الخميس 27/يونيو/2024

مسؤولية بريطانيا في حرمان الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره

مسؤولية بريطانيا في حرمان الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره

استخلصت مادة هذا المقال، الذي وضعته بالأصل في اللغة الإنجليزية، من الوثائق المحفوظة في “مكتب السجلات العامة” في لندن، وهو يشتمل على الأوراق السرية لوزارة الخارجية ورئاسة الوزارة البريطانية، والتي لم يفرج عنها إلا منذ عهد قريب .

كان عام 1917 عاماً حاسماً في تاريخ الحرب العالمية الأولى: ففي ذلك العام، دخلت الولايات المتحدة الحرب إلى جانب الحلفاء، بينما انسحبت منها روسيا القيصرية نتيجة اشتعال الثورة البلشفية، وقد ساهم كلا هذين الحدثين في وضع نهاية سريعة لهذه الحرب وتفتح آمال عامة بإقرار تسوية سلمية على أساس برنامج الرئيس الأمريكي ويلسون “النقاط الأربع عشرة”، كما حمل دخول أمريكا الحرب وخروج روسيا منها في ثناياه سوء تفاهم عظيم بين العرب من جهة وبين كل من بريطانيا وفرنسا من جهة أخرى. فقد بادر حكام روسيا الجدد إلى فضح أسرار اتفاقية سايكس بيكو التي تقاسمت بمقتضاها بريطانيا وفرنسا الولايات العربية من ممتلكات الإمبراطورية العثمانية وجعلتاها ضمن مناطق نفوذها المباشر وغير المباشر، إذ أحدث فضح أسرار هذه الاتفاقية فجيعة كبرى بين العرب الذين انتعشت مطامحهم لنيل استقلالهم الوطني إثر إعلان الرئيس الأمريكي مبادئه الليبرالية، كما ساهمت أفكار الرئيس ويلسون في تشذيب مخططات بريطانيا وفرنسا الاستعمارية، وهما اللتان قبلتا، على مضض، مبدأي “حق تقرير المصير” و”موافقة المحكوم” عند النظر في بت أوضاع المناطق المستخلصة من العدو .

لقد بات معروفاً، على نطاق واسع الآن، أنه حالما بدأت الحرب العظمى الأولى سعت روسيا القيصرية إلى إقرار كل من حليفتيها، بريطانيا وفرنسا، لمطالبها بضم استنبول ومضيقي الدردنيل والبوسفور إلى ممتلكاتها، وعندما تمت الموافقة على ذلك سعت فرنسا لدى روسيا، ونالت اعترافها بالمطامع الفرنسية في سوريا، بيد أن روسيا أبدت بعض التحفظات بخصوص فلسطين بداعي أهميتها الدينية الخاصة، وكانت فرنسا قد تلقت، حتى قبل الحرب، تطمينات من بريطانيا بعدم اكتراثها بسوريا بكاملها طالما ظلت هذه جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، ولكن عندما دخلت الإمبراطورية العثمانية الحرب ضد بريطانيا وفرنسا وروسيا، وعندما حظيت روسيا باعتراف حليفتيها، رسمياً،  بمطالبها الإقليمية في استنبول ومضيقي الدردنيل والبوسفور، فاتحت فرنسا بريطانيا في أمر تحديد وتعيين مصالح كل من الحلفاء في الولايات الآسيوية للإمبراطورية العثمانية، وكان جواب بريطانيا، بهذا الصدد، أنه، مع ملاحظة أن التطلعات الإقليمية لم تتبلور بعد، قررت الحكومة البريطانية أنه:”عندما ينحسر سلطان تركيا عن استنبول والمضائق، لا بد أن تتشكل، لصالح الإسلام، وحدة سياسية إسلامية مستقلة في مكان آخر، وسيكون مقرها، بطبيعة الحال، الأماكن المقدسة، وتضم الجزيرة العربية، ولكن لا بد وأن نتفق على ما ينبغي أن تضمه إلى جانب ذلك” .

كان هذا في شهر آذار/ مارس 1915، ومن المهم ملاحظة تاريخ ودلالة هذه السياسة البريطانية التي سبقت في تاريخها مراسلات مكماهون في وقت لاحق من العام 1915، والمفاوضات التي توجت باتفاقية سايكس – بيكو في العام 1916، ووعد بلفور في العام 1917، لقد كانت تراود الحكومة البريطانية، بادئ ذي بدء، آخذة بعين الاعتبار “وحدة سياسية إسلامية مستقلة” غير تركية تتمركز حول مكة والمدينة (وربما القدس أيضاً)، وتسيطر على مناطق تشمل، فيما تشمله، الجزيرة العربية على أقل تقدير، وإذا استبدلت، في بيان الحكومة البريطانية المشار إليه، كلمة “إسلامية” بكلمة “عربية” خرجت بصورة محددة لنوع الاستقلال السياسي الذي كان يرومه شريف مكة، باسم العرب، في تموز/ يوليو 1915، والفرق الوحيد بين الحالتين هو أن شريف مكة كان أكثر دقة وتحديداً فيما يتعلق بالحدود الإقليمية، ولكن لم تكن الحكومة البريطانية قد فرغت بعد من البت في هذه القضية .

فلماذا، إذن، بدت مقترحات الشريف حسين بعد قرابة شهور أقل توافقاً مع خطط السياسة البريطانية المذكور آنفاً؟ لقد كانت مقترحات الشريف حسين قومية، وليست دينية، في مادتها ومبناها، وتنطوي في ثناياها على احتمال أقل في أن تخلق مصاعب بالنسبة لمستقبل الخلافة ومطالب السلطان العثماني بها، إذ، كما تبين فيما بعد، عند إعلان “الثورة العربية” في حزيران/ يونيو 1916 تعاطف مسلمو الهند مع السلطان بصفته الخليفة الشرعي، واعتبروا الثورة خروجاً على الوحدة الإسلامية، بيد أن هذا لم يكن السبب الرئيسي للتحول الذي طرأ على السياسة البريطانية، وازدواجية نظرة بريطانيا إلى غايات “الثورة العربية”، لقد انصب اهتمام بريطانيا الأساسي في نظرتها “للثورة العربية” كعنصر من عناصر المجهود الحربي ضد تركيا، إن ما أفسد فرص تحقيق تفاهم عربي – بريطاني دائم، وأحبط محل السيطرة التركية، كان مجموعة مترابطة من العناصر التي، عندما نتمعن فيها بعد انقضاء هذا الزمن الطويل، ندرك أنه ما من قوة على الأرض، في ذلك الوقت كانت قادرة على الوقوف أمامها، وهذه المجموعة المترابطة من  العناصر هي مطامع فرنسا، والمصالح الإمبراطورية البريطانية، والمطامع الصهيونية، وخليط من الرومنطيقية والرياء لدى السياسيين البريطانيين النافذين .

وتظهر القراءة الدقيقة لمراسلات مكماهون أن مطالب فرنسا في سوريا كانت وراء التحفظ البريطاني الرئيسي حول الحدود الإقليمية التي وردت في مقترحات الشريف حسين، إذ سرعان ما تبين أن فرنسا قد طالبت بأن تشمل منطقة نفوذها سوريا الجغرافية بكاملها بما فيها لبنان وفلسطين، ولكن بريطانيا التي كانت تتحمل، عندئذ، العبء الرئيسي في محاربة تركيا في العراق وجنوب سوريا، كما كانت لديها بعض المخططات للاحتفاظ بوضع خاص في العراق، سرعان ما تحولت عن موقف اللامبالاة وعدم الاكتراث إلى الرغبة العارمة في تأمين منفذ إلى خليج عكا على البحر المتوسط وممر أرضي إليه .

وكان لكل من روسيا وفرنسا مصالح دينية وثقافية في فلسطين، وهذه الوقائع والمطالب الشاذة هي علة البنود الشاذة لاتفاقية سايكس – بيكو التي قضت، بعد إشباع مطالب روسيا الإقليمية في جهة أخرى من تركيا، بتقسيم الولايات العربية في العراق وسوريا الكبرى بين بريطانيا وفرنسا وأبقت فلسطين جانباً لنظام دولي يقام فيها بعد إجراء مشاورات بشأنه بين الحلفاء وشريف مكة، ويدل هذا البند الأخير على أن المصالح الدينية المسيحية والإسلامية وحدهما اعتبرتا جديرتين بالبحث .

وقد اصطدمت تطلعات الصهيونيين بعنصرين، على الأقل، من عناصر تركيبة المصالح هذه، وهما المصالح العربية والفرنسية، إلى جانب المصالح الروسية قبل الثورة، وقد كان الصهيونيون على درجة كبيرة من الدهاء عندما سعو إلى التحالف مع أقل هذه العناصر المتصارعة تشدداً وهم البريطانيون، فاتجهوا، بناء على ذلك، إلى التحالف مع المصالح الإمبراطورية البريطانية التي كانت فلسطين تسيل لعابها كقاعدة ضرورية لحماية قناة السويس والدفاع عنها، وقد كان الصهيونيون يدركون أنهم يواجهون، في مسعاهم للحصول على اعتراف بريطاني بإنشاء وطن يهودي أو دولة يهودية في فلسطين، معارضة شديدة ومنافسين أقوياء، ولكنهم جازفوا بتجاهل هذه جميعها، وكانت أعظم مقامرة أقدموا عليها هي تجاهلهم الصارخ لواقع الأشياء، بغض النظر عما تقرره الدول العظمى مجتمعة أو منفردة، وهو أن الغالبية الساحقة من سكان فلسطين هم من العرب المسلمين والمسيحيين الذي تعود جذورهم الدينية والثقافية والقومية عميقاً في تربة البلاد، وعلى مدى قرون عديدة ليس منذ الفتح العربي فحسب، بل قبله بزمن بعيد .

ولسنا هنا في معرض سرد الملابسات التي جعلت الصهيونيين يفلحون، رغم كل هذه الظروف والأوضاع المناقضة لجوهر تطلعاتهم، في إقناع كبار الساسة البريطانيين بمزايا التحالف البريطاني – الصهيوني، ونكتفي في هذه العجالة بالقول أنه إثر نجاح الصهيونيين في كسب رئيس الوزراء لويد جورج ووزير الخارجية بلفور إلى جانبهم أطلقت يدا السير مارك سايكس، الرومنطيقي الساخر وأحد واضعي اتفاقية سايكس – بيكو، في إجراء الترتيبات لوضع فكرة الصهيونيين وخطتهم موضع التطبيق، وقد أشار عليه لويد جورج نفسه أن يعمل نحو “فلسطين بريطانية”، وأن يقوم بالتفويق بين مآرب الصهيونيين وتطلعات كل من فرنسا والفاتيكان .

عندما أصدرت الحكومة البريطانية، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1917، وعد بلفور الشهير والذي يعرب عن عطفها على فكرة تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين كان نصف البلاد ما زال في ظل السيادة العثمانية واقعياً وقانونياً، وكذلك، أن وعد مكماهون للعرب في تشرين الأول/ أكتوبر 1915، وإن لم يتضمن جهاراً فلسطين بكاملها، فإنه لم يستبعدها استثناء، وفي الاتفاق الذي تم في عام 1916 بين روسيا وبريطانيا وفرنسا أبقيت فلسطين جانباً لإقامة نظام دولي فيها بعد التشاور مع شريف مكة، وفي ضوء هذه الظروف والأحوال، كان إعلان بريطانيا عن تحبيذها لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين خطأ سياسياً وأخلاقياً فاضحاً، إذ أنها أغفلت إغفالاً تاماً أن تأخذ في الحسبان أمر سكان فلسطين العرب أو استشارة أي من زعمائهم، ناهيك عن حليفها المخلص شريف مكة .

وكان اللورد كرزون وحده بين المسؤولين البريطانيين آنئذ، وهو نائب الملك في الهند سابقاً والوزير البارز في وزارة الحرب، الذي توقف بعض الوقت عند المضامين والمغازي التي ينطوي عليها وعد بلفور، مبيناً أثناء جلسة مناقشته في الوزارة البريطانية في أن إعطاء هذا الوعد افتئاتاً على حقوق مصالح إسلامية وعربية أساسية، فقد قال حسبما ورد في سجل وقائع الاجتماع الذي جرى في 4/10/1917:”كيف يعقل أن يقترح التخلص من أغلبية السكان الحاليين المسلمين وإحلال يهود محلهم؟”. وهو يرى أن تأمين حقوق مدنية ودينية متساوية لليهود المقيمين في فلسطين سياسة أفضل من العمل على إعادة اليهود إلى فلسطين على نطاق واسع، وهو “أمر يعتبره من مظاهر المثالية العاطفية التي ينبغي ألا يكون لحكومة صاحب الجلالة شأن بها من قريب أو بعيد” .

وقد بلور كرزون وجهة نظره في مذكرة قدمها إلى الوزارة مؤرخة في 26/10/1917، أوضح فيها بجلاء المكانة التي تحتلها مدينة القدس في دنيا الإسلام والمسيحية، ويشير إلى المشكلة الإنسانية التي ينطوي عليها وعد بلفور إذ يقول :”يوجد هناك ما يزيد على نصف مليون من العرب السوريين، وقد استوطنوا هم وأجدادهم البلاد منذ قرابة 1500 عام، وهم أصحاب الأرض التي يتقاسم ملكيتها الملاكون الفرديون والمجتمعات القروية، ولن يرضى هؤلاء بمصادرة أراضيهم وانتزاعها منهم لتسليمها للمهاجرين اليهود أو أن يكونوا مجرد حطابين وسقائين لهم” .

وفي اجتماع الوزارة البريطانية بتاريخ 31 تشرين الأول/ أكتوبر أوضح بلفور نفسه ما يفهمه من التعبير “وطن قومي يهودي”. يعني شكلاً من أشكال الحماية البريطانية أو الأمريكية أو غيرهما ستتوفر لليهود في ظلها مرافق وتسهيلات كافية تتيح له بناء مقومات خلاصهم الذاتي فيرسون بالمؤسسات التربوية والصناعية قواعد مركز حقيقي للثقافة  القومية وموئلاً للحياة القومية، وهو لا ينطوي بالضرورة على تأسيس دولة يهودية مستقلة في أمد قريب، إذ يتوقف هذا الأمر على التطور التدريجي وفقاً لسنة التطور السياسي المعهودة” .

لا ريب أن بلفور كان يتمتع بالقدرة على عرض الأمور بوضوح، ولكنه كان أيضاً مبرزاً في طمس الحقائق وتشويهها بشكل فاضح، ففي اجتماع مجلس الوزراء في 4/10/1917 ادعى، ضمن ما ادعاه، أن الرئيس الأمريكي آنذاك، ودرو ويلسون، كان يحبذ إصدار وعد بريطاني يعلن العطف

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات