الإدراك الإسرائيلي لحدود القوة

تردد في الإعلام الإسرائيلي خلال الآونة الأخيرة الحديث حول ضرورة الدخول في مفاوضات مع الفلسطينيين لتحديد مسار واضح للتسوية السلمية وربما لتوسيع إطار هذه التسوية إقليمياً ليشمل أيضاً سوريا (هضبة الجولان) ولبنان (مزارع شبعا)، على أن يتم ذلك دون شروط مسبقة وبأسرع وقت. وتأتي هذه الدعوة بعد إخفاق القوات الإسرائيلية في مهمتها التي حددتها لنفسها وهي تصفية معظم كوادر “حزب الله” والقضاء على قياديي الحزب وإبعاد مقاتلي المقاومة إلى نهر الليطاني وشل قدرات المقاومة اللبنانية وتحرير الجنديين الإسرائيليين. ولم تحقق المؤسسة العسكرية الصهيونية أياً من هذه الأهداف، فكل ما حصل عليه الإسرائيليون في نهاية الأمر هو قرار 1701 الذي وصفه “ران بيرتس” (معاريف 14/8/2006) بأنه ليس إنجازاً، فهو “حصيلة اقتراحات رفضها أولمرت قبل العملية”. ونشرت “هآرتس” مقالاً بعنوان “حرب لبنان ستدخل كتب التاريخ كمثل عن نهاية وهم أسطورة الجيش الذي لا يقهر” كتبه “رؤبين بدهستور” قال فيه “إن زئيف شيف -أهم معلِّق عسكري إسرائيلي صرح بأن إسرائيل تلقت صفعة في هذه الحرب السادسة ولكنها كانت في واقع الأمر ضربة قاضية، ونحن لا زلنا جاثمين على الأرض في شبه إغماءة محاولين فهم ما حدث لنا… نحن لسنا أمام فشل عسكري وحسب، نحن أمام فشل استراتيجي لم تتضح بعد تبعاته وإسقاطاته السلبية بعيدة المدى”.
ويمكن إيجاز معظم جوانب هذا الفشل العسكري الإسرائيلي فيما يلي:
1- نظرية الأمن الإسرائيلية تنطلق من وضع إسرائيل الاستيطاني، وهو أنها دولة محاصرة تواجه السكان الأصليين ولذا عليها أن تحتفظ بمقدرة عالية على الردع. ولكن حدث العكس في الحرب الأخيرة. وهذا ما يؤكده “ران بيرتس”، إذ يقول إن الأزمة الرئيسية في إسرائيل هي “الضربة الشديدة التي تلقاها الردع الإسرائيلي. من يدعي أن الأمر لم يكن كذلك يواصل ثقافة الكذب على الذات” (معاريف 14/8/2006). وقد تسبب فشل الردع الإسرائيلي في هز ثقة الشعب الإسرائيلي بنفسه وأصبحت تنادي أصوات عديدة بضرورة الاعتراف بالفشل والأزمة قبل فوات الأوان لأن إسرائيل قد فقدت مصداقيتها حتى في التقارير العسكرية عن الخسائر، وأصبح الإسرائيليون يستمعون إلى وكالات الأنباء العربية والغربية لمعرفة الحقيقة.
2- تستند نظرية الأمن الإسرائيلية إلى عدة مفاهيم من أهمها نقل الحرب إلى أرض العدو، وقد أرادت المؤسسة العسكرية إنجاز هذا عن طريق الغارات الجوية المكثفة لعدة أسابيع، ولكنها لم تنجح واضطرت في نهاية الأمر إلى إرسال قوات برية تحملت خسائر كبيرة ولم تنجز شيئاً ذا بال. فصواريخ “حزب الله” استمرت في دك شمال إسرائيل بل والعمق الإسرائيلي ذاته، الأمر الذي اضطر أكثر من مليون مواطن إسرائيلي إلى ملازمة الملاجئ لأكثر من أربعة أسابيع. ولم تنجح أي قوة في نزع سلاح “حزب الله”، ولا يزال الجنديان الإسرائيليان أسيرين عند “حزب الله”.
3- من المفاهيم الأخرى مفهوم الضربة الإجهاضية المفاجئة التي تشل العدو في اللحظات الأولى للمعركة أو حتى قبلها. ما حدث هو العكس، إذ فوجئ العدو بقدرات “حزب الله” العسكرية وبشبكة الأنفاق التي جهزها ونوعية الأسلحة التي استخدمها. ويرى زئيف شيف في مقاله “سلاح الجو لم يتغلب على صواريخ حماس البدائية… وانهزم أمام قوة مقاتلي حسن نصرالله”. يقول شيف “مفاجأة الحرب الثانية في لبنان كانت السلاح المضاد للدروع والطريقة التي استخدمه بها حزب الله”. (هآرتس 18/8/2006).
4- إسرائيل دولة استيطانية تعاني من أزمة سكانية، ولذلك لا يمكنها الاحتفاظ بجيش نطامي كبير، وبدلاً من ذلك تحتفظ بجيش نظامي صغير يشكل نواة لجنود الاحتياط الذين يعملون في المصانع والمكاتب ويشكلون عصب الاقتصاد الإسرائيلي ويُستدعون في حالات الطوارئ. ولذا تذهب العقيدة العسكرية الإسرائيلية إلى أن الحروب التي تدخلها إسرائيل لابد وأن تكون سريعة وخاطفة، فالحروب الطويلة ستنهك الاقتصاد الإسرائيلي، لأن غياب جنود الاحتياط سيوقف دولاب العمل! وقد تصور الإسرائيليون أن جيشهم يمكنه إنجاز المهمة الموكلة إليه في أسبوع، ولكن الحرب استمرت لمدة أربعة أسابيع وأدت إلى مقتل وإصابة العشرات من الجنود الإسرائيليين.
5- ترى المؤسسة العسكرية الصهيونية أنها لابد وأن تمتلك أدق المعلومات الاستخبارية، حتى يمكنها التحرك بسرعة وإنهاء الحرب في أقصر وقت. ولكن ظهر أن هذا كان مجرد سراب، فلحقت الخسائر الفادحة بالقوات الإسرائيلية في ساحة القتال أثناء عمليات التوغل البرية في الجنوب اللبناني لأسباب عديدة منها نقص المعلومات. وبذلك سقطت الهالات التي كانت تحيط بالموساد والاستخبارات العسكرية وهذا ما أكده عميت كوهين في مقاله المعنون “الاستخبارات العسكرية تزعم أنها تعرف كل شيء عن حزب الله… والجنود فوجئوا بحصانة دفاعات المقاتلين”. فأشار إلى ما قاله أحد المسؤولين في الوحدة الإسرائيلية 8200 للتنصت: (في كل ما يتصل بنيات “حزب الله”، ونصرالله، وقدراتهما على الثبات، وخططهم بعيدة الأمد لم تكن لنا معلومات استخبارية عميقة قادرة متغلغلة. ولكن إذا كان يعتقد أحد أن الجهة الاستخبارية –على حد قوله- قادرة على التغلغل في عمق منظمة عصابات، فإنه غارق في الأوهام”. إن الأجهزة الاستخبارية لم تعد قادرة على الحفاظ على أمن إسرائيل ووجودها لأنها “تعيش على أمجاد الماضي ولا تزود بالبضاعة”. ويختم عميت كوهين مقاله بعبارة: “لا يمكن الإتيان بمعلومات عن كل شيء)، (معاريف 18/8/2006).
لكل هذا باتت الأقلام الإسرائيلية تنادى بضرورة التخلي عن فكرة أن الجيش الإسرائيلي هو المفتاح السحري للقضاء على المقاومة وانتفاضة التحرير. ففي مقالة بعنوان “الجيش الإسرائيلي لا يستطيع الانتصار في حرب صغيرة مع الفلسطينيين… وعلينا تغيير السياسة” يرى جدعون سامت أن “عهد الاعتماد على الجيش كحل سحري للمشكلات المتعلقة بالأمن القومي” قد انتهى، وأن “الجيش لا يستطيع الانتصار على حركة التحرر الوطني الفلسطينية”. وفي نفس المقالة أكد سامت أن المفاوضات الحقيقية لا يمكن أن تتم إلا مع الفلسطينيين، وحذر من تعليق المفاوضات والارتكاز الأوحد على الولايات المتحدة “لأنه إذا كانت الولايات المتحدة تطلق النار في العراق، فإننا –أجل مع إصبع جاهزة على الزناد– سنقوم بالتفاوض هنا”. وهذه إشارة خفية إلى أن إسرائيل كانت تحارب بالنيابة عن الولايات المتحدة. بل إن “سامت” يقترح أن “تبدأ إسرائيل اتباع نهج جديد نحو تعزيز العلاقة مع أوروبا” على حساب الإدمان على الاتصالات الهاتفية الآتية من جورج وكوندوليزا، (هآرتس 16/8/2006).
ويقارن الكاتب الصحفي الإسرائيلي “رؤوبين بدهتسور” في مقاله بين الانتصارات التي حققتها الدولة الصهيونية في حروبها ضد الدول العربية في الماضي، ولاسيما حرب 67، وبين “الهزيمة المؤلمة” التي لحقت بها بعد ما يقرب من أربعين عاماً من الاحتفاء بأمجاد النصر وسطوة القوة، أي أنها عادت إلى المربع رقم واحد، وأصبح وجودها مهدداً تماماً. ويصف “بدهتسور” هذه المفارقة فيقول: “مثلما أفضت حرب الأيام الستة إلى تغير استراتيجي في الشرق الأوسط وتكريس مكانة دولة إسرائيل كدولة إقليمية عظمى، قد تؤدي حرب لبنان الثانية إلى عملية معاكسة. فشل الجيش الإسرائيلي في القتال يقوض صورة الدولة القوية الجبارة التي تمتلك جيشا ضخماً وقوياً ومتطوراً قادراً على ضرب أعدائنا وتوجيه ضربات ساحقة لهم إن تجرؤوا فقط على التحرش بها”، (هآرتس 16/8/2006).
المؤسسة العسكرية الإسرائيلية كانت هي دائماً السلاح الأقوى في فرض تسويات ومخططات توسعية بواسطة حروبها وعملياتها العدوانية من الوحدة 101 وضرب المفاعل النووي في العراق وصولاً إلى احتلال الضفة الغربية وغزة وفرض الحصار الاقتصادي والعسكري عليها.
ويرى “بدهتسور” أن ما حدث في لبنان كان هزيمة مؤلمة على كافة المستويات، وأنها قد عززت الثقة بالنفس لدى الجماهير والقيادات السياسية في مصر وسوريا وفلسطين، لأنها أكدت بشكل لا يقبل الجدل وهْم قوة الجيش الإسرائيلي. وأضاف قائلاً أن “معركة بنت جبيل ستكون في تراث وتقاليد مقاتلي “حزب الله” مثل ستالينجراد لبنانية (وستالينجراد هي المدينة التي انكسرت عندها الجيوش النازية فهي رمز نجاح المقاومة السوفييتية في صد القوات النازية الغازية). أما بالنسبة لإسرائيل فستكون معركة بنت جبيل تذكاراً مؤلماً لفشل الجيش الإسرائيلي في الحرب”. ويبين “بدهتسور” أن الدولة الصهيونية تخصص ميزانية تقدر بـ11 مليار دولار سنوياً، علاوة على أن 15% من الناتج القومي الخام يخصص للأمن سنوياً، وهذه الميزانية ليست ثابتة ونهائية، وإنما هي في تزايد مستمر، وهي تقترب من 15 ضعفاً من ميزانية الدفاع اليابانية وثلاثة أضعاف ميزانية دفاع الولايات المتحدة، بالنسبة إلى عدد السكان بطبيعة الحال، (هآرتس 16/8/2006). ورغم كل هذا كان الإخفاق الكامل في الحرب السادسة، وهنا بدأت المؤسسة الصهيونية العسكرية الحاكمة تتحدث عن المفاوضات بعد ارتطامها بحدود القوة الصلبة التي لا يمكن تجاوزها. ولكن هذا الإدراك ليس ثمرة الإعلام أو الحديث العقلاني الهادئ، وإنما هو ثمرة ما لحق بها من خسائر مادية وبشرية ومعنوية في ساحة القتال. إن ما سيدفعها إلى مائدة المفاوضات، ليس الوساطة الأميركية والاعتدال العربي وإنما المقاومة والجهاد.
والله أعلم
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

العفو الدولية تطالب بخطوات جادة لوقف جرائم إسرائيل في غزة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام دعت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية أنييس كالامار، جميع الجهات الدولية الفاعلة، وفي مقدمتها الاتحاد...

كتائب القسام تعلن عن كمين مركب لقوة هندسة صهيونية شرق خانيونس
المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، الاثنين، تنفيذ كمين مركب لقوة هندسة صهيونية وإيقاع أفرادها بين قتيل وجريح...

حماس تُثمن حصار اليمن الجوي على دولة لاحتلال
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام ثمّنت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إعلان القوات المسلحة اليمنية فرضها حصاراً جوياً شاملاً على كيان الاحتلال...

القوات المسلحة اليمنية تُعلن فرض حصار جوي شامل على إسرائيل
صنعاء – المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت القوات المسلحة اليمنية، مساء اليوم الأحد، فرض حصار جوي على كيان الاحتلال الإسرائيلي، رداً على التصعيد...

حماس تثمن إعلان اليمن فرض حصار جوي على كيان الاحتلال
المركز الفلسطيني للإعلام ثمّنت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) إعلان القوات المسلحة اليمنية فرضها حصاراً جوياً شاملاً على العدو الصهيوني، رداً على...

منظمات أممية تعلن رفضها الخطة الإسرائيلية لتوزيع المساعدات بغزة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام رفضت منظمات أممية وغير حكومية، المشاركة في الخطة التي يستعد الاحتلال الإسرائيلي لتنفيذها في قطاع غزة بخصوص توزيع...

الاتصالات تُحذر من انقطاع الخدمة جنوب ووسط قطاع غزة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت شركة الاتصالات الفلسطينية، مساء اليوم السبت، أنها ستُنفذ أعمال صيانة اضطرارية على أحد المسارات الرئيسية في قطاع...