السبت 10/مايو/2025

روح المقاومة تواجه روح الطغيان

روح المقاومة تواجه روح الطغيان

أكتب هذا الحديث وقد ألّح عليّ موضوعه بفعل متابعة ما يجري في جبهة فلسطين وعلى الصعيد العالمي في حرب العولمة التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الكيان “الإسرائيلي”.

كنتُ في حديثي السابق بشأن “تصعيد المقاومة ضد الصهيونية العنصرية السرطانية شعاراً في مطلع عام 2003”. وعلى مدى أيام شهر بطوله تجلت أمامي روح المقاومة وهي تواجه روح الطغيان، فكان أن انشغلت بتأمل هذه الظاهرة والنظر فيها.

“الروح” الروح في أبسط تعريف لها هي “ما به حياة النفس” واللفظ يذكّر ويؤنّث. و”روح المقاومة” من ثم هي “ما يبث الحياة في المقاومة ويوفر لها قوتها الفاعلة”. و”الطغيان” هو تجاوز الحد في الظلم . وروحه ما تبث الحياة فيه. وما نشهده من أحداث ونسمعه من أقوال في هذه الفترة من تاريخ عالمنا يقدم لنا صورة واضحة لروح الطغيان وهي تتجاوز الحد في الظلم. ولروح المقاومة وهي تواجهها. ويكفي أن نتابع ما تفعله الإدارة الأمريكية في التحضير لضرب العراق، وما يفعله الصهاينة من جرائم يومية في فلسطين، ثم ما يواجهها من مقاومة هناك وفي عالمنا.

ما جرى يوم السبت (25/1/2003) في قطاع غزة، مثل من أمثلة، نختاره للتعمق في فهم هذه الظاهرة. وقد وصفه تقرير ميداني جاء فيه:

“بدأت الجريمة حوالي الساعة العاشرة والنصف من مساء ذلك اليوم، عندما اجتاحت أعداد كبيرة من قوات الاحتلال الصهيوني تضم أربعين دبابة وآلية عسكرية، يرافقها جرافات عسكرية ضخمة وغطاء جوي من أربع طائرات مروحية، حي الزيتون منطلقة من شارع صلاح الدين حيث مستوطنة نتساريم، ومن شارع استيطاني عند مفرق الشهداء”. نلاحظ هنا دور المستعمرة المستوطنة الصهيونية.

 

هكذا روح الطغيان تدبر العدوان وتباشره. ويمضي التقرير الميداني في وصف ما يجري.

“بداية، سيطرت قوات الاحتلال على منطقة عسقولة، ثم قامت بتفجير أكثر من عشر ورش صناعية وملحقاتها من مخازن، وما جاورها من منازل ومحلات تجارية، مما أدى إلى تدميرها، إضافة إلى تدمير منزلين للسكن فوق ورشتين. كما قامت قوات الاحتلال باعتقال عدد من أصحاب الورش الصناعية لمدة اثنتي عشرة ساعة دون التحقيق معهم”. وما أسرع ما برزت روح المقاومة وتجلّت وهي تواجه روح الطغيان.

يقول التقرير “لوحظ في بداية الاقتحام وجود مقاومة محدودة من قبل المواطنين، ولكن ما لبثت أن اشتدت هذه المقاومة بشكل مطِّرد ومتسارع، حتى بلغت أوجها عند وصول قوات الاحتلال منطقة الشجاعية (لمحطة)، مما جعل العدو يفقد صوابه، فكان أن أطلق عدداً من الصواريخ والقذائف المدفعية على المقاومين، مما أدى إلى استشهاد عدد كبير منهم وإصابة أكثر من خمسين مواطناً بجراح مختلفة. كما أصابت بصورة مباشرة سوق الشجاعية، مما أدى إلى اشتعال الحرائق في ستين (كشكاً) تجارياً.

في ساعات الفجر الأولى حوالي الساعة الثالثة والنصف من صباح يوم الأحد 26/1/2003 انسحبت قوات الاحتلال لمواقعها التي انطلقت منها، مع بقاء غطاء جوي حتى الخامسة صباحاً ليغطي عملية الانسحاب.

تراوحت أعمار الشهداء بين 16 و28 عاماً ، وكان من بينهم عدداً من أفراد الأجهزة الأمنية. وقد قدرت الأضرار المادية مبدئياً بما يزيد عن مليوني دولار”.

واضح من هذا العدوان الصهيوني أن روح الطغيان عند الصهاينة تدفعهم إلى اقتراف أبشع الجرائم وتصوِّر لهم أنَّ بإمكانهم إرعاب شعب فلسطين العربي صاحب الوطن الذي استهدفوه باستعمارهم الاستيطاني. وعبثاً تتالى عدوانهم منذ قامت انتفاضة الأقصى رداً على اقتحام مجرم الحرب شارون الجرم القدسي يوم 28/9/2000، والشعب العظيم صامد يقاوم.

ما هو أثر هذه الجرائم الصهيونية على الشعب الصامد المقاوم؟ سؤال ما أكثر ما يتردد في أوساط الأمة من منطلق الحرص على أبنائها هناك.

لقد وجدت جواباً على السؤال في رسالة وصلتني من أحد المقاومين أستهلها “بتحية الرباط الذي ما بعده رباط”. وجاء فيها:

“نحن ما زلنا حتى اللحظة بخير.. وليس هناك خيرٌ أعظم من منحة الرباط على أرض الرباط المقدسة.. معنوياتنا عالية جداً.. وليس من رجاء أرجوه من الله سبحانه سوى الشهادة مقبلاً غير مدبر، وأن أُحشر مع من أحب ممن سبقني في هذه الدنيا الفانية إلى الفوز العظيم..”.

وتمضي الرسالة معبرة عن روح المقاومة “لست وحدي الذي أصبح يستهين بهذه الدنيا الفانية والحياة الزائفة.. ولست وحدي الذي لم يعد للخوف أو الانكسار مكاناً بين جوانحه. إن أعظم ما نتج عن الانتفاضة. وما يتبعها من محن وابتلاءات أن الشعب الفلسطيني لم يعد يعرف الخوف، وأنه انتصر في داخله على الخوف، والمحتل. وأعظم ما في صوره الأطفال الذين يرجمون الدبابات بالحجارة أن هؤلاء يترجمون قولهم عملياً للغاصب المحتل وهو بداخل الدبابة (نحن لا نخافك.. وها أنت تختبئ داخل قلعتك الحصينة. وسوف نقاومك بما نملك.. بحجارتنا.. بصدورنا العارية). كان العدوان على غزة بالغ الوحشية. استخدم فيه العدو الصهيوني مختلف وسائل البطش من مروحيات ودبابات وجرافات وقذائف مدفعية وصاروخية، وقصف صاروخي ونسف للمحال والمنازل وهرس للسيارات وتخريب للطرق وشبكات الماء والهاتف والكهرباء . وقد واجهت العدو مقاومة صلبة أصابته بالجنون وفقدان الأعصاب. وحين غادرت قواته المدينة كان الدمار هائلاً. ولكن ما أسرع أن رأيت الناس بأم عيني يباشرون ترميم (المنازل والمحال والورش والمصانع التي تضررت جزئياً. لقد أدركت أن الله يصنع على عينه هذا الشعب من جديد، ويعده لمرحلة الاستبدال القادمة”.

لقد تضمنت الرسالة مثلاً على روح المقاومة يوقف أمامه. فقد حدث أن اتجهت قوات الاحتلال إلى منزل عائلة الشهيد الدهشان. وحاولت إرغام أفراد العائلة على الخروج من المنزل لتقوم بنسفه. “وإذا بالعائلة المؤلفة من خمسين فرداً ترفض، فيهددها العدو المجرم بنسف البيت على رؤوس أفرادها، فيتابعون رفضهم بإصرار. ويضطر العدو المجرم أن يتوقف.. ولو إلى حين”.

يُعلن محرر مجلة “الوسط” الأسبوعية (31/1/2003) بعد عرض وقائع مجزرة غزة، قائلاً “لقد جاءت هذه المجزرة لتكشف حجم الإرهاب والعلو والإفساد لهذا العدو المجرم، وحجم الظلم الذي تمارسه أمريكا ومن خلفها الغرب، وحال الضمير العالمي. فرغم ما لحق بنا من دمار هائل، لم يتحرك أحد، ولم نسمع إدانة من أحد، ولا صوتاً هنا أو هناك يستنكر هذه المجزرة الوحشية”.

لافت أن أفراد الشعب الفلسطيني المقاوم يربطون بين طغيان الصهاينة وطغيان قوى الهيمنة الأمريكية. شأن غالبية أبناء أمتنا. ولا عجب، فالعدو الصهيوني يقاتلهم بالسلاح الأمريكي ويقيم مستعمراته الاستيطانية بالمال الأمريكي، ويتجرأ على رفض القرارات الأممية وانتهاك القانون الدولي لأن أمريكا تدعمه، والفيتو الأمريكي في مجلس الأمن يحول دون إصدار أي قرار يدينه.

الأمثلة على روح الطغيان التي تتلبس قوى الهيمنة الأمريكية تتجلى كل يوم هذه الفترة في استهداف إدارة بوش العراق، وفي التعامل مع قضية فلسطين. وأبرز ما في روح الطغيان اعتماد المعيارين في التعامل مع القضايا. وقد أحسن فريق جريدة الأهرام الذي حاور مؤخراً بعض مسئولي هذه الإدارة الأمريكية حين ركز في أسئلته على هذه النقطة. وكم عبّرت أجوبة رايس وبيرنز عن هذه الروح الطاغوتية. وهي تستحق حديثاً خاصاً. ونكتفي هنا بالإشارة إلى اعتبارهما ما يقوم به الصهاينة من جرائم مبرراً في زعمهما حرباً ضد الإرهاب، وإنكارهما حق المقاومة، ناهيك عن مجاهرته بضرورة الدعم الأمريكي “لإسرائيل”، وبإعطاء ضوء أخضر لشارون المجرم كي يتابع إجرامه .

سؤال آخر وثيق الصلة بروح المقاومة حول قدرة الشعب الفلسطيني المقاوم على الاستمرار والعيش في ظل الظروف المحيطة.

لقد استوقفتني إجابة الأخ د. جواد العناني عن هذا السؤال في ختام مقاله “وماذا بعد في فلسطين؟” الذي قرأته في نشرة الوسط نقلاً عن صحيفة أخرى. فقد قال:

“والسؤال الأهم: من أين يأتي الشعب الفلسطيني بالقدرة على الاستمرار والعيش فال المؤسسات لا تعمل والمصانع إلا من قليل مغلقة، والزراعة إلا من بعض الأماكن إما معطلة أو دمرت بفعل الآلة الحربية “الإسرائيلية” ، والخدمات شبه معدومة، والادخارات قد شارفت على النضوب، وعدد الجرحى والمعوقين الذين بحاجة للرعاية في ظل ظروف مدلهمة يزداد يوماً بعد يوم، فكيف يستطيع الفلسطينيون الاستمرار؟.

إذا دخلت في مفهوم (الجدوى المادية) ، فالجواب عزيز غير ممكن، أما إذا ذهبت إلى المعنويات، والإرادة، والطاقة الكامنة، فسوف ترى الجواب وتسمعه. وهذه الروح التي هي من علم ربي ليست سراً في إبقائها على الحياة، ولكن في دفعها للمقهور حتى ينتصر، وفي تثبيتها للضعيف حتى يكتشف في نفسه قوة لا يعلمها. والآن وبعدما اكتشفنا نقاط الضعف المادية، إلا أن مائة صابرة من الفلسطينيين ستهزم روح مائتين من “الإسرائيليين” وعقلهم وسيتحول عبء الزمن وطوله على “الإسرائيليين” حتى يفشلوا في تحقيق مرادهم في قهر الروح، وتحفيز مشاريع الخوف حتى يرحل الناس. وقلبي مع كل أم فلسطينية تعاني وهي تعلم أن الجنة تحت أقدامها وفي أهاب ابنها الشهيد، ومع كل طفل يرى في المقلاع والحجر ما يخيف الدبابة ومن وراءها، ولكن الوقت سيبقى في عيوننا نحن المتفرجين الراغبين طويلاً، ولكنه قصير عند من وهبه الله نعمة الثبات والتحدي، ولا بد لهذا الليل من آخر”.

وبعد..

فإن للتاريخ عبره التي من خلال تمثلها يكون استشراف المستقبل وصنعه. ومن عبر التاريخ أن روح الطغيان تنتهي بالطاغوتيين إلى تحكم غطرسة القوة فيهم ومن ثم إلى اختلال بصيرتهم ومن ثم إلى الهزيمة والانكسار ومن عبر التاريخ أيضاً أن النصر في آخر الأمر لروح المقاومة التي تضع نصب العين هدف التحرير وتحث على العودة إلى الميزان وصدق الله العظيم “والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان”.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات