أطباؤنا: بين وَجَع الضمير.. وأَلَم المريض

منذ أن وقف المرحوم ياسر عرفات وقفاته التاريخية في كامب ديفيد و”واي ريفر”، رافضاً التنازل عن الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، وعن حقوق الأجيال القادمة في الدفاع عن الهوية الوطنية.. منذ تلك اللحظات، وقبلها وبعدها، بُدئ بمحاصرة الشعب الفلسطيني، تحت عناوين تختلف من وسيلة إعلام إلى أخرى، ومن حكومة إلى أخرى.
وعندما جاءت حماس، بحلتها الخضراء، إلى الحكم وجد المُحاصِِرون مادة دسمة لتبرير الحصار، وتنوع أسبابه.. إذ أنهم لم يلتفتوا إلى أنها إرادة شعب عبر عنها في صندوق الاقتراع، بل إن وسائل الإعلام المعادية، وشبه المعادية وحتى الصديقة منها أخذت تتباكى على شعب انتخب حكومة إرهابية (!!)، حتى أن البعض قد ذهب به الاستخفاف بإرادة شعبنا إلى حد القول بأن هذا الشعب قد انتخب حكومة معادية له، ولمصالحه، ولمستقبل أجياله.
أما وسائل إعلامنا الوطنية فقد كانت، من حيث تدري أو لا تدري، أسيرة لتلك الرؤى، عندما أخذت تروج لها وتعيد صياغتها، ليس لنفيها وفرز السم من الدسم فيها، بل لتأكيدها والرقص على ألحانها. حتى أن حكومة حماس نفسها، وحكومة الوحدة الوطنية الحالية، فإنها، حتى اللحظة، تدور في إطار الدفاع عن الحكومة وبرنامجها. ليبدو الأمر وكأننا متهمون بما “يخدش حياء!!” الأمم والشعوب التي تنظر إلى شعبنا الذي يعاني آلام الفقر والفاقة وضنك العيش!!.
يبدو أننا لم نقف، حتى اللحظة، لنتحدث بلغة جلية واضحة تفيد بأن الجذور التاريخية للحصار الحالي تعود إلى اللحظة التي رفض فيها القائد التاريخي المرحوم أبو عمار الإمعان في التنازل.. تلك اللحظة التي وقف فيها أبو عمار، بصلابة الرجال، مطالباً القيادتين الأمريكية والإسرائيلية دفع فواتير الاتفاقيات والتفاهمات والودائع، وعلى رأسها “اتفاقية أوسلو” المشئومة، التي رَعَتْها، بل بَرمَجتها، دول عظمى (على رأسها الولايات المتحدة) وصفقت لها دول صغرى وأخرى شقيقة.. تلك اللحظة التي كان فيها ياسر عرفات يسند ظهره إلى صخرة حماس بقيادة المرحومَيْن أحمد ياسين والرنتيسي، والجهاد الإسلامي بقيادة المرحوم د. فتحي الشقاقي، والجبهة الشعبية بقيادة المرحوم أبو علي مصطفى، وأحرار الأمة بقيادة المرحوم صدام حسين..
عندئذ، تم إخراج ملف ياسر عرفات من المغلف الأبيض وما يحتويه من جوائز للسلام، إلى المغلف الأسود وما يحويه من صفات الإرهاب.. فكان ما كان من نكران له كشريك في “سلامهم المخادع”، وكان ما كان من حصار، وابتزاز، وتشويه للحقائق إلى أن انتهى الأمر باغتياله بطريقة لم نفهمها بعد.
أما الشعب الفلسطيني، بمختلف شرائحه، فقد تم تفصيل الحصار على مقاس كل شريحة على حدة، بما يضمن لها العيش في ضنكٍ، وألمٍ، ووجع وبما يسبب لها الشلل والعجز التام عن القيام بواجباتها اتجاه نفسها واتجاه مجتمعها. وأقول لمن يريد التوثيق وللباحثين من علماء اجتماع وعلماء اقتصاد وغيرهم، بأن المجال مفتوح لكم لكي توثقوا بالصوت والصورة، وبالرقم الدقيق كيف يموت الشعب ببطء.
أما كاميرتي “المتواضعة” فقد التقطت العديد من الصور الناطقة التي تتحدث عن نفسها، والتي تعتبر شاهداً على الظلم الذي يمارسه العالم بشماله وجنوبه، وبالنامي منه والمتخلف، بمن يسكن في قصور مذهبة ومن يتوارى تحت خيمة ممزقة.. ولعله من الإنصاف أن نتحدث عن أبشع الصور وأكثرها إيلاماً لمن تبقى لديه شيء من ضمير، ألا وهي وضع المرضى في مشافينا. إذ لا يخفى على أحد بأن مشافينا الحكومية قد استُهدِفَت بالحصار من حيث الأدوية، والمعدات، والأدوات، والمواد… الخ.
ولو قُدّرَ لك أن تسأل المُحاصِر عن سبب شمول المؤسسات الطبية، بل التركيز عليها، بهذا الحصار، لواجهك بضحكات جنونية تقرأ بين نغماتها “النشاز” ما يوحي بأن الهدف يكمن في أن أجمل ما في الحصار (من وجهة نظر المحاصِر) أن تسمع صرخات المرضى وآلامهم.. وأن أجمل ما في صرخات المرضى أن تصدر عن مريضٍ وقد اتسع جرحه، وتُرِك لمهب الريح ليتعفن ويغور لينخر العظم.. وأن أجمل الأجمل في هذا كله أن يكون المريض من ذوي الكلية التي تُبقي السموم في جسده، أو أن شرايينه الرئيسية والفرعية تعاني من إغلاق جزئي أو كلي؛ لتتمتع برؤيته وهو يموت ببطء.. بهذا، وبغيره، يكون الحصار قد فعل فعله.
ولكي تضمن استمرار الألم، وانتشاره، واتساعه ليؤدي إلى الإحباط، وفقدان الثقة، ولضمان الانهيار التام.. عليك أن تحاصر الأطباء، وتُجَوِّعَهُم، وتُلاحِقهم في حلهم وترحالهم، وألا تبقي لهم أي قدرة على فعل شيء لمرضاهم.. فحرمان الطبيب من راتبه، وتفريغ مؤسسته الطبية من الحد الأدنى مما يتطلبه علاج مرضاه، بل حتى إسعافهم أولياً، يضمن عدم قدرة هذا الطبيب على فعل شيء لمرضاه؛ المقيمين و/أو الطارئين. وفي هذه الحالة تضمن الاشتباك الدائم بين الطبيب ومريضه (بل بين أسر المرضى وموظفي المستشفى)، وبهذا تتخلخل أركان المجتمع، وتهتز ثقة الكل بالكل.
هذه هي الصورة، كما هي؛ بلا رتوش أو ادعاء.. طبيب يعاني من وجع الضمير، ليس لعدم استعداده لمعالجة مرضاه، وليس لعدم جاهزيته العلمية للقيام بذلك، وليس لعدم انتمائه لمهنته.. بل لأن الحصار المفروض عليه، ومخطط “تجويع الشعب الفلسطيني” الذي صاغته عواصم العالم، برباعياته والمتعددة الأضلاع، تهدف إلى ابتزاز جيوسياسي للشعب الفلسطيني، غير مرتبط بحكومة بعينها، أو بحزب بعينه، أو بفصيل بعينه.. بل أن المستَهدَف هو شعب فلسطين بكامل شرائحه، وبكامل مكوناته الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية والعلمية… الخ.
الأمر الذي يتطلب من صانعي القرار وعلى رأسهم وزير الصحة، والإعلاميين وعلى رأسهم وزير الإعلام، بأن تتضافر الجهود لفضح نتائج الحصار على المستوى الطبي الذي أفقد المواطنين صوابهم، ولكي لا تتيه البوصلة الوطنية، أكثر مما هي عليه الآن. إذ لا بد من إبراز الحقيقة الساطعة؛ التي لا تخفى على أحد، وهي: “أن المستهدف بالحصار هو الشعب الفلسطيني بأرضه، وإرادته، وهويته ووجوده ببعديه المادي والمعنوي، وأن استهداف المرضى هو ممارسة “للقتل العمد” لطيف واسع من هذا الشعب”.
أما المؤسسات غير الحكومية العاملة في المجال الطبي، ورغم علمنا التام بما تعانيه من أزمات حقيقية، فكلنا أمل بأن تصمم برامج طوارئ لإسناد المؤسسات الطبية الحكومية باستقبال المرضى، وفق شروط مخففة، تراعي الظروف الاقتصادية الشرسة التي تنهش فؤاد المريض وأهله وذويه.
هكذا نجد أنفسنا أمام الحقيقة، بما فيها من مرارة، علينا أن نقولها لمرضانا، وأيتامنا، وأسرانا البواسل، وطلبتنا، وفقرائنا والأشد فقراً من أبناء شعبنا، وهي: أن الحصار سيطول، وأن حكوماتنا عاجزة عن اختراقه، فإرادتكم هي المستهدفة، ووجودكم على هذه الأرض هو سبب الحصار..
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

مستشفى الكويت الميداني بمواصي خانيونس يقلص خدماته بسبب الحصار
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أعلن مستشفى الكويت التخصصي الميداني في مواصي خانيونس عن اضطراره لتقليص عدد من خدماته الطبية، وسط الأوضاع الصحية...

جيش الاحتلال يفرض إغلاقًا على قرية المغير في رام الله
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام فرضت قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي، اليوم السبت، إغلاقًا على قرية المُغَيِّر شمال شرق مدينة رام الله وسط الضفة...

بوريل: إسرائيل ترتكب إبادة جماعية بغزة بقنابل من أوروبا
المركز الفلسطيني للإعلام أكد المسؤول السابق للسياسة الخارجية والأمن للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في قطاع غزة، وأن نصف...

الاحتلال يواصل الإبادة بغزة موقعاً 147 شهيدًا وجريحًا خلال 24 ساعة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفادت وزارة الصحة بغزة، اليوم السبت، بأن مستشفيات القطاع استقبلت 23 شهيدا، و124 جريحا وذلك خلال 24 الساعة الماضية...

أوتشا: 70% من سكان قطاع غزة تحت أوامر التهجير القسري
نيويورك - المركز الفلسطيني للإعلام أكد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا"، أن الفلسطينيين يموتون بقطاع غزة الذي يرزح تحت حصار...

وثيقة للشاباك تحذر من خطر انتشار السلاح في الأراضي المحتلة عام 48
الناصرة - المركز الفلسطيني للإعلام حذّر جهاز الأمن الإسرائيلي العامّ "الشاباك"، من أن النطاق الواسع لانتشار الأسلحة في الأراضي الفلسطينية المحتلة...

الأونروا: الاحتلال يحرم 550 طالباً في القدس من الوصول إلى مدارسهم
القدس المحتلة - المركز الفلسطيني للإعلام أكدت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، أن سلطات الاحتلال تحرم 550 طالبا من...