حرب الخليج أثبتت انعدام جدوى دور إسرائىل القتالي في المنطقة

تطور مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي:
ينطلق مفهوم الأمن الإسرائيلي من مقولة في غاية البساطة وهي أن فلسطين أوارتس يسرائيل هي أرض بلا شعب، ومن ثم أن وجود مثل هذا الشعب فلا بد وأن يغيب، أي أن مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي ينطلق من إنكار الزمان العربي والوجود العربي، والفلسطينيين على وجه التحديد، وهذا يعني ضرورة فرض الوجود الصهيوني والشروط الصهيونية بكل الوسائل المتاحة، أي ردع العرب وإضعافهم هو هدف أساسي للأمن القومي الإسرائيلي، وإن على الجيش الإسرائيلي أن يحتفظ بقدرته العسكرية وتفوقه العسكري وأن على الدولة الصهيونية أن تحتفظ بعلاقاتها المتينة بالعالم الغربي الذي يدعمها ويمولها ويضمن تفوقها العسكري الدائم ومع هذا طرأ على مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي بعض التعديلات نتيجة الحروب العربية – الإسرائيلية، والمتغيرات والمعطيات الجغرافية والسياسية الناجمة عنها، وما تغير عبر هذه السنوات فقط أدوات تحقيق هذا الأمن ولكن ليس بمعنى التغير الكامل أو الإحلال، وقد تطور مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي عبر عدة مراحل:
قام مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي في مرحلته الأولى على مفهوم “الضربة المضادة الاستباقية”، الذي كان يرتبط بانعدام العمق الاستراتيجي لإسرائيل، وينطلق هذا المفهوم من مقولة مفادها أن من الحيوي عدم السماح مطلقاً بأن تدور الحرب في أرض إسرائيل بل يجب نقلها وبسرعة إلى أراضي العدو، وطورت مفهوماً للردع ثم استبدلته بمفهوم لذرائع الحرب الاستباقية يقوم على شن حرب استباقية إذا حاول العدو “العربي” التصرف في أرضه على نحو يقلق إسرائيل مثل المساس بحرية العبور أو حشد قوات على الحدود الإسرائيلية أو حرمانها من مصادر المياه، ولذا كانت عملية تأميم قناة السويس تستدعي عملاً عسكرياً تمثل في عملية قادش أو ما نسميه “العدوان الثلاثي” .
تطور مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي لتظهر نظرية “الحدود الآمنة”، وهي نظرية وضعت أسسها قبل 1967 لكنها تبلورت بعد حرب 1967، وقد شرحها آبا إيبان وزير الخارجية آنذاك بأنها نظرية تقوم على حدود يمكن الدفاع عنها دون اللجوء إلى حرب وقائية .
ويلاحظ في هذه النظرية غلبة المكان على الزمان بشكل تام، إذ ينظر للشعب العربي باعتبار أنه يجب القضاء عليه تماماً أو تهميشه، فنظرية الحدود الآمنة إعلان عن نهاية التاريخ “العربي” .
أكدت حرب 1973 فشل معظم نظريات الأمن الإسرائيلي المكانية وهو ما استدعى تكوين نظرية جديدة هي نظرية “ذريعة الحرب”، وتذهب هذه النظرية إلى أن إسرائيل لن تتمكن بأي شكل من الأشكال من الامتناع عن تبني إستراتيجية الحرب الوقائية وتوجيه الضربات المسبقة في حال تعرضها لتهديد عربي .
وأضافت إسرائيل إلى هذا التصور مفهوم حرب الاختيار، ومفهوم ذريعة الحرب كمبررات لشن حرب من أجل تحقيق مكاسب سياسية أو أمنية مزدوجة المعايير .
كما تم تطوير إستراتيجية الردع النووي، لهذا شهدت هذه الفترة عقد اتفاق التعاون الإستراتيجي بين إسرائيل والولايات المتحدة عام 1981 من ناحية والذي توافق من ناحية أخرى مع صعود اليمين الأمريكي الذي كان يسعى إلى تصعيد المواجهة مع الاتحاد السوفيتي .
وقد شن في تلك الفترة الهجوم على العراق ثم لبنان ثم تونس، في حين أوكلت باق المهام الأمنية لجهاز السياسة الخارجية وجهاز الاستخبارات الإسرائيلية اللذين قاما بجهودهما لإجهاض الكفاءات العسكرية العربية كما قاما بأنشطة مشبوهة في أعالي النيل والقرن الأفريقي وغيرها (انظر: البعد الصهيوني في السياسة الخارجية) .
وقد حولت الانتفاضة “والمقاومة في الجنوب اللبناني” الأنظار عن مفهوم الحرب الخاطفة إذ طرحت إمكانية “حرب طويلة” تعتمد على الاحتكاك المباشر على الأرض التي يفترض أنها لا شعب لها ولا تاريخ،ولذا نظر الصهاينة إلى الانتفاضة باعتبارها حرب عصابات بشعة غير مسلحة تهدف أهداف سياسية معادية لإسرائيل، هي فك الجيب الاستيطاني الصهيوني، الأمر الذي يعني طرح قضية شرعية الوجود وبحدة، بل أن الانتفاضة هددت البعد الوظيفي، إذ أن الجيش الصهيوني فقد هيبته وأثبت عدم قدرته على خوض الحرب الطويلة وهي نقطة قد تكون فاصلة في حالة نشوب صراع مع العرب، وإذا كانت الدولة الوظيفية فقدت مقدرتها على قمع المواطنين الأصليين داخلها. فكيف سيمكنها أن تضطلع بوظائفها القتالية الأخرى؟
الأمن القومي الإسرائيلي في التسعينات:
وتضافرت مجموعة من العوامل تاركة آثاراً مهمة على مجمل الأوضاع في المنطقة العربية وعلى مقومات مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، حيث شهد عقد التسعينيات تحولات وتطورات غيرت مفاهيم كثيرة كانت راسخة، وقلبت موازين كانت مستقرة، فقد اختفت الدولة السوفيتية من الخريطة السياسية العالمية، وأدى انتهاء الحرب الباردة إلى فقدان العديد من الدول العربية الفاعلة حليفها الإستراتيجي القديم، وإلى انعدام هامش المناورة أمامها، الأمر الذي قلص إلى حد بعيد قدرتها على شن حرب ضد إسرائيل، ولكنها أدت إلى تقوية الموقف الإسرائيلي في الميزان الإستراتيجي، فضلاً عن اتساع نطاق هجرة اليهود السوفييت وبخاصة من العملاء وذوي الكفاءات والخبرات، وتنامت العلاقات الروسية الإسرائيلية حتى توجت بتوقيع اتفاق للتعاون الدفاعي والأمني في كانون الأول” ديسمبر” 1995، وفي ظل انفراد الولايات المتحدة بالهيمنة في الساحة العالمية، ثم توطيد التحالف الإستراتيجي الأمريكي – الإسرائيلي، وامتد إلى أنظمة التسلح الكبرى التي تعتمد في الأساس على الثورة التكنولوجية، كما أبرزت تلك التطورات العالمية علو شأن الاقتصاد والاتجاه نحو التكتلات الاقتصادية، ورغم ذلك، فلم تعد الخيارات السياسية أمام إسرائيل بالاتساع الذي كانت عليه سابقاًن وهذا ما يفسر مقولة جيمس بيكر ((إن إسرائيل الكبرى فكرة ليست واقعية وليست ممكنة))، لأن تحقق ذلك الهدف يتطلب أن يكون لدى إسرائيل قوة تمكنها من فرض سيطرتها على المنطقة دون دعم خارجي تتحمل الولايات المتحدة تكلفته السياسية والمالية وتتحمل معها مزيداً من العداء من قبل الشعوب العربية .
وعلى صعيد البيئة الإقليمية فقد أثبتت خبرة الحروب العربية –الإسرائيلية فشل الحرب في تأمين السلام لإسرائيل وعجزها عن توفير الأمن لها، في حين رأى عدد كبير من أعضاء المؤسسة الصهيونية أن التفاوض مع الحرب بضمانات دولية قد يلبي الحاجة إلى الأمن وخصوصاً في ظل تزايد إدراكها أنها رغم تفوقها العسكري لم تتمكن من فرض استسلام غير مشروط على العرب، بل على العكس فقد تمكن العرب من تجاوز العديد من مضاعفات وآثار هذا التفوق وأثبتت حرب 1973 وغزو لبنان1982 محدودية القوة الإسرائيلية وعجزها .
ثم جاءت الانتفاضة، ويمكن القول بأن أقوى ضربة وجهت لنظرية الأمن الإسرائيلي هي الانتفاضة التي أصبح بعدها من غير الممكن إنكار وجود الشعب الفلسطيني ومن هنا كان الاعتراف بهم بوصفهم “الفلسطينيين”، كما في صيغة مدريد واتفاقية أوسلو، وبذلك لم تعد نظرية الأمن الإسرائيلي تختص بالأمن الخارجي، إذ أصبح الداخل هو الآخر مصدر تهديد، وهو ما لا تستطيع إسرائيل حياله شيئاً فهي لا يمكنها أن تحرك جيوشها لقمع الانتفاضة، وبذلك أسقطت الانتفاضة الدور الوظيفي للجيش الإسرائيلي، ولو مؤقتاً، كما أنها غيرت مفهوم الأمن لديها كونه تهديداً خارجياً إلى كونه هاجساً أمنياً داخلياً لا يمكن السيطرة عليه مهما بلغت قوة إسرائيل العسكرية من بأس وشدة، ولعل هذا هو الذي دفع الإسرائيليين المطالبة بأن تتزامن توقيع اتفاق أوسلو مع إعلان الفلسطينيين وقف الانتفاضة وهو ما لم ينجح أبداً .
وأدت حرب الخليج الثانية إلى إبراز عدد من الفجوات في مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، حيث أوضحت أولاً أن الجيش الإسرائيلي لا يمتلك قدرة ملائمة مضادة للتهديدات الصاروخية لا سيما التهديدات القادمة من بعد، وأدى القصف الصاروخي العراقي – رغم محدودية تأثيره المادي – للعمق الإسرائيلي إلى انكشاف المؤخرة الإسرائيلية بما فيها من تجمعات سكانية كثيفة، وازداد إدراك أهداف إستراتيجية إسرائيلية، كما أن حرب الخليج من ناحية ثانية أظهرت استحالة قيام الجيش الإسرائيلي بتنفيذ مفهومه الأمني التقليدي القائم على نقل الحرب بسرعة إلى أرض الخصم، وخصوصاً إلى عنصر البعد الجغرافي قلل كثيراً قدرة السلاح الجوي الإسرائيلي على توجيه ضربات عنيفة إلى العراق .
يضاف إلى ذلك أن عملية تسوية الصراع العربي – الإسرائيلي سوف تكون لها انعكاسات إستراتيجية بارزة، حيث يفترض أن تفضي هذه العملية إلى قيام إسرائيل بتقديم تنازلات جغرافية إقليمية وهو ما يعني تآكل العمق الإستراتيجي والتخلي عن مفهوم الحدود الآمنة بالمعنى الجغرافي، وإقامة تعاون اقتصادي يكفل إقامة شبكة علاقات اقتصادية متداخلة بين جميع دول المنطقة .
لقد أثبتت حرب الخليج انعدام جدوى دور إسرائيل القتالي:
ثم مع سقوط الاتحاد السوفيتي وظهور النظام العالمي الجديد بدأ يتشكل مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي حسب ألوان جديدة، هي مرد تنويعات جديدة على النغمة السياسية القديمة، فالثوابت ستظل كما هي “البقاء” حسب الشروط الصهيونية وتوظيف الدولة في خدمة المصالح الغربية، ولكنها ستكتسب أشكالاً جديدة مثل التعاون العسكري مع بعض الدول العربية والمحيطة بالعالم العربي، والعدو هنا لم يعد النظم العربية الحاكمة ولا جيوشها، وإنما أشكال المقاومة الشعبية المختلفة .
والتقديرات الإستراتيجية الإسرائيلية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتدمير القوة العسكرية العراقية تخلص إلى التهوين من احتمال نشوب حرب عربية شاملة ضد إسرائيل على المستويين القصير والمتوسط ((مع عدم استبعادها على المدى الطويل، مع تحول الدول العربية نحو الشكل السلمي للصراع وفي ظل التحالف الاستراتيجي الأمريكي – الإسرائيلي، ورغم انكماش التهديدات الفعلية واسعة النطاق الماثلة أمام إسرائيل، فإن هناك طائفة واسعة من التهديدات المحتملة والكامنة والمقصورة، فمن ناحية أولى طرأت نوعيات جديدة من التهديد العسكري ليس من اليسير إيجاد حلول عسكرية واضحة لها، بل أصبح من الصعب تشخيصها وأما إذا كانت ذات طبيعة دفاعية أم هجومية، وأبرز مثال على ذلك الانتفاضة الفلسطينية، وانتشار الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والنووية ووسائل إيصالها وبخاصة الصواريخ البالستية .
ومن ناحية ثانية أدى تطور العملية السلمية وانكماش التهديدات الخارجية واسعة النطاق إلى بدء تبلور “التهديد الداخلي” الناتج عن ضعف التماسك الاجتماعي والتكامل القومي فتفاقمت التناقضات الداخلية الناتجة عن طبيعة التركيب الاجتماعي/ السياسي للدولة الصهيونية، وهو ما بلغ أخطر مراحله باغتيال رئيس
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

حماس: العدوان على اليمن جريمة حرب وإرهاب دولة ممنهج
الدوحة – المركز الفلسطيني للإعلام دانت تدين حركة "حماس" بأشدّ العبارات العدوان الاسرائيلي على اليمن، والذي نفّذته طائرات جيش الاحتلال، واستهدف مواقع...

تحذيرات من انهيار كامل لمستشفيات غزة خلال 48 ساعة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام حذر المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، اليوم الإثنين، من أن مستشفيات القطاع على شفا الانهيار خلال 48 ساعة بفعل منع...

غوتيريش: توسيع إسرائيل هجماتها بغزة سيؤدي لمزيد من الموت والدمار
نيويورك – المركز الفلسطيني للإعلام قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إن خطة إسرائيل لتوسيع هجماتها على غزة ستؤدي إلى مزيد من الموت...

غارات إسرائيلية تستهدف اليمن
صنعاء- المركز الفلسطيني للإعلام شنت طائرات حربية إسرائيلية، مساء الإثنين، غارات عنيفة استهدفت مناطق واسعة في اليمن. وذكرت القناة 12...

9 شهداء بغارتين إسرائيليتين في مخيم النصيرات
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام ارتقى 9 شهداء على الأقل، وأصيب عدد كبير من المواطنين بجروح، الإثنين، جراء غارتين شنتهما مسيّرات إسرائيلية، على منطقة...

صحة غزة: حصيلة حرب الإبادة ترتفع إلى 52,576 شهيدًا
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام أفادت زارة الصحة بقطاع غزة، بأن 32 شهيدًا منهم 9 انتشال، و119 إصابة وصلت مستشفيات القطاع خلال الـ24 ساعة الماضية....

مستوطنون يحرقون محاصيل قمح في سهل برقة بنابلس
نابلس – المركز الفلسطيني للإعلام أحرق مستوطنون متطرفون، مساء اليوم الاثنين، على إحراق أراضٍ زراعية مزروعة بالقمح في سهل برقة شمال غرب مدينة نابلس...