السبت 05/أكتوبر/2024

ماذا وراء مبادرة السيسي؟

مؤمن بسيسو

النداء أو المبادرة التي أطلقها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مؤخراً بهدف إعادة الروح لمسيرة التسوية الفلسطينية الإسرائيلية وإنهاء الانقسام الفلسطيني الداخلي، لا تنبني على أسس موضوعية، وتستبطن أغراضاً أقرب ما تكون إلى الدعاية الشخصية المجردة، والرغبة في إعادة تصدُّر المشهد السياسي داخلياً وخارجياً.
الدوافع والأسباب
لا يخفى على أحد حجم الأزمة الداخلية وطبيعة التحديات التي يواجهها السيسي حالياً على مختلف الأصعدة والمستويات.
أول الأخطار والتحديات التي تقض مضجع السيسي تكمن في النقد الداخلي المطرد الذي يحمّله مسؤولية الفشل في مواجهة الأزمات المصرية الداخلية، والذي بلغ حدّ الدوائر المقربة منه التي جاهر البعض منها بنقد الرجل في وسائل الإعلام وعلى رؤوس الأشهاد، بعد أن كان مجرد نقد الرئيس يعتبر أهم المحظورات وأخطر المحرمات في مرحلة ما بعد الانقلاب على مرسي وسيطرة السيسي والمؤسسة العسكرية على مقاليد الحكم في البلاد.
بل إن بعض التقارير الحساسة التي وضعت على طاولة السيسي تحدثت عن اتجاه قوي داخل بعض أجنحة النظام المصري والعديد من القوى السياسية والجماعات الحزبية التي دعمته طوال المرحلة الماضية، بمباركة بعض القوى الإقليمية والدولية لتنحية الرجل واستبداله بزعيم آخر أكثر قبولاً على المستوى الداخلي والخارجي، وأكثر قدرة على التعاطي مع مكونات المجتمع المصري والتفاعل مع أزماته المختلفة.
لذا، فإن استشعار السيسي للخطر القادم يدفعه لعمل كل ما من شأنه تكريس زعامته الداخلية، ومحاصرة جهود تنحيته واستبداله عبر صناعة أدوار جديدة ذات صدى وبريق على المستوى الداخلي والخارجي. 
في ذات الوقت يشهد الوضع الاقتصادي تدهوراً متزايداً في ظل ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وتضاعف المشكلات والهموم المعيشية للغالبية الساحقة من المصريين، وهو ما رفع حدة النقد للسياسات الاقتصادية التي ينتهجها نظام السيسي، وقذف بالرجل في دائرة الاستهداف وتحمل المسؤولية.
من هنا فإن الرغبة في التغطية على الأزمات الداخلية الخانقة أملت على السيسي إطلاق فقاعات سياسية وإعلامية كبيرة بهدف تلهية الشعب المصري، ولو جزئياً، عن معضلاته العميقة ومعاناته الكبرى.
بين هذا وذاك يحاول السيسي جاهداً إعادة مصر إلى سابق عهدها ودورها الإقليمي بعد أن ظل منكفئاً على الشأن المصري الداخلي وصراعاته المريرة طيلة السنوات الماضية.
وفي كل الأحوال يأمل السيسي أن يحظى بدور ومكانة على الساحة الإقليمية والدولية انطلاقاً من أهمية وحساسية ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فضلاً عن ملف المصالحة الفلسطينية الداخلية، بما يمكّنه من استثمار ذلك في إطار المشهد المصري المضطرب، وتثبيت أقدامه وترسيخ ذاته في صلب المعادلة السياسية والاجتماعية المصرية الداخلية. 
العقبة الإسرائيلية
يبدو جهد السيسي الرامي إلى جمع الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني على طاولة المفاوضات في ظل المواقف المتباعدة بينهما، أمرا مستحيلاً بكل معنى الكلمة، وأشبه ما يكون بالسراب الذي يستحيل وقوعه تحت أي ظرف من الظروف.
ثمة عوائق شكلية وموضوعية تحول دون بلورة أي صيغة توافقية أو مقاربة للتسوية بين الطرفين، وتحبط أي محاولة لتقريب المواقف وتضييق الفجوات بين رؤية وسياسات الجانبين.
شكلاً، فإن دخول مصر على خط التنافس مع فرنسا التي عقدت مؤتمراً دولياً للسلام مطلع شهر يونيو/حزيران الجاري، قد يشكل خياراً جيدا” ل”إسرائيل”، لكنه لا يشكل -قطعاً- خياراً مفضلاً لدى أبو مازن والسلطة الفلسطينية.
فالرئيس الفلسطيني عباس لا يحتفظ بعلاقات متميزة أو فوق العادة مع السيسي الذي ينسج علاقات تحالف وثيقة مع خصمه اللدود محمد دحلان، ويدرك أن السيسي لا يملك، بل ولا يرغب، في لعب دور ضاغط على “إسرائيل”، وأن أقصى ما يمكنه فعله لا يتعدى السعي لترتيب لقاءات بروتوكولية ومراسم احتفالية بين الجانبين، دون أي قدرة فعلية أو خوض حقيقي في تفاصيل الأزمة التفاوضية بينهما.
لذا، فإن قبول أبو مازن بعرض السيسي وتساوقه مع خطته الرامية إلى جمع الطرفين أياً كانت النتائج، يشكل انتحاراً سياسياً ووطنياً بامتياز، ووصفة أكيدة للإيقاع به على المستوى الفلسطيني الداخلي.
في الوقت ذاته يعلق أبو مازن والسلطة آمالا بدرجة أو بأخرى على المؤتمر الدولي الذي دعت إليه فرنسا مطلع يونيو/حزيران القادم لجهة إحراج الموقف الإسرائيلي، وتسجيل نقاط إضافية في المرمى الإسرائيلي على الساحة الدولية.
ولا شك أن القضايا التي يُتوقع أن تثار داخل أروقة واجتماعات المؤتمر، وطبيعة النقاشات الخاصة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والرؤى والمواقف السياسية التي ستنطلق عبر الأثير من لدن الدول والحكومات المشاركة، كل ذلك يميل بوضوح لصالح الموقف الفلسطيني في مواجهة الموقف الإسرائيلي الذي يرفض تقديم أية بادرة حسن نية لإنجاح المفاوضات، وعلى رأسها تجميد الاستيطان وفق المطلب الرئيس للسلطة، وهو ما يجعل أبو مازن والسلطة أكثر تفاعلاً مع الجهد الفرنسي دون أي جهد آخر، رغم قناعة السلطة أن قدرة المؤتمر على توليد إجراءات عملية فاعلة لكبح التغول والتشدد الإسرائيلي لا تتجاوز الصفر.
موضوعياً، فإن حقيقة المواقف الإسرائيلية التي يعلنها نتنياهو صباح مساء لا تدع أي فرصة أو مجالا للتفاؤل بإمكانية إحراز شيء ما، ولو كان يسيراً، وهذا ما تدركه السلطة على وجه اليقين، وتبني عليه كافة تحركاتها التي تستهدف إحراج الموقف الإسرائيلي وحشره في الزاوية دولياً فحسب، والعمل على تخفيف الضغط عن موقف السلطة في ظل الخارطة الدولية المعروفة وموازين القوى السائدة حالياً.
وسط هذه الحقول الملغومة يتحرك أبو مازن بحذر شديد في إطار التعاطي مع نداء السيسي، ولا مفر أمامه من التنصل من محاولات السيسي لعقد لقاء ثلاثي يجمعه بنتنياهو وأبو مازن، لأن هذا اللقاء الذي يحاول السيسي عقده يشكل فخاً خطيراً بكل ما تحمله الكلمة من معان.
وبين الموقف الإسرائيلي المدعوم أميركياً الذي ينحاز إلى نداء وجهد السيسي ويجاهر برفض المبادرة الفرنسية، وبين موقف أبو مازن والسلطة الذي يؤيد بقوة المبادرة الفرنسية، يبدو أي حديث مستقبلي عن استحقاقات جادة لعملية التسوية اجتراراً للعبث الممزوج بالغباء السياسي، وهو ما يضع جهد السيسي -قطعاً- في خانة الفشل المحتم. 
العقبة الفلسطينية الداخلية
لا يبدو مصير جهد السيسي حيال ملف المصالحة الفلسطينية الداخلية أفضل حالاً من ملف التسوية والمفاوضات بين السلطة و”إسرائيل”.
ومما يبدو، فإن نداء السيسي الذي وجهه إلى حركتي فتح وحماس لتحقيق المصالحة لا يعدو كونه نداء إعلامياً، استهلاكياً، بالدرجة الأولى، ولا تتوفر أية إشارة أو بادرة على إمكانية تغذيته بآليات عملية قادرة على جمع الطرفين وإنهاء الخلاف بينهما.
فالرئيس المصري لا تخفى عليه حقيقة مواقف الحركتين وافتقارهما إلى الإرادة الوطنية لإنهاء الانقسام لاعتبارات وأجندات مصلحية بحتة، وأن المشكلة لا تكمن في إبرام الاتفاقات بينهما بقدر ما تكمن في غياب الإرادة وانعدام القرار.
وفي الواقع فإن السيسي لن يجد عنواناً ذا صدى يحظى بأوسع قدر من التفاعل كملف المصالحة الفلسطينية الداخلية الذي يشكل حالة أرق مزمنة لغالبية الشرائح والقطاعات الشعبية الفلسطينية، وملفا حيويا للكثير من أبناء الأمة المحبين للشعب الفلسطيني الذين يسوؤهم استمرار الانقسام وتداعياته السلبية في حياة الفلسطينيين وقضيتهم الوطنية.
تسعى القاهرة لاستغلال حماس في ضبط الحدود مع سيناء مع الإبقاء على سقف العلاقات كما هو (الجزيرة) 
وكل ما يبتغيه السيسي أن تدور عجلة الإعلام لتنطق باسمه وتشيد بجهوده وتمجّد نداءه الرامي إلى توحيد صف وموقف الفلسطينيين، وأن تنصرف الأنظار -ولو مؤقتاً- عن ثقل الأعباء وخطورة الأزمات التي تعصف بالواقع المصري الراهن.
وبعيدا عن النتائج والمخرجات المعروفة سلفا، فإن المكاسب التي سيجنيها السيسي من وراء التبني الظاهري لملف المصالحة الفلسطينية تبدو جيدة عموماً، إلا أن آثارها تبقى قصيرة المدى وسريعة التبخر والذوبان.
فالدور المصري إزاء ملف المصالحة، في غياب تفاعل حركتي فتح وحماس مع نداء السيسي، لن يكون أكثر من دور بروتوكولي لا تتجاوز حيويته وسائل الإعلام، ما يعني أن بقاء السيسي في دائرة الأضواء، فيما يخص هذا الملف كما يرغب ويشتهي، لن يدوم طويلاً.
وما يعزز هذه الرؤية أن القاهرة لم تبادر إلى أي خطوة عملية باتجاه جمع حركتي فتح وحماس حتى اللحظة، ولم تصدر عنها أية تصريحات أو متابعات سياسية لاحقة لنداء السيسي تفيد برغبتها في إعادة حمل وتبني ورعاية ملف المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام، وتقصر الأمر على الجانب الإعلامي لا غير.
والتفسير الأدق للموقف المصري الرسمي تجاه ملف الانقسام الفلسطيني الداخلي يذهب باتجاه رغبة القاهرة على المستوى التكتيكي القريب في محاولة استخدام حماس وظيفياً على صعيد حماية الحدود واستجلاب تعاونها الأمني بخصوص الأوضاع في سيناء، دون إحداث أي تغيير جوهري على طبيعة ومسار العلاقة معها أو منحها طوق النجاة عبر فتح معبر رفح، ورهن مستقبل العلاقة معها بتطورات الزمن الكفيلة بإضعافها وحملها على الاستسلام أو الانكسار بسبب ثقل وشدة الحصار.
باختصار، فإن السيسي، عبر هذه المبادرة ذات النسق الدعائي البحت، يحاول الهروب إلى الأمام، ويبتدر كل ما يؤخر خروجه من المشهد السياسي المصري في ظل شدة الاحتقان وثقل الأزمات المصرية الداخلية، ويحاول إثبات ذاته كلاعب أساس ورقم صعب يصعب تجاوزه في إطار المعادلة المحلية والإقليمية.
ومع ذلك، سرعان ما تذهب السكرة وتأتي الفكرة، وتعود الأزمات لتنتصب من جديد في وجه الجميع دون رتوش أو مساحيق.

المصدر: الجزيرة نت

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات