السبت 10/مايو/2025

ديربان الثالث

ديربان الثالث

صحيفة الخليج الإماراتية

إن أية مقارنة بين مؤتمر ديربان الأول في مطلع هذا القرن وبين ديربان الثاني ترينا حجم المتغيرات وحالة الانحسار التي أصابت العالم غير الرسمي، بحيث بدت منجزات وتطلعات ديربان الثاني أقل بأضعاف مما تحقق في الأول، وسبق لنا ذات يوم أن لاحظنا مثل هذا الفارق بين مؤتمرين مكرسين عالمياً للمرأة وقضاياها المزمنة هما مؤتمر بريوني ومؤتمر بكين، لكن الملاحظ على ديربان الثاني رغم إلقاء بعض الخطب ذات المنحى الراديكالي أنه كان أميل إلى الخفوت، لا في النبرة فقط، بل بالشعارات أيضاً، ولم يكن انسحاب وفود أوروبية احتجاجاً على وصف الصهيونية بأنها حركة عنصرية إلا تعبيراً إضافياً عن تلك المتغيرات وذلك الانحسار.

لقد عقد ديربان الثاني في ظروف اقتصادية دولية بالغة التعقيد، ولم تغب الأزمة بكل تردداتها وذبذباتها عنه، حتى لو لم يكن التأثير مباشراً، ذلك لأن المثل القائل بأن الإصابة بالبرد في بكين قد تؤدي إلى عطسة في نيويورك أو نيوزيلندا له دلالات عديدة، يمكن تقصيها في ديربان وكل المؤتمرات التي تأتي على شاكلته، ويكون فيها حوار حتى لو دار وراء الكواليس بين شمال متخم وجنوب يتضور عرياً وجوعاً.

وهذه مناسبة للتذكير بذلك الحدث الذي عصف بأمريكا والعالم في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001، فقد كانت المنظمات غير الرسمية في ذروة الالتئام الكوني، وعلى مقربة من تحقيق أهداف مدنية منشودة بقوة في العالم الثالث، لكن ذلك الحدث مارس عبر مختلف الأساليب ابتزازاً أخلاقياً وثقافياً إضافة إلى الابتزاز السياسي على مثقفين وناشطين ومنظمات مجتمع مدني، وحين جنحت الولايات المتحدة إلى عسكرة دبلوماسيتها أولاً، سرعان ما تمددت العسكرة لتشمل كل مناحي الحياة، وأقانيم العولمة الجديدة التي بشر بها الليبراليون في نهاية القرن الماضي وهي حرية انتقال المال والمعلومة والجسد سرعان ما أصابها رذاذ الدم وصار التنقل سواء للمال أو المعلومة أو الإنسان نفسه محفوفاً بالمحاذير وأوشك العالم أن يعود إلى ما قبل ثورة الاتصال أو ما سماه توفلر الموجة الثالثة. وإذا استمر العالم على هذه الوتيرة من الحذر المتبادل وبث ثقافة الرقابة الصارمة والعزف على وتر الثنائية الأخلاقية التي طرفاها خير خالص وشر محض فإن ديربان الثالث إذا انعقد سيكون في مرتبة أدنى من ديربان الذي سبقه، ورغم توفر أسباب كافية للحراك السياسي والمدني في العالم كله، إلا أن هناك خمولاً بدأ يشمل حتى من كانوا بالأمس الأشد حماسة وراديكالية. وباختصار فإن مجمل الوقائع التي استهل بها القرن الحالي عقده الأعجف الأول لم تكن في مصلحة من عولوا على المنظمات غير الرسمية. وهي التي بدت في ديربان الأول كما لو أنها القطب الآخر في حرب باردة من طراز جديد لا تكون أسلحتها نووية أو صواريخ عابرة للقارات، بل مفاهيم ثقافية وتشكيلات مدنية عابرة للحدود واللغات.

لقد هيمن التوصيف لديربان الثاني على التحليل والمقاربات وذلك إما تهرباً من تشخيص الأسباب الطارئة، أو تقصيراً عن بلوغ جوهر المسألة.

فنحن نعيش أياماً وربما أعواماً أو عقوداً تراجعت فيها الأحلام، وصار التأقلم مع الأمر الواقع بديلاً سلمياً لأشواق التغيير.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات