نظرة من بعيد إلى القضية الفلسطينية

صحيفة القدس العربي
الجزائر، ورئيسها الراحل هواري بومدين على وجه التحديد، هي من صك الشعار الخالد: نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة، وذلك بمقاربة واضحة مع حديث لرسول الله عليه أفضل الصلوات يقول: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ولما سئل: كيف ننصره ظالماً قال عليه الصلاة والسلام ما معناه بأن ذلك يكون بدفعه لإيقاف ظلمه. كان هذا أول ما تبادر إلى ذهني وأنا أتابع، عن بعد، ما يحدث على الساحة الفلسطينية، والذي يثير الكثير من الأسى، ليس فقط لتزايد ما يُسببه من آلام للمواطنين وللمناضلين ولكن أيضاً لكثرة ما يستثيره من تساؤلات لا أجد لها ردوداً مقنعة. والسطور هنا هي مجرد محاولة للفهم سأكون ممتناً لكل من يتكامل معي بتصحيح ما يراه من أخطائها أو تعديل ما يحسه من اعوجاجها أو حتى برفض ما قد أصل إليه من استنتاجات غير صائبة لاعتمادها على معلومات مبتورة.
ولا بد من الاعتراف بالوضع الصعب الذي يُوجد فيه رئيس السلطة الفلسطينية السيد محمود عباس (الذي يسيء له البعض بتسميته محمود لافال، تذكيرا ببير لافال، رئيس حكومة فيشي خلال الاحتلال الألماني لفرنسا) والذي نتذكر بأنه لم ينجح في انتزاع ثقة الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي كان يبدو وكأنه يحس بأن أبو مازن فُرض عليه من قوى خارجية ونتيجة لتواطؤات داخلية، وانتهز الفرصة الأولى ليقيله ويُعين مكانه السيد محمود قريع.
وكان واضحاً في السنوات الأخيرة أن أبو عمّار أصبح عقبة في طريق الحل المطلوب أمريكياً وإسرائيلياً، بل وعربياً بالنسبة لمواقع معينة، خصوصاً بعد رفض الزعيم الفلسطيني التوقيع على تنازلات كامب دافيد – 2، وكنت أشرت لبعضها في حديث سابق، وبالتالي كان يجب أن ينتقل إلى حيث لا عودة، وهو ما حدث في ظروف تتكاثر حولها التساؤلات والتكهنات.
وهكذا تولى عباس، مهندس اتفاق أوسلو، مسؤولية السلطة الفلسطينية وسط جو كانت واشنطن قد أثارته في السنوات الأخيرة من حياة عرفات، وتميز بالتركيز على قصص الفساد الفلسطيني، وبالمطالبة بالإصلاحات والتحسينات.
وبالطبع فإن كُتاب المارينز سارعوا للرقص على الطبول الأمريكية والغمز من قناة كل القيادات الفلسطينية، وكأن الفساد أصبح ظاهرة مقتصرة على الساحة الجريحة. ويجتاز الشعب الفلسطيني الصامد امتحان الانتخابات التشريعية بنجاح رائع اعترف به العدو قبل الصديق، وتنتزع حركة حماس الأغلبية في المجلس التشريعي، وهنا يتغير كل شيء وبشكل يثير الدهشة والاستغراب. فقد بدأت تسريبات معينة تنطلق من الفلك الأوروبي نحو من يريد الاستماع من العرب تستهدف التشكيك في وطنية رجال حماس، ووصلت إلى حد القول بدور إسرائيلي في خلقها، وهو ما سمعته شخصياً من مسؤول أمني فرنسي خلال محاضرة ألقاها في الجزائر منذ عدة شهور، ولا أعرف إن كان المصدر عربياً أم إسرائيلياً أم الاثنين معاً.
وبدأت أصوات العقل والحكمة المألوفة تتناقل التعليقات عن نقص تجربة حماس في تسيير شؤون الدولة وتصلبها في مواجهة الأوضاع الخارجية، وعجزها عن مواجهة الالتزامات الداخلية، وذلك في الوقت الذي فشل فيه إسماعيل هنية في إقامة حكومة وحدة وطنية، وقيل آنذاك إن الطرف الأكثر قوة في المعارضة الفلسطينية، وهو فتح، رفض المشاركة فيها، بل وبدأت تعليقات بعض أفراده تتسم بالحدة تجاه حماس وتهون من قدرتها على تحمل المسؤولية، ثم علت نغمة تبرير الهزيمة الانتخابية للمعارضة الجديدة بما يُشبه ما استمعنا له إثر انتصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر في نهاية الثمانينيات على حساب ما تبقى من جبهة التحرير الوطني، التي كانت قد ترهلت وخسرت الكثير من وجودها المؤثر على الساحة الوطنية منذ التصفيات التي أجريت في منتصف الثمانينيات، ثم راهنت بسذاجة على ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية التي تدهورت في 1986، لتقع البلاد فريسة لأحداث تشرين الأول (أكتوبر) المشبوهة في الجزائر، والتي كانت بداية الانزلاق نحو المجهول الذي تواطأ فيه الزيت مع الماء وتكامل الوقود مع عود الثقاب.
واضطرت حماس في فلسطين إلى تكوين حكومتها بشكل انفرادي انطلاقاً من أغلبيتها النيابية، وبدأت الساحة العربية تشهد وضعية بالغة الغرابة.
فبداية، توقف كل حديث عن الفساد الذي كان يقال إن الأجهزة الفلسطينية تعاني منه، وبدا وكأن ذلك الفساد قد تحول إلى دخان ذهبت به رياح التغيير.
ثم فرض حصار محكم على قطاع غزة ليحول بين الحكومة الجديدة والمقدرة على تسيير الدواليب الحكومية، ساهمت فيه مؤسسات مالية عربية وأجنبية، بل وعناصر فلسطينية على مستوى معبر رفح، كما قيل، وهو ما قاد إلى تدهور رهيب على الساحة الفلسطينية، كان من بين مظاهره الغريبة والتي لم يعرفها التاريخ تظاهرات قامت بها قوات أمنية احتجاجاً على عجز حكومة حماس عن توفير المرتبات، والتقطت بعض قيادات فتح القديمة أنفاسها وبدا أنها تحاول التحريض على حكومة حماس، وأمكن استغلال الوضعية الصعبة للشارع الفلسطيني في خلق وضعية توتر أدت إلى أن واجه السلاحُ الفلسطيني السلاحَ الفلسطيني، وتزايدت الاتهامات من كل جانب.
ورفضت دُول عربية استقبال عدد من قادة حماس وغالباً تحت ضغوط من قيادات فلسطينية كانت في مرحلة معينة رموزاً للنضال لدى الجميع، تكاملت مع الضغوط الأمريكية وربما الإسرائيلية.
ووضع العالم كله أمام حكومة حماس شرط الاعتراف بـ”إسرائيل” قبل أي تعامل معها، وكان المؤسف أن القوى العربية المؤثرة في الساحة انقسمت بين مؤيد لذلك المطلب ونائم في الخط، وكان آخر ما سمعناه قول رئيس السلطة منذ أيام عن ضرورة احترام حكومة حماس للاتفاقيات الدولية، والمقصود بالطبع هو الاتفاقات مع “إسرائيل”.
ولم يتوقف أحد ليطرح الجدلية البسيطة التي تربط قضية الاعترافات بمبدأ التبادل، فأنا أعترف بمن يعترف بي، وبالتالي فكيف تعترف حكومة حماس بعدو ما زال يراها مجموعة إرهابية، في حين إن ماضي الهاغاناه وشتيرن وزفاي ليومي ما زال حياً في الأذهان. وإذا كانت “إسرائيل” لم تحترم التزاماتها المفروضة من منظمة الأمم المتحدة ولا تلك الناتجة عن اتفاقيات ثنائية وأهمها قضية المعابر، ومعبر رفح على وجه التحديد، فكيف تطالب حماس باعتراف معناه الوحيد التسليم المطلق لـ”إسرائيل” بكل شيء، حتى ورقة التوت؟ ومأساة معبر رفح وحدها فضيحة لكل عربي، لأن المعبر يربط بين غزة وبلد عربي، لكن “إسرائيل” تفرض إرادتها عليه بشكل تعسفي اتضح أن هدفه الرئيس هو خنق الحكومة الفلسطينية.
وهكذا تناسى العالم العربي الخروقات الإسرائيلية المتواصلة لقطاع غزة ولمدن الضفة الغربية، وعمليات الاغتيال المتوالية ضد من تراهم خصوما لها، وراح الجميع ينادي بضرورة أن تقبل حماس بما نادت به في البداية ورُفض من الآخرين، وهو إقامة حكومة وحدة وطنية. والغريب هنا أن المطالبة بحكومة وحدة وطنية لا يستند إلى قاعدة تشريعية، مقارنة بلبنان، حيث تـُرفض فكرة الحكومة الوطنية التي تنطلق من قاعدة تشريعية واضحة المعالم أفرزها الواقع اللبناني حتى قبل اتفاق الطائف.
ولقد كان حديث أبو عباس عن التمسك بأراضي 1967 وبالقدس وعودة اللاجئين وكذلك العمل للإفراج عن البرغوثي وزملائه كلاماً رائعاً، ولكن المطلوب كان أن تعلن “إسرائيل” قبولها بهذا كله ليمكن مطالبة حماس بالاعتراف بالأمر الواقع، خصوصاً وأن فكرة هدنة السنوات العشر التي طرحها هنية لم تكن سيئة، وكانت مخرجاً لوضعية الانسداد الحالية، لكن “إسرائيل” تجاهلت الأيدي الممدودة.
وكان المؤسف أن أحداً على الساحة العربية لم يتوقف عند تصريحات وزيرة الخارجية الإسرائيلية التي تحدثت عن حدود تتجاهل حدود 1967، أي أنها ترفض بشكل واضح مبادرة توماس فريدمان، التي اصطلح على تسميتها مبادرة السلام العربية، وأفلت من عمرو موسى مؤخراً اعتراف واضح بأنها انتهت ودفنت.
وتتلقي الدبلوماسية العربية صفعة مهينة في مجلس الأمن، تزامنت مع رفض إدانة النشاط النووي الإسرائيلي في فيينا، ويعترف وزير خارجية قطر بوجود انقسام في المواقف العربية، ولا يحاول أحد أن يفهم بأن الحق الذي لا تسنده القوة يظل مجرد بلاغيات عنترية لا تقتل ذبابة.
ويبدو أن الساحة العربية تحاول استيعاب النصر الاستراتيجي الذي حققه حزب الله في لبنان في نفس الوقت الذي تحاول فيه قوى لبنانية تسندها الإدارة الأمريكية والدبلوماسية الفرنسية أساساً تقزيم ذلك النصر والاستفادة من وجود قوات اليونيفيل لتحييد المقاومة سياسياً ليمكن التخلص منها تدريجياً في مراحل مقبلة.
ويتزامن رفض أبو مازن التوجه إلى غزة لاستكمال المشاورات حول حكومة الوحدة الوطنية مع قرار المحكمة الإسرائيلية باستكمال احتجاز أكثر من عشرين وزيراً ونائباً من حركة حماس.
ويبدو الوطن العربي في وضعية تبلد غريب تجعله شبه عاجز عن الاستفادة من كل ما حدث، ويبدو أن السبب هو غياب الطبقة السياسية القادرة على تأطير الجماهير وتوجيهها والحفاظ على معنوياتها والتعامل مع السلطات الحاكمة بحجم واع من التكامل الذي يعرف متى ينتقد ومتى يدعم ومتى يتناقض ومتى يتلاحم، حتى لا تكون القضية مجرد إثبات وجود يُحمل السلطة كل الأوزار والآثام تهرباً من اتخاذ المواقف الجادة في الوقت المناسب.
وهكذا يتبعثر الشارع العربي وتتذبذب مواقف القيادات ولا يبدو أي ضوء في آخر النفق.
ولست أدري إلى أين ينتهي الصراع الفلسطيني – الفلسطيني ومتى يتوقف التدخل الشقيق في الملف الذي أفسده، عبر أكثر من نصف قرن، تدخل الأشقاء وأحياناً قبل ضراوة الأعداء.
لكنني ما زلت أنادي بأن تكون الأمة مع فلسطين ظالمة أو مظلومة.
* وزير سابق وكاتب من الجزائر
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

الاحتلال يقتحم مجمع المدارس في حلحول ويشدد إجراءاته العسكرية في الأغوار
الخليل - المركز الفلسطيني للإعلام أصيب عدد من الطلبة بالاختناق، اليوم الأحد، جراء اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي منطقة مجمع المدارس في بلدة حلحول...

إصابة مواطنين برصاص الاحتلال في بنت جبيل جنوبي لبنان
بيروت - المركز الفلسطيني للإعلام أصيب شخصان برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي، اليوم الأحد، في بلدة مارون الراس الحدودية، قضاء بنت جبيل، جنوب لبنان....

حماس: الموقف العربي من حرب التجويع والإبادة لا يرقى لمستوى الجريمة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام شددت حركة "حماس" على أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي ترتكب جريمة حرب مركبة في غزة، باستخدامها التجويع سلاحا ضد...

السلطة تقطع رواتب عدد كبير من الأسرى في سجون الاحتلال
الضفة الغربية- المركز الفلسطيني للإعلام أقدمت السلطة على قطع رواتب عدد من الأسرى والأسيرات، والمحررين والمحررات، في خطوة أثارت استياء واسعًا في...

الأورومتوسطي: إسرائيل تقتل امرأة فلسطينية كل ساعة في قطاع غزة
المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي قتل بالقصف المباشر على قطاع غزة ما معدله 21.3 امرأة...

الصحة تحذر من تسارع مؤشر النقص الحاد في الأرصدة الدوائية
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام حذرت وزارة الصحة من أن مؤشر النقص الحاد في الأرصدة الدوائية في "تسارع خطير"، فميا أفادت بأن مستشفيات القطاع استقبلت...

الأونروا تحذر من ضرر غير قابل للإصلاح مع إطالة أمد الحصار الإسرائيلي
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام حذرت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، من أن إطالة سلطات الاحتلال الإسرائيلي منع إدخال المساعدات إلى...