إسرائيل: من الاحتيال على التفاوض إلى اغتياله

صحيفة الحياة اللندنية
ذهاب العرب إلى مجلس الأمن هو من التعبيرات العربية القوية المتعددة الأهداف التي من أهمها إشعار المجتمع الدولي بأنهم ملتزمون بالسلام مع “إسرائيل” ويريدون من المجتمع الدولي انتزاع التزام إسرائيلي مماثل يخرج عملية السلام من نفقها المظلم.
الالتزام العربي الكامل بسلام شامل كان واضحاً في مؤتمر مدريد عام 1991 الذي أعلنت “إسرائيل” وبسرعة خلاله أنها ستسوف في المفاوضات وتطيلها عشر سنوات، وكانت هذه السنوات في ذهن إسحق شامير رئيس الوزراء آنذاك هي الفترة المناسبة لاستكمال الاستيطان ولهذا السبب وقف هو وأرييل شارون ضد اتفاق أوسلو في أيلول (سبتمبر) عام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية و”إسرائيل” الذي جدد تفاؤل قوى السلام في العالم كله بإمكان تحقيق تسوية شاملة تنهي الصراع بين العرب والإسرائيليين، وذهب البعض في تفاؤله إلى حد التصور بأن الأردن على سبيل المثال في ظل السلام سيكون سنغافورة الشرق الأوسط.
ولكن علمتنا الممارسات والسياسات الإسرائيلية أننا في واد و”إسرائيل” في واد آخر. قبل اغتياله أكد اسحق رابين رئيس وزراء “إسرائيل” المختلف في الدرجة وليس في النوع عن شامير وشارون ونتانياهو وأولمرت هذا الإجماع الإسرائيلي في التسويف عندما قال بأنه لا توجد مواعيد مقدسة، على رغم أن هذه المواعيد لم تكن سوى التزامات دولية توجت عملية تفاوضية تنسحب بمقتضاها “إسرائيل” تدريجياً من الأراضي المحتلة توطئة لإعلان الدولة الفلسطينية في أيار (مايو) عام 1998 طبقاً لأوسلو. وسار على هذا المنوال كل رؤساء حكومة “إسرائيل” اللاحقين، ثم حذت حذوهم الولايات المتحدة التي أضاع رئيسها الحالي فرصة تاريخية بعد أن أعلن بنفسه في الأمم المتحدة في حزيران (يونيو) عام 2002 بأن إنشاء الدولة الفلسطينية سيكون في مثل هذا الشهر من عام 2005 كدليل على إرادة أميركية جديدة لحل الصراع العربي – الإسرائيلي. الإسرائيليون لم يضيعوا وقتهم وذكروه بسرعة بثوابتهم التي لا يحيدون عنها وهي أن ليس هناك موعد مقدس لديهم وأنهم وحدهم من حقهم تحديد تاريخ إنشاء هذه الدولة عندما يقبل الفلسطينيون كامل شروطهم. (لا عودة للاجئين، لا جيش، لا سيطرة على السماء، ولا عودة إلى حدود عام 1967 وأخيراً بقاء الجدار العنصري).
“إسرائيل” تمكنت منذ وقت مبكر من التوصل إلى توافق استراتيجي مع حلفائها بأن السلام مع الفلسطينيين يتم فقط عن طريق التفاوض ومثل مؤتمر مدريد أحد أهم انتصاراتها الديبلوماسية فعلى إثره تم التفاوض في المسارات المنفردة والمتعددة الأطراف. ولكن التفاوض للتفاوض ظل الغاية غير المعلنة لـ”إسرائيل” مما أدى إلى انسداد الطريق أمام السلام وأمام المطالب العربية بتطبيق قرارات الشرعية الدولية، لأن الموقف التقليدي الغربي أصبح صنواً للموقف الإسرائيلي الذي يشدد على مبدأ التفاوض من دون سقف زمني لتحقيق غاياته.
“إسرائيل” تتحدث ببراعة عن التفاوض مع استمرار توسعها الاستيطاني، هذا التوسع الذي لم يجد حتى الآن موقفاً غربياً يطالب بتوقفه باستثناء معارضة على الأرض عبر عنها وزير خارجية بريطانيا الراحل روبن كوك في جبل أبو غنيم إبان حكم نتانياهو لم ترق لرئيسه توني بلير. الموقف الغربي عموماً يتسم ببعض النفاق عند التعبير النظري عن رفض فرض سياسة الأمر الواقع التي تؤدي إلى استباق نتائج المفاوضات. هذا الموقف لم يتطور ليمنع استيلاء مواطنيهم، الذين هم أداة مشروع استيطاني حالي أو مستقبلي، على أراضي الفلسطينيين أو لفرض شروط على “إسرائيل” كي تستوعب يهودهم في دولتها ما دامت تفاخر بأنها دولة كل اليهود ولا توطنهم خارجها.
لقد أصبح التفاوض أضحوكة فبعد إفراغه من قيمته باستخدام القوة المتواصل ضد الشريك الفلسطيني لا تنفك “إسرائيل” عن الضحك على العالم وتعلن بوقاحة أن عملية السلام قائمة على التفاوض وفي الوقت نفسه تقول إنها لا تريد التفاوض مع سورية أحد أطراف عملية السلام. وهنا لا تجد “إسرائيل” من يذكرها من حلفائها أنصار مبدأ التفاوض بأنها تخرق هذا المبدأ الواجب الاحترام مع كل الأطراف. حدث الأمر نفسه عندما كانت “إسرائيل” تتهرب من تنفيذ التزاماتها نتيجة للتفاوض مع الشريك الفلسطيني ومرة ثانية لم يضغط عليها أي من حلفائها لتنفيذ ما وافقت عليه. أصبح التفاوض للتفاوض هو الغاية وهو المقدس أما أطرافه فإن من حق “إسرائيل” أن تنتقيهم وأن تتفاوض معهم متى أرادت وأما نتائجه فإنها حرة أيضاً في تنفيذ ما تريده منها. وأدى ضعف الطرف العربي إلى أن ترفض “إسرائيل” مبادرة قمة بيروت للسلام رغم شموليتها وتلبيتها للسقف الذي كان مطلوباً من الفلسطينيين وحدهم حتى نهاية الثمانينيات.
إن دولة الحرب والتوسع والوظيفة الإمبريالية رفضت الخيار الاستراتيجي العربي السلمي وفضلت ترك باب الصراع مفتوحاً على مصراعيه. حلفاؤها الذين لم يحددوا موقفاً واضحاً من المبادرة شجعوا “إسرائيل” في تماديها وفي مقدمهم واشنطن التي ترى أنه لم يحن أوان حل الصراع العربي – الإسرائيلي. هؤلاء الحلفاء نسوا كلمة التفاوض عند إعلان مبادرة بيروت حيث كان بإمكانهم أن يطلبوا من العرب أن تكون مبادرتهم موضع تفاوض متعدد الأطراف لأن تنفيذها يتطلب فعلاً التفاوض الذي أصبح مبدأ مقبولاً لديهم كآلية لحل شامل وعادل للصراع. في واقع الأمر إن أحد أسباب رفض “إسرائيل” للمبادرة العربية أنها كانت قررت وضع سياسة الفصل مع جارها التي بدأ التفكير فيها في عهد إيهود باراك، موضع التنفيذ وإقامة الجدار لغرض أمني في الظاهر ولتغيير ديموغرافي جديد وراء الجدار يتم من دون مقاومة أو مراقبة، وتحديداً للحدود من طرف واحد في إطار سياسة «الانطواء» خارج نطاق التفاوض والاتفاقات.
“إسرائيل” كالعادة وجدت من يقبل مبرراتها الأمنية إلى حد اختفى فيه الفارق بين موقف اللوبي الإسرائيلي والموقف الرسمي إلا من حيث لوم هذا اللوبي، المسنود بموقف بعض القوى التي كانت في معسكر السلام، الفلسطينيين على إجبارهم “إسرائيل” على إقامة الجدار الذي كانت العمليات الفدائية (الانتحارية) هي السبب في إقامته، حسب زعمهم. هنا انهار حق الإنسان الفلسطيني في وطنه وتم بلع الطعم الإسرائيلي من دون صعوبة. وبلغ التحيز ذروته عندما وقف أكبر حلفاء “إسرائيل” ضد الشرعية الدولية في محكمة العدل الدولية في تموز (يوليو) عام 2004 عندما أعلنت المحكمة رأيها الاستشاري القانوني بأن الجدار والاستيطان غير شرعيين. هذا القرار البالغ الأهمية الذي لا يخلو من بعد سياسي أدرك أن للاستيطان والجدار أهدافاً سياسية واستراتيجية يدركها حلفاء “إسرائي”ل ولكنهم يدفنون رؤوسهم في الرمال ولا يحركون ساكناً حول أطروحتها عن الحدود الآمنة المرتبطة بالاستيطان ارتباطاً وثيقاً منذ أن بدأ في القدس الشرقية في الشهر ذاته الذي احتلت فيه “إسرائيل” المدينة المقدسة.
إن الاختلال في علاقات القوى والدعم المخلص من الحلفاء وصمت الأمم المتحدة التي لا ينسى أمينها العام أن يذكر كوريا الشمالية بالتزاماتها إزاء عدم إطلاق صواريخ عابرة للقارات ولكنه يؤثر السلامة عندما يتعلق الأمر بـ”إسرائيل” وانتهاكاتها وحروبها في فلسطين ولبنان. كل ذلك يجعل “إسرائيل” أكثر اطمئناناً في أن تصر على سلام يتحقق وفق شروطها. “إسرائيل” دولة دؤوبة ومثابرة لتحقيق استراتيجيتها، ومنذ كامب ديفيد الثانية عام 2000 التي تبددت فيها آمالها بتنازل فلسطيني في القدس المحتلة والضفة وهي تقول إنها لا تجد شريكاً فلسطينياً يتنازل عن الأرض وهذا يعني أنها تنتظر حكومة فيشي فلسطينية تعطيها كل ما تريد. إن المنطق الذي تصر على تسويقه هو أنها غير مستعدة لانتظار هذا الشريك الغائب، أو غير الراغب، في اشباع شهيتها التوسعية وهي الدولة التي جعلت السلام الذي ينكره عليها شركاؤها دفها منذ نعومة أظفارها، أي السلام الذي تريد تفصيله على مقاس أطماعها التوسعية. وأكد هذا المنطق إيهود أولمرت في الكونغرس الأميركي في أيار الماضي الذي لم يختلف معه حول أمور مصيرية فلسطينية مثل بناء الجدار والاستيطان وتهويد القدس. واقتنع الحلفاء – وهم درجات – بأن السلام غير الأمن وأنه لا مناص من الاستجابة الفلسطينية والعربية لمطلب «إسرائيل آمنة» القابل للتطبيق فيما بعد في الجولان السوري المحتل وفي مزارع شبعا وأيضاً مطلب «إسرائيل يهودية» الموجه نحو الفلسطينيين في المقام الأول ويلغي حق اللاجئين في العودة، أي يبطل القرار 194.
بعد قرارات قمة بيروت رحب البعض في الغرب بها ولكنهم رأوها ناقصة وقالوا إن على العرب أن يخطوا ميلاً إضافياً، أي أن لا يصروا على انسحاب إسرائيلي إلى حدود عام 1967. ونسي هؤلاء أن السلام المستدام يجب أن يقوم على أسس عادلة وأن تكون مرجعيته قرارات الأمم المتحدة التي مسختها خريطة الطريق للالتفاف على بعض حقوق الشعب الفلسطيني التي كانت الأمم المتحدة تسميها بالحقوق غير القابلة للتصرف، والتي لا يمكن إنكارها وحل محلها خطاب إسرائيلي – أميركي ضد الشرعية الدولية وضد جوهر هذه الحقوق، يدعمه جهد إسرائيلي لإقناع العالم بأن الفلسطينيين هم الذين يعرقلون الحل النهائي ويضيعون فرص السلام.
الوضع الحالي ينذر بخطر لا يستثنى منه أحد خصوصاً بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان الذي من ضمن أسباب أخرى، جعل العرب يدركون أن المصلحة العربية تتطلب البحث عن بدائل وعن طريق مجلس الأمن تجبر “إسرائيل” على قبول سلام غير السلام الذي تريد فرضه بالقوة. لقد أردوا إعادة الاعتبار لمبدأ التفاوض ولكن تحت إشراف ومشاركة دولية أوسع وفي ذهنهم الحقائق التالية:
أولاً: رفض أي نتائج تنتهك الشرعية الدولية.
ثانياً: أن تكون الجامعة العربية و”إسرائيل” ضمن اللجنة الرباعية التي سيتعدل اسمها تبعاً لذلك.
ثالثاً: أن يكون الجولان السوري المحتل وجنوب لبنان من مهام الرباعية.
رابعاً: أن تنضم إلى هذه اللجنة كل من الصين والهند.
خامساً: أن يكون هناك جدول زمني للتفاوض وأن تكون نتائجه ملزمة.
سادساً: وقف الهجرة إلى “إسرائيل” مؤقتاً حتى يسود السلام في المنطقة لحرمانها من قوى الاستيطان البشرية التي تسهل لها التوسع على حساب الأرض الفلسطينية.
سابعاً: فرض حظر عسكري على “إسرائيل” يرفع عندما يتحقق السلام.
ثامناً: أن يكون على جدول أعمال التفاوض السلاح النووي الإسرائيلي وأسلحة الدمار الشامل.
وبدون ذلك يظل السلام أضغاث أحلام.
* كاتب يمني
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

سجن جندي احتياط إسرائيلي لرفضه القتال في الضفة الغربية
الناصرة - المركز الفلسطيني للإعلام قالت هيئة البث الإسرائيلية إن جندي احتياط إسرائيليا سجن 5 أيام بعد رفضه المشاركة في القتال في الضفة الغربية...

رفض حقوقي للخطة الأمريكية الإسرائيلية لتوزيع المساعدات في غزة
المركز الفلسطيني للإعلام عبر المركز الفلسطيني لحقوق الانسان عن رفضه التام للخطة الجديدة التي تروج لها الولايات المتحدة الأميركية، بالتنسيق مع دولة...

33 شهيدًا و94 إصابة بعدوان الاحتلال على غزة في 24 ساعة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية وصول 33 شهيدا، منهم 29 شهيدا جديدا، و4 شهيد انتشال)، و94 إصابة، إلى مستشفيات غزة خلال...

أبو عبيدة: الإفراج عن الجندي الأسير عيدان ألكساندر اليوم الاثنين
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أعلن أبو عبيدة، الناطق باسم كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، قرارها، الإفراج عن الجندي الصهيوني الذي يحمل...

16 شهيدا بينهم أطفال بمجزرة إسرائيلية في مدرسة تؤوي نازحين في جباليا
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي، مجزرة فجر اليوم الاثنين، بعدما استهدفت مدرسة تؤوي نازحين في جباليا البلد شمال غزة،...

تحذير أمني من تكرار جيش الاحتلال الاتصال بأهالي غزة وجمع معلومات عنهم
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام حذرت منصة أمن المقاومة (الحارس)، الأحد، من تكرار جيش الاحتلال أسلوبا خداعيا عبر الاتصال على المواطنين من أرقام تُظهر...

الزغاري: نرفض المساس بحقوق أسرانا وعائلاتهم
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس جمعية "نادي الأسير الفلسطيني" الحقوقية، عبد الله الزغاري، إنّ صون كرامة أسرانا وحقوق عائلاتهم يشكّل...