الأربعاء 26/يونيو/2024

فلسطينيو 1948 ما بين التطويع والأسرلة

فلسطينيو 1948 ما بين التطويع والأسرلة
منذ قيامها، استخدمت الدولة العبرية وسائل عديدة ما بين “ثقافية” – “تعليمية” – “إعلامية” – وتفتيتية (على أسس طائفية وغيرها) وأخرى أمنية ضد فلسطينيي الـ 48 في مسعى واضح منها لتحقيق واحد من حلين: إما إجبارهم على الرحيل عن أرضهم أو احتواؤهم وتطويعهم. في سياق ذلك، لجأت إسرائيل -ضمن أمور أخرى- لتشويه تاريخهم السياسي في محاولة لوضعهم في خدمة السياسة الإسرائيلية، بعد فشل الترهيب بهدف إخلاء الأرض مستخدمة كل الأساليب. ومع عدم الاهتمام العربي بفلسطينيي الـ 48 وتجاهلهم حتى إعلاميا، وجد هؤلاء أنفسهم وحيدين بين المطرقة والسندان. فمن جهة، كانت هناك الإغراءات المادية، ومن جهة أخرى مورست عليهم الضغوط الأمنية وشاركت فيها كل الأذرع المخابراتية للدولة الناشئة في العام 1948.

وبعد 58 عاما من النضال غير المرئي إجمالا، وضمنه النضال السري، لفلسطينيي الـ 48، تحولت المواجهة بين الدولة العبرية، ممثلة بأذرعتها المخابراتية، وبين فلسطينيي الـ 48 إلى صراع الأضداد، خاصة أن كل القوانين والسياسات العنصرية التي استهدفتهم،خلال فترة الحكم العسكري وما بعده، لم تحسم الصراع. وفي هذا النطاق، أدركت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أنها فشلت في استئصال الرؤية الوطنية والقومية لفلسطينيي 48، بل إن إسرائيل التي “لم تمنحهم فرصة للتعايش الطبيعي بل حاصرتهم في كانتونات طالما عانى منها اليهود في أوروبا، ساعدت من دون أن تدري بحفاظهم على هويتهم الفلسطينية بل وتمسكهم بها، حتى تحولت النكبة من مجرد ذكرى مؤلمة إلى واقع حياتي معاش يتجلى في كيفية الحفاظ على الأرض”. ويشكل هذا الاقتباس الأخير خلاصة كتاب إسرائيلي صدر بداية سبتمبر وأثبتت (كما غيره من دراسات عديدة) أن الدولة العبرية فشلت فشلا ذريعا، منذ زرعها في العام 1948، بتطويع فلسطينيي الداخل و”أسرلتهم” (باستثناء بعض النتوءات الشاذة)رغم الموارد الهائلة التي خصصت لذلك منذ تأسيسها. وفي هذا النطاق، يضيف مؤلف الكتاب الدكتور هليل كوهين (الأستاذ بالجامعة العبرية في القدس والمختص في الشؤون العربية في كتابه المعنون “العرب الجيدون”) مستندا إلى وثائق سرية من أرشيف المخابرات الإسرائيلية أسهمت في إلقاء الضوء على المسيرة السياسية والاجتماعية لفلسطينيي 48 تحت الحكم العسكري الممتد من 1948 الى 1966، يضيف قائلا: “.. المخابرات وتجنيد العملاء والمتعاونين ممن عرفوا بالعرب الجيدين.. كلها وسائل غير إنسانية استخدمتها الدولة العبرية في مسعى منها لاحتلال وعي الفلسطينيين والتحكم فيهم أمنيا وسياسيا”، مشيرا إلى “صمود جيل 48” مؤكدا أن “الارشيفات تكشف مدى قوة التمرد لديهم من ناحية التصدي للدولة أو لأفعالها، حتى في مجال الرواية والذاكرة الجماعية رغم الرقابة القاسية، بما فيها ملاحقة الشعراء الوطنيين كمحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد”.

إذن، هذا الكتاب، الأحدث لأستاذ جامعي إسرائيلي، يشكل تسجيلا (على قاعدة: وشهد شاهد من أهله) يستحق منا اليوم هذا التركيز. وإن كان عنوان الكتاب يوحي، من وجهة النظر الإسرائيلية، أن الفلسطيني و/أو العربي الجيد هو الذي يسعى للانخراط في الدولة العبرية ومهادنتها بحجة تأمين لقمة العيش والبقاء وتحصيل ما تتكرم عليه من الحقوق المدنية، فإن خلاصة الكتاب تؤكد طبيعة فهم العربي لليهودي المرابي، الذي يدير ظهره للآخر رغم خدماته وتعاونه اللامحدود. فحتى البعض الفلسطيني الذي سقط في الفخ الإسرائيلي لم يسلم من العقاب لمجرد كونه فلسطينيا. فقد صادرت الدولة أراضيه وحالت دون عودته إلى قريته بل إنها لم تلب أقل مطالبه الحياتية. وعلى صعيد مختلف، يعتبر الكتاب مسبة في حق كل واحد منا في دنيا العرب اعتاد ان يطلق تعبير “عرب إسرائيل” على فلسطينيي الـ 48 متناغما -طبعا بدون قصد- مع محاولات الصهيونية إلغاء الهوية الفلسطينية لهؤلاء! ففي الوقت الذي فشلت فيه الحكومات الإسرائيلية بتحويل الفلسطينيين إلى “عرب إسرائيل” بواسطة “إسكات الرواية العربية القومية لكل ما يتعلق بحرب 48” كما يقول هليل كوهين في كتابه، فإننا نرى كيف رسخت بعض مكونات الآلة الإعلامية العربية ما فشلت فيه إسرائيل وأجهزتها الاستخبارية من خلال إصرارها على تسمية فلسطينيي 48 بـ “عرب إسرائيل”.
بعد السنوات الطويلة من الصراع العربي الإسرائيلي وإرهاصاته اليومية التي لا تعد ولا تحصى، يأتي كتاب “العرب الجيدون” لينسجم مع تحذيرات سابقة لعدد من القادة الإسرائيليين الذين يؤمنون باستحالة التعايش السلمي مع الآخر، وهو ما دأب على التصريح به قادة إسرائيليون سرعان ما تتغير مواقفهم بعد خروجهم من الحكم. فها هو رئيس هيئة الأركان الأسبق موشيه يعلون، وفق ما نشرته صحيفة “هآرتس” العبرية في الثاني من يونيو/حزيران يعلن: “أنه في السابق تحدثنا عن الحاجة لكيّ وعي الفلسطينيين، وكيّه من خلال ممارسة قدر كبير من القوة، حتى يدركوا أن الإرهاب (المقاومة) ليس ناجعاً لهم”. وأضاف يعلون في مقابلته تلك الصحيفة: “إن هذا الكي أيضاً لم يكن مجدياً، وأن مصيرنا هو أن نحيا في حرب أبدية بلا نهاية”.

إذن، بوضوح لا لبس فيه، نرى كيف أن السياسة الإسرائيلية تجاه فلسطينيي 48 التي تأرجحت بين التكيف والملاءمة (سياسة التمييز تارة والدمج تارة أخرى) وبين الكبح والمواجهة، قد ساعدت في تحول فلسطينيي 48 إلى “قنبلة ديمغرافية” (من المنظور الإسرائيلي). وحين يتم “إنجاز” هذه الحقيقة الديموغرافية خلال العشرين سنة القادمة سنجد فلسطينيي 48 يتساوون عدديا مع الإسرائيليين، مسقطين ما كانت الدولة الصهيونية ترغب بأن تتميز به وهو “وجود إسرائيل كدولة يهودية خالصة”. وعليه، فإن الاعتراف بفشل تطويع فلسطينيي 48 يؤكد ليس فقط فشل السياسة الإسرائيلية القائمة على التمييز، بل يؤكد أيضا استحالة نجاح مفهوم الدولة اليهودية الخالصة، وهو ما أشارت إليه “هآرتس” في تعقيبها على قرار المحكمة العليا الإسرائيلية الذي حدد أن “فلسطينيي 48 هم مواطنون متساوون في الحقوق” في ضوء تمييز الدولة العبرية ضدهم. وكانت هآرتس قد أشارت في افتتاحيتها في 1/3/2006 إلى أن “الحياة في دولة وُصفت في قانونها الأساسي على أنها “دولة يهودية وديمقراطية” تحتاج، من حين لآخر، إلى اللجوء للمحكمة العليا التي تبحث من جديد في الأبعاد الحقيقية والتطبيقات لهذه الحياة في إسرائيل.. مضيفة “لكي تحافظ (إسرائيل) على دولة “يهودية وديمقراطية”، لا ضرورة لتفضيل يهود بواسطة منحهم موارد للتعليم، بل العكس. ذلك أن تفضيل المناطق اليهودية في ميزانيات التعليم يلحق الأذى بصورة الدولة، ويسبب حالة من الاحباط لدى الأقلية التي تشعر بالمهانة، وسوف تدفع بأبناء الأقليات الى ذراع التدين الاصولي” وغيره من أنواع التشدد. وهذا ما حدث… ويحدث.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات