الأربعاء 26/يونيو/2024

الجغرافيا السكانية في الميزان العسكري الجديد

الجغرافيا السكانية في الميزان العسكري الجديد

تحدث إستراتيجيون عسكريون على المستوى العالمي منذ سنوات عن سقوط الجغرافيا من الموازين العسكرية، وذلك بسبب تطور صناعة الصواريخ وتراجع دور الجندي الزاحف أرضاً لاحتلال مواقع العدو. وقد تمسك العرب كثيرا بهذا الحديث من أجل دحض ادعاءات “إسرائيل” بضرورة وجود حدود آمنة يمكن الدفاع عنها. قالوا إن على “إسرائيل” أن تنسحب من الأراضي التي احتلتها عام 1967 لأن الحدود الآمنة يمكن أن تتوفر فقط من خلال السلام وليس من خلال الأسلحة أو المساحة الجغرافية، فالصواريخ لا تعرف حدودا ولا تقف أمامها الجبال والوديان.

واضح أن الحرب في لبنان قد أثرت في التفكير الحربي الاستراتيجي لدى طرفي النزاع، وأعادت للبعد الجغرافي، والبعد الجغرافي السكاني بعض مكانتيهما. وجدت “إسرائيل”، مثلا، أن المنطقة الجغرافية العازلة حيوية في تعزيز نظريتها الأمنية القائمة على ضرورة خوض المعارك في أراضي الغير وتجنيب سكانها ويلات القصف الصاروخي. المنطقة العازلة تكون بلا فائدة أمام صواريخ بعيدة المدى أو متوسطة، لكنها يمكن أن تخدم أمام قصيرة المدى مثل الكاتيوشا؛ ووجد حزب الله أن كثافة البنيان أو انتشار القرى في الجنوب اللبناني تحول دون تقدم “إسرائيل” في الأماكن الجغرافية الخالية.

بسبب استغلال ميزات البنيان، لم يتمكن الطيران “الإسرائيلي” من الوصول إلى مواقع حزب الله العسكرية، وتمكنت قوات الحزب من امتصاص الغالبية الساحقة من الضربات الجوية. استطاع الحزب أن يحيّد الطيران “الإسرائيلي” من ناحية قصف الأهداف العسكرية، وتمكن من التغلب إلى حد كبير على القدرات الاستطلاعية الجوية والفضائية لـ “إسرائيل”. وضع هذا التكتيك العسكري لحزب الله المخطط الاستراتيجي “الإسرائيلي” في حيرة ما بين التطور التقني والتمسك بالأساليب القتالية القديمة، ووجد أنه لا يستطيع أن يعتمد على خيار واحد دون الآخر.

لا تتمكن “إسرائيل” من إقامة منطقة جغرافية عازلة في جنوب لبنان بسبب الطبيعة الجغرافية والتركيبة السكانية الماثلة أمامها، لكنها آخذة بالتفكير من جديد في كيفية ترتيب جغرافيا الضفة الغربية، وكيفية التعامل الجغرافي السكاني مع سوريا في الجولان. تحسب “إسرائيل” الآن حول ما يمكن أن يحدث فيما إذا تم تهريب أسلحة شبيهة بتلك التي لدى حزب الله إلى فلسطين.

يرى كتاب “إسرائيليون” الآن أن على “إسرائيل” أن تكثف حضورها السكاني في مناطق الحدود مع البلدان العربية بخاصة في غور الأردن والجولان. إنهم يرون ضرورة بناء مستوطنات على أنماط عسكرية جديدة قادرة على الصمود وامتصاص الضربات الصاروخية، وقادرة على مواجهة أي محاولة احتلال للأرض من قبل العدو. فشل الاستيطان الأمني في شمال فلسطين المحتلة، وشكل المستوطنون عبئا كبيرا على المجهود العسكري “الإسرائيلي” في الحرب الأخيرة، وكان على “إسرائيل” أن تخوض تجربة الفلسطيني الذي يحمل أمتعته لاجئا إلى مكان آخر. كان الاستيطان التقليدي متناسبا مع مستوى معارك قديم لم يعد قائما، ومن المطلوب أن يتلاءم مع التطور الجديد، ومع ما يمكن أن يتخيله المخطط العسكري من مفاجآت عسكرية لدى الطرف الآخر.

من المحتمل جدا أن “إسرائيل” تجد الآن سببا إضافيا للاحتفاظ بغور الأردن ومنعه عن الفلسطينيين في أي تسوية سياسية قد تطرأ، وذلك للإبقاء على عمق جغرافي يقي مراكزها السكانية من بعض الصواريخ، ولكي تطمئن إلى أن المناطق العازلة خالية تقريبا من السكان. يعطي غور الأردن “إسرائيل” عمقا يصل إلى سبعين كيلومترا في بعض المواقع، كما أن المنطقة خالية تقريبا من السكان. من المتوقع أيضا أن توسع “إسرائيل” من المستوطنات القائمة، وتزيد من أعدادها أيضا. كما أن النشاط الاستيطاني سيزداد في الجولان، وربما على حساب الأعداد السكانية الكبيرة في منطقة الوسط. تشكل منطقة الوسط منطقة ضعف استراتيجي بالنسبة لـ “إسرائيل” لأنها مزدحمة جدا بالسكان حيث إنها تؤوي حوالي 60% من مجموع السكان اليهود.

التكثيف السكاني الحدودي سيمتد أيضا إلى سوريا التي استشعرت أهمية التواجد السكاني الحدودي منذ سنوات. قامت سوريا بالتعمير البنائي على خط وقف إطلاق النار لعام ،1974 لكن ذلك لم يكن كافيا، وستجد الآن بعد تجربة حزب الله أن هذا التعمير مهم من الناحية الدفاعية، وله بعض الأهمية في دعم الناحية الهجومية. والقصد هنا ليس الحرب بالسكان، وإنما استعمال المنشآت العمرانية للتمويه والخندقة والتكتيكات العسكرية المستندة على العنصر البشري. أما حزب الله، فقد يجد أنه من المناسب تشجيع البناء في مناطق جديدة ولو في تجمعات سكانية صغيرة، إنما تكون كافية لتغطية الثغرات الجغرافية التي يمكن أن تتسلل خلالها الدبابات “الإسرائيلية”.

في المجمل، واضح أن الحرب التي تعتمد على التقنيات الحديثة لا تستطيع النجاح أمام أساليب قتالية قديمة أو بدائية أو تقليدية. كما أن الحرب التي تستند على الوسائل التقليدية بحاجة إلى بعض التطور التقني الذي يتمكن من تحييد الطيران ومن تدمير آليات العدو المدرعة. أي أن السباق العسكري التكتيكي في المنطقة سيأخذ الآن أبعادا جديدة، وسيعمل كل طرف على الإفادة من الدروس التي استقاها لتعزيز قدراته الأدائية.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات