخصصة للرجال، ولأنها لم يتم إنشاؤها وفق متطلبات الشروط الصحية، من جهة العمران وتصريف المياه؛ فإنها باتت مأوى للجرذان والحشرات، وتفوح منها رائحة لا يحتملها بشر، وبالقرب منها أقيمت “حمامات” للاستخدام الشخصي.
المياه في المخيم نوعان؛ مياه للشرب، وأخرى للغسيل والاستحمام. أما مياه الشرب، والتي توزعّها خزاناتٌ كبيرة الحجم على الصنابير الموضوعة بالقرب من الخيم؛ فهي مياه كلسية ولا تخضع بشكل دوري للفحص المخبري للتأكد من خلوها من الجراثيم والبكتيريا والميكروبات، وذلك على الرغم من شكوى اللاجئين في المخيم من التهابات في الجهاز الهضمي وآلام في الكلى. أما بالنسبة لمياه الغسيل؛ فإنّ لها رائحة كريهة وذات لون يميل قليلاً إلى الخضرة والإصفرار.
وأكثر ما يثير الفزع والرعب في المعسكر؛ هو الأفاعي والعقارب المنتشرة بكثافة في المكان، هذه الكائنات التي كثيراً ما تدخل الخيام لتمارس فطرتها في اللسع واللدغ، وفي الغالب يكون الضحية طفلاً صغيراً.
كلمات مفعمة باللوعة والألم
بعد أن سرنا قرابة الساعتين في المخيم؛ دعاني مرافقي إيهاب للدخول إلى خيمته للاستراحة قليلاً. في هذه الخيمة تقيم معه، إضافة لزوجته وطفليه؛ والدته “أم أيمن” وعمته “أم وليد”.
العمّة “أم وليد”، وهي امرأة في الستين من عمرها، بدت أكثر الحاضرين رغبة في الحديث، سألتها عن أكثر من يثير قلقلها، فقالت “إني قلقة جداً على زوجي وابني المقيمين في بغداد، واللذين لم يتمكنا من مغادرة العراق، فاللاجئون الفلسطينيون في العراق هم مستهدفون من قبل الاحتلال الأمريكي والعصابات”، ثم أخذت تقصّ عليَّ بعض ما شاهدته قبل مغادرتها العراق من عمليات قتل وتنكيل التي يتعرض لها الفلسطينيون هناك.
وحينما غصّت الخيمة بالزوار الوافدين للجلوس معنا؛ أتاحت “أم وليد” للحاضرين المجال ليدلي كلٌ بدلوه، وكانت كلماتها المفعمة باللوعة والألم على مصير زوجها وابنها وأقاربها في بغداد، قد حدّدت مسار حديث الجلسة، والذي تمحور حول أساليب القتل والتنكيل والقمع التي تُمارس بحق الفلسطينيين على أيدي المحتلين الأمريكيين وعناصر العصابات المسلحة.
وكان تقرير أصدرته مؤخراً الجمعية الفلسطينية لحقوق الإنسان في العراق “راصد”؛ قد أظهر أنّ عدد الاعتداءات على اللاجئين الفلسطينيين في العراق منذ بداية الاحتلال الأمريكي (9 نيسان/أبريل 2003) قد بلغ 662 اعتداء بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة، نجم عنها استشهاد 168 فلسطينياً ظلماً بينهم خمس نساء وسبعة أطفال. ويشير تقرير “راصد” إلى أنّ غالبية الجثث تظهر عليها آثار التعذيب والتنكيل وتقطيع الأجساد، لافتاً الانتباه إلى أنّ عدد المفقودين بلغ تسعة، بالإضافة إلى اعتقال أكثر من 68 فلسطينياً في سجون القوات الأمريكية وسجون الداخلية العراقية التي يمارس فيها أشد أنواع التعذيب الجسدي، دون السماح لذوي المعتقلين بالمراجعة أو توكيل محامين أو الاستفسار عن التهم الموجة لأبنائهم.
ويرجع تاريخ الوجود الفلسطيني في العراق، إلى عام 1948، عندما شكل الجيش العراقي في فلسطين إبان النكبة ما يعرف بـ “فوج الكرمل الفلسطيني”، من أبناء بعض القرى جنوبي مدينة حيفا والمثلث، وقام بنقل عائلاتهم في صيف 1948 إلى العراق.
وتعود أصول اللاجئين إلى مناطق مختلفة من فلسطين، أهمها أجزم، وعين غزال، وجبع، والصرفند، والمزار، وعارة، وعرعرة، والطنطورة، والطيرة، وكفر لام، وعتليت، وأم الزينات، وأم الفحم، وعين الحوض، ويقدر عدد الذين وصلوا العراق في 1948 بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف نسمة.
وقد تولت بعد ذلك وزارة الدفاع العراقية، رعاية وإدارة شؤون الفلسطينيين منذ قدومهم إلى عام 1950، حيث تم إسكانهم أول الأمر في معسكرات الجيش في الشعيبة في البصرة، وبعض النوادي في الموصل، وفي المحافظات العراقية (أبو غريب والحويجة)، وبعض المدارس والمباني الحكومية.
وقد استمر الحال هكذا حتى عام 1958، عندما جرى الاتفاق على تكفل الحكومة العراقية برعاية الفلسطينيين، مقابل إعفاء العراق من التزامات مالية مع
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

مسؤولون بالبرلمان الأوروبي يطالبون إسرائيل بإنهاء حصار غزة فورا
المركز الفلسطيني للإعلام طالب قادة العديد من الجماعات السياسية في البرلمان الأوروبي اليوم السبت، إسرائيل بالاستئناف الفوري لإدخال المساعدات...

جراء التجويع والحصار .. موت صامت يأكل كبار السن في غزة
المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إنّه إلى جانب أعداد الشهداء التي لا تتوقف جرّاء القصف الإسرائيلي المتواصل، فإنّ موتًا...

إصابات واعتقالات بمواجهات مع الاحتلال في رام الله
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام أُصيب عدد من الشبان واعتُقل آخرون خلال مواجهات اندلعت مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في عدة بلدات بمحافظة رام الله...

القسام ينشر مقطع فيديو لأسيرين إسرائيليين أحدهما حاول الانتحار
المركز الفلسطيني للإعلام نشرت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، السبت، مقطع فيديو لأسيرين إسرائيليين ظهر أحدهما بحالة صعبة وممددا على الفراش....

جرائم الإبادة تلاحق السياح الإسرائيليين في اليابان
المركز الفلسطيني للإعلام في خطوة احتجاجية غير مسبوقة، فرضت شركة تشغيل فنادق في مدينة كيوتو اليابانية على الزبائن الإسرائيليين توقيع تعهد بعدم التورط...

سلطة المياه: 85 % من منشآت المياه والصرف الصحي بغزة تعرضت لأضرار جسيمة
المركز الفلسطيني للإعلام حذرت سلطة المياه الفلسطينية من كارثة إنسانية وشيكة تهدد أكثر من 2.3 مليون مواطن في قطاع غزة، نتيجة انهيار شبه الكامل في...

تقرير: إسرائيل تقتل مرضى السرطان انتظارًا وتضعهم في أتون جريمة الإبادة الجماعية
المركز الفلسطيني للإعلام حذر المركز الفلسطيني لحقوق الانسان، من إصرار دولة الاحتلال الاسرائيلي على الاستمرار في حرمان مرضى الأورام السرطانية من...