الثلاثاء 06/مايو/2025

دراسة أخرى للتاريخ بعد أزمة الخليج : «الرابح الوحيد في القضاء على البنية العسكري

دراسة أخرى للتاريخ بعد أزمة الخليج : «الرابح الوحيد في القضاء على البنية العسكري

أسقطت أزمة الخليج الحجب عن كثير من الحقائق التي كانت معمّاة، أزالت الأقنعة عن كثيرة من الوجوه، وكشفت باطل العديد من الدعاوى، وأنهت الكثير من الأوهام التي كان الإنسان العربي يؤمن بها ويوحي إليه أنها أصدق الأهداف وأسمى المثل، لقد هزت الأزمة العرب من جذورهم وعروقهم، أصابتهم فيما أسفرت عنه بصدمة لم يفق الكثيرون من هولتها لحد اليوم وربما لن يفيقوا منها إلا بهتك ما تبقى من الأستار وبالكشف عن المزيد من الحجب كي يدرك هؤلاء الناس واقعهم وما سيؤولون إليه، لكن هذا لن يكون إلا بسبر غور الأسباب والنتائج وفحص الواقع المرير فحصاً موضوعياً صارماً لا زيف فيه ولا تضليل، ومن دون شق الجيوب ولطم الصدور. وهذا لن يتم إلا بالنظر إلى الماضي الذي قد يؤدي بالمرء إلى فهم الحاضر، وربما ساعد عدته فيوفر على نفسه وقومه المزيد من الأسى والأسف ويجنبه الكثير من الحسرات العقيمات. وهذا كله لن يقع إلا بالرجوع إلى التاريخ .

إنني مولع بترديد عبارة (التاريخ كتاب لا يقرأ إلا بعد أن تقع الواقعة). وها قد حان الوقت لتكتب بعض صفحات ذلك الكتاب عسى أن يعيننا ذلك على استيعاب ما حدث وربما توقع ما سيحدث .

التاريخ يعلمنا أن هناك ثلاثة ثوابت :

أن العلائق الدولية علائق مصلحة، لا علائق مُثل، وعلى هذا فإن الضمير الإنساني غائب عنها، ولا محل للقيم الأخلاقية فيها .

إن القانون الدولي ينظم العلائق بين الأقوياء ويحكم العلائق بين الضعفاء، ولا محل له في علاقة القوي بالضعيف .

إن للواقع الجغرافي أثراً لا مفر منه في تكييف الصلات والعلائق مع الآخرين، دنوا أم بعدوا، لأن الجغرافيا موجودة أبداً في التاريخ، فلنستعن بالتاريخ لنضرب مثلاً أو أكثر لكل ثابت من هذه الثلاثة إذ أن في ذلك إدراك إغلاق الحاضر وقد نجد فيها مفاتيح المستقبل .

علائق المصلحة

على رغم كل دعاوى المثل والقيم كانت العلائق بين الدول، وأؤكد على كلمة “الدول” دائماً وأبداً علائق مصالح وحسب. والمصالح قد تتغير بتغير الأزمان والأحداث، وعلى هذا لا عداوة أبدية ولا صداقة أزلية في العلائق بين الدول تلك الساعة التي أنت فيها، هذا الثابت من ثوابت التاريخ يزيل العجب من بعض تصرفات القادة وقرارات الحكام، ويفسر الزيف الذي قد يقع، ويوضح أسس وغايات التحالفات الآنية، ويشرح أسباب خرق العهود والمواثيق والمعاهدات الاتفاقات، ويسقط حتى على دعاوى القومية والإنسانية .

الخلق والقيم

أهم مثل من التاريخ القريب على الخداع الذي تمارسه الدول الاستعمارية مراسلات الشريف حسين بن علي والسير آرثر مكماهون المعتمد السامي البريطاني في مصر، خلال الحرب العالمية الأولى، ويقتضي الإنصاف أن أقول أن مكماهون لم يعد الشريف حسين بالكثير مما كان الأخير يطالب به، فالرجل كان يتحدث عن “جمع كلمة الشعوب العربية إلى غايتنا المشتركة، على أن لا يمدوا يد المساعدة إلى أعدائنا بأي وجه كان ..” في حين أن الشريف حسين كان يتحدث عن المملكة العربية في الجزيرة والتي ستشمل “ولايات سورية والبصرة وبغداد ..الخ” إلا أن الازدواجية في التعامل اتضحت فيما بعد، حينما ثبت بالوقائع التي نشرتها الحكومة البلشفية بعد ثورة 1917، أن الحكومة البريطانية كانت تجري في نفس الوقت تبادل المراسلات، مفاوضات مع حليفتها فرنسا اختتمت في 16 أيار 1916 بما سمي “مذكرة سايكس – بيكو” بشأن تقسيم الإمبراطورية العثمانية عند نهاية الحرب بما فيها “ولايات سورية والبصرة وبغداد.. (الموصل). واختتم الخداع ببيان بلفور عام 1917 إلى اللورد روتشيلد أحد زعماء الصهيونية آنذاك الذي تضمن تأييد بريطانيا العظمى “تأسيس وطن قومي يهودي في فلسطين ..” ولا حاجة إلى القول أن معظم الويلات التي نزلت بالعرب منذ عام 1920 حتى يومنا هذا كان نتيجة لهذه اللعبة المثلثة الأطراف ” .

القانون الدولي

مشكلة القانون الدولي الرئيسية منذ زمن كروشويس (ولد عام 1583) كانت في إمكانية تنفيذ أحكامه، فالقانون الدولي، شأنه شأن كل قانون وضعي بحاجة إلى القوة الإجبارية التي تنفذ أحكامه مثل ما تنفذ الحكومات أحكام القوانين المحلية وما دامت أحكام القانون الدولي تشمل بالدرجة الأولى العلائق بين دول ذات سيادة فإن في تنفيذ أحكامه قسراً إخلال بسيادة الدولة المعنية، وحتى محكمة العدل الدولية التي أنشئت في أوائل هذا القرن كانت تفتقر إلى القوة الإجبارية إلا إذا وافق طرفا النزاع، أو أطرافه، سلفاً على قبول قرار المحكمة (المادة 36 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية). ولكن هذا النقص قد عوض عنه ميثاق الأمم المتحدة الذي خول مجلس الأمن استخدام القوة المسلحة لتنفيذ قراراته، (المادة 42 من الميثاق). ومع ذلك قلما لجأت الدول العظمى، ولا سيما خلال فترة الحرب الباردة، إلى مجلس الأمن لأن مصالح تلك الدول كانت تتغلب دائماً على أحكام القانون الدولي، وهكذا احتل الاتحاد السوفييتي وقوات حلف وارسو تشيكوسلوفاكيا في آب/أغسطس 1968 وبقي مجلس الأمن ثلاثة أيام بعد احتلال ذلك البلد بانتظار تأليف الحكومة التشيكوسلوفاكية الجديدة التي أدعى أنها كانت تقدمت بطلب سابق للاحتلال لمساعدتها في حفظ الأمن داخل البلاد !

ومثل هذا تجاوزات الولايات المتحدة على سيادة دول عديدة في أمريكا الوسطى والبحر الكاريبي (التي كانت وأمريكا الجنوبية تعتبر عرَصَة الولايات المتحدة الخلفية!) وأقرب الأمثلة عهداً ما جرى خلال ولاية الرئيس رونالد ريغان (1981-1989) أذكر منها غزو دولة غرانادا (1985) وغزو دولة بنما في عهد الرئيس جورج بوش، وأخص بالذكر معاداة حكومة الساندنيستا في نيكاراغوا منذ قيامها عام 1981 وتشجيع تأليف قوات (الكونترا) وفرض الحصار البحري على ذلك البلد ولغم مياهه الإقليمية بحجة أن حكومة الساندنيستا كانت تؤيد قوات الثوار في جارتها السلفادور. وعندما تقدم نيكاراغوا بشكوى إلى محكمة العدل الدولية رفضت الولايات المتحدة قبول ولاية المحكمة في الموضوع ومع ذلك فقد جاء قرار المحكمة بأن الولايات المتحدة بلغم مياه نيكاراغوا الإقليمية قد خرقت أحكام القانون الدولي واعتدت على سيادة دولة عضو في الأمم المتحدة .

من هذا نفهم أن بالإمكان التغاضي عن أحكام القانون الدولي متى كان النزاع بين دولة قوية ودولة ضعيفة، ولكننا اكتشفنا مؤخراً بأن بإمكان الدولة القوية اللجوء إلى القانون الدولي متى ما أمنت العثار. وعلى هذا احتمت الولايات المتحدة بمجلس الأمن وقراراته منذ قيام أزمة الخليج لأنها كانت ضمنت تحييد الاتحاد السوفييتي وأمنت لجوءه إلى حق النقض نتيجة التطورات التي حدثت في شرق أوروبا منذ عام 1985، إذ لم يعد الاتحاد السوفييتي يشكل خطراً على الغرب ومصالحه.. وعلى هذا فإن كل خطوة خطتها الولايات المتحدة في هذا الشأن كانت منذ 3 آب/ أغسطس مغطاة بقرار من مجلس الأمن، وإن كانت في عديد من الأوقات قد تجاوزت الحد في تفسير تلك القرارات وغضت النظر عن بعض نصوصها حسبما كان يلائم خططها وأغراضها .

الجغرافيا في التاريخ

هناك ثابت ثالث يحكم علاقة الكثير من الدول ببعضها البعض وهو العامل الجغرافي الذي كثيراً ما فات المؤرخين أثره، هذا التعامل يأخذ أجلى مظاهره في الدول المحدودة باليابسة ولا منفذ لها إلى البحر مثل أفغانستان وتشيكوسلوفاكيا والنمسا وبوليفيا .. الخ، هذا العامل يفرض على الدولة قيوداً كثيراً في حرية التصرف لتضمن على الأقل سلامة طرق تجاراتها عبر الدول المجاورة، ولم يفقد هذا العامل أهميته بالرغم من تقديم المواصلات الجوية .

ثمة مظهر آخر لأثر هذا العامل، وهو وقوع بلد ضعيف بين جارين قويين، مثل بولندا التي عانت مرارة الاحتلال والتقسيم مراراً عديدة .

المظهر الثالث لهذا العالم مقتصر لدرجة فريدة بموقع ما سمي الشرق الأوسط كحلقة وصل أو ممر بين ثلاث قارات. تجلى أثر هذا العامل في الحروب الصليبية الأولى، ومن نافلة القول التحدث عن الدوافع الحقيقية لتلك الحروب والتي كانت اقتصادية – تجارية أكثر منها دينية، وكان الغرب، الأوروبي آنذاك، قد أخذ يتاجر مع الشرق الأقصى، ولم يكن له مصالح آنذاك سوى هذه النقطة (الطريق حول الجنوب الأفريقي لم تكن قد اكتشفت في ذلك الحين) وبعد أن انسحبت الجيوش الصليبية واستقرت الأمم نسبياً في المنطقة واستؤنفت التجارة جاء الغزو المغولي بعد أقل من نصف قرن ليقضي على بقايا الدويلات الإسلامية في غرب آسيا ويدمر بغداد ويصل إلى الشام، في حينه ملأت أخبار التتار نفوس الأوروبيين هلعاً ولكنها شجعتهم على محاولة الوصول إلى مراكز التجارة في الشرق الأقصى براً وضمان سلامتها مع وجود المغول على امتداد الطريق، وجاءت رحلات ماركو بولو (1254-1324) إلى الهند والصين والبحر العربي لكي تحدد طرقاً برية ثابتة وآمنة لكي يسلكها التجار الغربيون إلى الشرق الأقصى وأهم ما عاد به ماركو بولو من الصين البارود الذي غ ير أساليب الحرب في أوروبا .

ولكن ما أن زالت دولة الخلافة العربية في المنطقة حتى ظهرت دولة الخلافة العثمانية فعادة السيطرة على المنطقة في يد دولة قوية واحدة، عادت هموم الغرب بشأن ضمان مجرى التجارة من دون قيود، وإن كان الغرب قد اكتشف، قبيل قيام الدولة العثمانية، الطريق البحرية حول جنوب أفريقيا إلى الهند وبقية بلدان الشرق الأقصى، هذا الحقيقة ولدت عند الغرب ضرورة منع سيطرة بلد قوي واحد على هذه المنطقة في العالم، واستمر تآمر الغرب على كيان الدولة العثمانية وبلغ أوجه في أوائل القرن التاسع عشر عندما بدأت الخلافة العثمانية بالوهن وظهر ما سمي حينذاك بالمسألة الشرقية، وعلى الرغم من تضارب مصالح الغرب آنذاك، وتغير الولاءات والتحالفات فإن تفتيت الدولة العثمانية استمر مدة قرن من الزمان ولم ينته إلا بالقضاء عليها تماماً نتيجة للحرب العالمية الأولى .

لقد نسب إلى الجنرال اللينبي قائد القوات الحليفة في الحملة الجنوبية على القوات العثمانية قوله عند دخوله دمشق عام 1918 أنه قال وهو واقف عند قبر صلاح الدين الأيوبي: ((أيه صلاح الدين، لقد عدنا)). قد لا يكون في هذا القول، إن صح، مشاعر دينية مثل التي كانت عند الصليبيين الأوائل، إلا أن مضمون هذا الكلام يفضح ولا شك نيات الغرب الاستعمارية بعدم السماح لبلد قوي واحد في السيطرة على هذا الجزء من العالم، وسياسة بريطانيا العظمى آنذاك في الاحتفاظ بطريق الهند تحت سيطرتها وباستحواذ مصادر النفط الذي كان قد اكتشف مؤخراً في المنطقة .

خلال هذه التطورات والتغيرات في خارطة ما سمي بالشرق الأوسط ظهرت عوامل ثلاثة قد لا ترقى إلى مرتبة الثوابت التي ذكرناها، إلا أنها ولا ش

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

20 شهيدا وعشرات الجرحى بمجزرة مروعة وسط غزة

20 شهيدا وعشرات الجرحى بمجزرة مروعة وسط غزة

غزة – المركز الفلسطيني للإعلام ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي، مساء اليوم الثلاثاء، مجزرة مروعة بحق النازحين، عقب قصف الطيران الحربي لمدرسة تُؤوي...

الاحتلال يُمدد اعتقال 58 أسيرا إداريا

الاحتلال يُمدد اعتقال 58 أسيرا إداريا

رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام أفادت هيئة شؤون الأسرى والمحررين وجمعية "نادي الأسير الفلسطيني"، بأن سلطات الاحتلال الإسرائيلي أصدرت 58 أمر...