الثلاثاء 01/أكتوبر/2024

تصحيح الانتفاضة أم تصفيتها؟

تصحيح الانتفاضة أم تصفيتها؟

منذ بدأت انتفاضة الأقصى تتخذ منحى عسكرياً في بعض أبعادها ظهر من يعتبرون أن هذا التطور ينذر بكارثة محققة للنضال الفلسطيني، استناداً إلى الخلل الفادح في ميزان القوى الفلسطيني-الإسرائيلي، والعجز العربي عن تقديم الدعم للانتفاضة، والآثار السلبية لعسكرة الانتفاضة على التفهم والدعم الدوليين لمطالب الشعب الفلسطيني. لكن المحاضرة التي ألقاها منذ حوالي أسبوع واحد من أبرز قيادات السلطة الفلسطينية (محمود عباس) في حضور رؤساء اللجان الشعبية في مخيمات قطاع غزة تمثل مظهراً من أخطر مظاهر التعبير عن وجهة النظر السابقة، كونها صادرة عن قيادة فلسطينية بارزة رشحت لخلافة الرئيس عرفات.

ويمكن القول بأن محاضرة المسؤول الفلسطيني البارز قد انطوت على محاور ثلاثة: أولها يتعلق بتقييم انتفاضة الأقصى خلص منه إلى ما يشبه الإخفاق الكامل، ومن ثم كان يحاول بلورة نهج بديل في المحور التالي، أما المحور الثالث فمبني على تحليلها.

في التقييم ذهب الرجل إلى أن الانتفاضة قد أدت إلى تدمير كامل لكل ما بنيناه، ولم يعد الناس قادرين على تحمل أعباء الحياة، وأعيد احتلال الأراضي التي تحررت بالمفاوضات ولم يبق من هذه الأراضي إلا قطاع غزة، ولم تؤد الانتفاضة إلى سقوط شارون كما قيل، بل لقد أصبح أهم زعيم عرفته الحركة الصهيونية منذ هرتزل. وتضاعف الاستيطان عدة مرات بالإضافة إلى استمرار توسيع المستوطنات القائمة. وهربت الاستثمارات الخاصة التي جاءت من الخارج، وأضيرت قضية عودة اللاجئين من جراء السلوك الخاطئ على نحو فادح لفلسطينيي 1948 بمشاركتهم في الانتفاضة، وزادت الضغوط الدولية على الفلسطينيين الذين باتوا مطالبين بأمور غير معقولة.

في تفسيره للإخفاق الذريع للانتفاضة على هذا النحو قال الرجل إن عكسرتها هي السبب، لأن الانتفاضة تحولت إلى مسار يتميز بتفوق واضح للإسرائيليين.

إذا كان نهج الانتفاضة عقيماً على هذا النحو، فما هو النهج البديل؟ نقطة البداية أننا لن نستطيع من خلال استعمال القوة الوصول إلى الهدف، وفي هذا السياق يجب الوفاء بعدة مهام أولها ضبط الوضع في قطاع غزة. وثانيها الجلوس إلى طاولة المفاوضات لنكشف أوراق شارون وجره إلى الخانة التي نحن قادرون على العمل فيها ونحن أقوى منه فيها. وثالثها السعي إلى أن تقتصر مساهمة فلسطينيي 1948 على العمل من خلال مؤسسات الدولة الإسرائيلية. والمساعدة بالمواد التموينية والتظاهر مع حركات السلام الإسرائيلية. ورابعها استعادة الرضا الأميركي الذي تحقق عندما قال أبو عمار في 11 سبتمبر: أنا ضد الإرهاب، إلا أن الأمور تطورت إلى الأسوأ نتيجة تدهور الأحداث ووقوعنا في أخطاء، وخامسها التمسك بالمبادرة العربية التي يؤيدها 60 في المئة من الإسرائيليين والتي أصبحت واشنطن في كل مناسبة تتحدث عنها باعتبارها ضمن مرجعيات السلام.

ولكي يتم الوفاء بهذه المهام دعا الرجل إلى حوار بين الفصائل الفلسطينية، لكنه قيد ثمرته بالتوصل إلى صيغة هدنة من أجل أن نحمي هذا البلد، وفي الخلاصة حرص على أن يوضح أنه لا يدعو إلى وقف الانتفاضة وإنما إلى تخليصها من المظاهر السلبية خصوصاً ظاهرة العسكرة، ماذا يبقى من الانتفاضة إذاً؟ تأتي الإجابة قاطعة: يمكن أن نقوم بتظاهرة ومسيرة.

في المحور الثالث يبحث عن الثمرة التي ستعود على النضال الفلسطيني من هذا النهج البديل، وبما أن النهج المقترح سينقل إدارة الصراع إلى الساحة الدبلوماسية التي يتفوق فيها الفلسطينيون على الإسرائيليين(!) فإن هذا سيؤدي إلى أن تتجه الأنظار إلى شارون الذي لا يريد سلاماً(!) وعموماً فإنه سيسقط بالتأكيد بعد ثلاثة أو ستة أشهر من التفاوض(!) ويتوالى بعد ذلك ظهور أجزاء الصورة. فالنجاح في ضبط الأوضاع في قطاع غزة سيؤدي إلى أن نقول للعالم إنه في المكان الذي نتمكن من العمل فيه عملنا، ونطالب العالم بإخراج الجيش الإسرائيلي من مدن الضفة الغربية.. وبالتالي سنجبر “إسرائيل” على ذلك(!) وعدم الرد على ضربات شارون سيكشف حقيقة سياسته فضلاً عن أن الإسرائيليين يؤيدونه لأنهم يعتقدون أنه يحميهم، فإذا سحبت منه هذه الذريعة سيتعاظم عدد الذين يقفون معنا منهم، بل إن كل مؤمن بالسلام الحقيقي سيقف معنا، وهنا أريد أن أنوه أن العالم وللمرة الأولى أصبح يقول بدولة فلسطين وبانسحاب “إسرائيل: من الأراضي التي احتلت في 1967.

يلفت النظر في الأفكار السابقة أنها تعبر عن رؤية متكاملة في ضرورة تصفية البعد العسكري من النضال التحرري الفلسطيني، وهي من ثم تنتمي إلى أفكار الذين يؤمنون بأن النضال السلمي يمكن أن يفي بمهام حركات التحرر الوطني، ولا نملك في هذا الصدد من سوء ظن على صدق هذه النظرية سوى حالة غاندي في الهند التي لا يمكن المقارنة بين الاحتلال البريطاني لها والمشروع الصهيوني الاحتلالي في فلسطين ناهيك عن أننا لا نستطيع أن نغفل في مقابل تجربة غاندي عشرات من التجارب الأخرى الناجحة التي اتبعت طريق النضال المسلح بعد أن أخفقت في تحقيق أهدافها بالأدوات السلمية وحدها.

قالوا ويقولون في الرد على ما سبق إن الخلل الفادح في موازين القوى لصالح المستعمر يبرر الدعوة إلى النضال السلمي، وإن في هذا لخداع كبير للعقل طالما أن كافة تجارب التحرر الوطني التي لجأت إلى النضال قد بدأت تمثل هذا الخلل الفادح ثم طورت عبر الزمن أساليبها حتى وصلت إلى نقطة النصر ليس بالضرورة بمعنى هزيمة العدو عسكرياً وإنما برفع تكلفة العملية الاستعمارية إلى الحد الذي يجعلها غير مجدية له. سيقولون إن الزمن غير الزمن، وهنا يأتي الرد بتجربة حزب الله في الجنوب اللبناني، ويردفون باختلاف الظروف بين لبنان وفلسطين بما يجعل اللجوء للكفاح المسلح مستحيلاً في الحالة الفلسطينية، غير أن الرد يجيء بالصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية، بل إن حركة المقاومة قد شهدت كما هو واضح تطوراً نوعياً في الآونة الأخيرة.

قالوا ويقولون إن الانتفاضة قد دمرت كل شيء. والواقع أن الدمار الذي أحدثه المحتل على الصعيدين الإنساني والمادي في كافة تجارب التحرر الوطني لا يمكن أن يوصف، والمشكلة أنه مفروض على الشعوب من قبل المستعمر، وهو يحدث سواء قاومت أم لم تقاوم، وإلا فبماذا نفسر تدمير الدولة الصهيونية لفلسطين العربية في سنوات نشأتها الأولى قبل أن يفيق الفلسطينيون من صدمة احتلال وطنهم ناهيك عن أن يقاوموه.

والقول إن الناس لم تعد قادرة على تحمل أعباء الحياة، فهو قول لا ينبغي الاستخفاف به، ذلك أن الشعوب تدفع بحق ضريبة غالية لتحررها، ومن ثم فإنه من حقها وحدها أن تحدد طريقها في النضال، ولا تكفي المساحة المتاحة لهذه السطور أن تعدد علامات صمود المواطن الفلسطيني العادي، كذلك لا يمكن أن نتغافل عن أن السلوك المقاوم حتى ولو جاء من قلة عددية من الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يستمر على هذا النحو دون احتضان حقيقي من قبل هذا الشعب، ومع ذلك فلتكن هناك ديمقراطية حقيقية داخل فلسطين وليقل الشعب وحده كلمته في مسار النضال وأساليبه.

تبقى بعد ذلك بعض النقاط المنهاجية في تقييم الانتفاضة منها مثلاً: هل يجوز في لحظة زمنية معينة بعد سنتين من تفجر مرحلة جديدة من مراحل التحرر الوطني أن نتوقف لنحصي الخسائر ونقول: إن هذه المرحلة قد فشلت؟ ألا يمكن أن يؤدي مرور عامين إضافيين إذا استمر الصمود والقدرة على إلحاق الضرر بالعدو إلى أن تتغير الصورة جذرياً؟ ثم هل يجوز أن ننسب للانتفاضة أوزاراً بالمشروع الصهيوني ذاته كأن نقول إنها أدت إلى زيادة الاستيطان أضعافاً مضاعفة؟ أليس الاستيطان ملمحاً بنيوياً في الحركة الصهيونية لم يكن لتصاعده علاقة بالانتفاضة أو بغيرها من صور مقاومة الشعب الفلسطيني، غير أن أعجب ما في تلك الرؤية ما يتعلق بنهجها البديل وثمرته.

ولا يرى المرء ما إذا كان هناك اقتناع حقيقي بهذه الأوهام أم أنها مجرد حجج يعرف أصحابها زيفها لتبرير الدعوة إلى تصفية الانتفاضة، فلو كان الأمر بهذه السهولة لماذا فشل مسار أوسلو الذي أعقبته سنوات من الهدوء الفلسطيني؟ وقد اعترف صاحبنا أصلاً بأن سبب الانتفاضة هو الإحباط الشعبي من مسار المفاوضات، وإذا كان العالم يتحدث الآن عن دولة فلسطينية فهي موجودة منذ 1947 في قرار التقسيم، فلماذا لم تنشأ وما هي أركانها وفق الرؤية الصهيونية وكذلك الأميركية التي لم تعد بالمناسبة تشير إلى حدود 1967؟

يبقى أخيراً أن الرواية متناقضة داخلياً، فهي تبرر نشوب الانتفاضة بالإحباط من تغيير المسار السلمي وتطالب بالعودة إليه، وتشكو من الضغط الدولي على الفلسطينيين من أجل الإصلاح الداخلي وتدعو إلى قبوله، فضلاً عن أن صاحبها قد اعترف بأنها رفضت من كل من طرحت عليه في السابق، فهل من عودة إلى صواب يحسمه الوفاء بأهداف الشعب الفلسطيني؟ لا ننكر أننا في حاجة إلى وقفة متكررة مع النفس كلما تعرض النضال الفلسطيني لمنعطف جديد، وأن الحاجة إلى التصحيح دائمة، غير أن التصحيح شيء وتصفية نضال شعب شيء آخر.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

الحصاد المرّ لحرب الإبادة على قطاع غزة

الحصاد المرّ لحرب الإبادة على قطاع غزة

غزة – المركز الفلسطيني للإعلام أصدر المكتب الإعلامي الحكومي، مساء اليوم الاثنين، تحديثًا لبيانات حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي...