اغتيال المبحوح سيؤثر على قدرة الاحتلال القيام بعمليات سرية حول العالم

لا تتوقف الحرب في الحسابات الصهيونية عند صورة واحدة.. فبينما كان الحديث عن الحرب القادمة في المنطقة يشغل، خلال الأسابيع الماضية، اهتمامات المحافل السياسية والدارسين ووسائل الإعلام، بين التوقع والاستبعاد، كان الموساد الصهيوني ينفذ في العشرين من الشهر الماضي فصلاً آخر من حروبه السرية في منطقة هادئة، وبعيدة نسبياً عن أصداء تحركات الجيوش ومناوراتها وإشارات الحرب المعلنة على الجبهات التقليدية.
لكن الشريط اضطرب وتشوش في لحظة من لحظات سير الأحداث، على نحو لم يحسبه أحد في الكيان الصهيوني، فلا المستوى السياسي ولا بارونات الموساد بقيادة مائير داغان توقعوا أن تصل واحدة من عمليات التصفية والاغتيال التي اعتاد الموساد على ممارستها بأعين مغمضة، إلى هذا السقوط والافتضاح على المستوى الدولي، ليتبين للمؤسستين السياسية والعسكرية في الكيان الصهيوني بالتالي أن الانتصار في الحرب على جبهات أخرى لم يعد ممكناً أيضاً، وأن المسلمات القديمة عن براعة وحدات الموساد وقدرة أشباحه الطائرة في الفراغ فقدت الكثير من بريقها وقدرتها على القيام بـ”عمليات نظيفة” من دون خسائر.
توصيف “السقوط” يبدو اليوم الأكثر حظاً في قراءة عملية الاغتيال الصهيونية الأخيرة لأحد قادة القسام الشهيد محمود المبحوح في دبي، في العشرين من الشهر الماضي، لكنه ليس سقوطاً استخبارياً فحسب، إنما له وجهه السياسي أيضاً في هذه اللحظات من الصراع، فضلاً عن تأثيره على اعتبارات صهيونية مهمة أخرى تتعلق بصورة “إسرائيل” في العالم، وتزايد أهمية هذه المسألة بعد حرب غزة وتقرير غولدستون.
بكلمات أخرى، فإن الإخفاق الصهيوني في القيام بعملية الاغتيال ومغادرة مسرح الجريمة وسط أدلة دامغة وانتهاكات دولية صريحة، يلقي بظلاله الثقيلة على الحكومة الصهيونية سياسياً ودبلوماسياً، كما على الجهاز العسكري والاستخباري الصهيوني، كإخفاق مفصلي في مواصلة تحقيق نجاحات على صعيد جبهات مواجهة أخرى.
ثم إن انكشاف أمر عملية الاغتيال بهذه الصورة على المستوى الدولي، وظهور براهين انتهاكها “المافيوي” للفضاء الدولي ورموز سيادة الدول وأراضيها، بدا أشبه بعملية إطلاق الكشافات على الجاني في مسرح الجريمة، وظهرت إسرائيل – بلا غطاء – كدولة إرهاب منظم تقوم بأعمال العصابات في فترة مازالت تردد أصداء مذبحة العدوان الصهيوني الأخير على غزة، وفيما يتعرض الكثير من جنرالاتها وسياسييها لاحتمالات الملاحقة الجنائية في أكثر من بلد في العالم.
-
من الحكومة إلى الموساد
مطلع الشهر الماضي عبرت سيارتان من طراز (أودي A6) البوابة الرئيسية لمبنى مقر الموساد المعروف باسم (مدراشاة – أي مدرسة) القائم على تلة صغيرة في الضواحي الشمالية لتل أبيب. ترجل رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو من إحدى السيارتين، وسار باتجاه باب المبنى، حيث كان يقف في استقباله أمير الظلام رئيس الموساد مئير داغان.
في ذلك اليوم صادق نتنياهو على قرار عملية اغتيال المبحوح، وقد أضاف المراسل “الإسرائيلي” لـ(لصاندي تايمز) البريطانية؛ عوزي محانيمي، كمعلومات من مصادر سياسية موثوق بها في القدس المحتلة، أن نتنياهو التقى في تلك الزيارة السرية عدداً من أفراد الفريق الذي نفذ عملية الاغتيال، وقال لهم إن “الشعب الإسرائيلي” يعتمد عليهم متمنياً لهم النجاح في العملية.
ومع تتالي ظهور الخفايا يوماً إثر يوم، يتضح أن جريمة الإغتيال في دبي كانت حلقة من مخطط كبير أقره المجلس الأمني الوزاري الصهيوني. وتؤكد معلومات مصادر غربية أن الحكومة الصهيونية اتخذت قبل أشهر قراراً بالبدء بحرب تفجيرات واغتيالات سرية متواصلة ومتلاحقة في عدد من الدول العربية والإسلامية، والقيام بحرب مماثلة في صفوف قوى المقاومة في لبنان وفلسطين.
ووفقاً لتلك المعلومات، فإن عملية دبي كان يفترض أن تكون خطوة في سلسلة من العمليات السرية المتنوعة وظيفتها زعزعة الجبهة الداخلية لفصائل مقاومة ودول عربية وإسلامية تتوقع إسرائيل حرباً قريبة معها. ويبدو أن الهدف الأبرز في هذا السياق هو الحصول على ذريعة حرب، حيث توقعت حكومة نتنياهو أن تؤدي ضربات الموساد “الموجعة” إلى دفع حماس وحزب الله نحو القيام برد ارتجالي تستخدمه تل أبيب مبرراً في القيام بمغامرة عسكرية ضد لبنان وقطاع غزة أو كليهما، من دون استبعاد مغامرة إسرائيلية أوسع على المستوى الإقليمي.
-
الارتداد يصيب صورة “إسرائيل”
بيد أن ارتداد الضربة إلى الصدر “الإسرائيلي” كان أشد أثراً على صورة الكيان الصهيوني، فهنا أيضاً تحطمت إجراءات واستعدادات صهيونية لحرب من طراز آخر.. لحملة واسعة بهدف إعادة موضعة “إسرائيل” في الخارج، واسترجاع ألق صورتها بوصفها “ديمقراطية” على الطريقة الغربية.
وليس من المبالغة أن كم الدراسات والتقديرات الاستراتيجية التي تناولت تحسين صورة الكيان الصهيوني في الخارج فاقت في الأشهر الأخيرة، وبعد تقرير غولدستون، ما أُعد في الكيان الصهيوني في هذا المجال على مر عقود الصراع الماضية. وتكفي الإشارة هنا إلى أن مؤتمر هرتزليا العاشر الأخير خصص لهذه الغاية جهداً من المتابعة والنقاش تحت عنوان “الصراع على الرواية” يوازي ما خصصه للشؤون العسكرية والأمن الاستراتيجي.
واليوم، ثمة من المؤشرات ما يؤكد أن كل تلك التدابير تعرضت على الأقل لصدمة عنيفة أعادتها تقريباً إلى نقطة الصفر، وذلك بفعل افتضاح عملية الاغتيال في دبي، والتي أصبحت في وقت قصير مسألة دولية بعد أن كان الصهاينة قد خططوا لأن تكون “عملية صامتة” أخرى من عمليات الموساد الناجحة.
-
فشل الموساد
إن ملابسات جريمة الاغتيال في دبي مؤهلة لأن تكون مفصلاً تاريخياً سيؤثر على قدرة الكيان الصهيوني على القيام بالعمليات السرية، خصوصاً ما تعلق منها بالعمليات التي تقوم بها وحدة “كيدون” الإسرائيلية الخاصة بتنفيذ الاغتيالات في العالم.
ويعود ذلك إلى أن الموساد سيتصرف بشديد الحذر في استخدامه لميزة أساسية يمتلكها الكيان الصهيوني أي وجود ما يقارب 800 ألف إسرائيلي يمتلكون جنسيات أوروبية، إضافة إلى جواز السفر الإسرائيلي ( جزء كبير من هؤلاء جرى تجنيده للعمل بشكل مباشر وغير مباشر لصالح جهاز الموساد)، وبالتالي يعني ذلك حرمان الموساد الصهيوني من التحرك بمزيد من السهولة والحرية في المستقبل لدى استخدام الجنسيات الغربية التي يحملها إسرائيليون.
-
نقطة فاصلة
بعد كل عملية اغتيال ينفذها الموساد، يبدأ مهرجان التباهي الصهيوني والأحاديث عن القدرات الخارقة.. لم يحدث ذلك تماماً بعد عملية اغتيال محمود المبحوح، ذلك أن الصهاينة، وهم يحاولون استرداد السمعة القديمة للجهاز، واجهوا هذه المرة سقوطاً ذريعاً في التنفيذ والنتائج.
لكن هنا ثمة ملاحظة أساسية، إذ يمكن القول إن الموساد كثيراً ما استمد صورة “انتصاراته” إن جاز التعبير، من ضعف إجراءات التحصين والحماية في الجانب الآخر، ففي كثير من الأحوال وجد أبواباً مفتوحة وثغرات وأخطاء سهلت له القيام بما أسماها عمليات سرية نظيفة أو ناجحة.
وبالنسبة إلى حركات المقاومة، تبدو الإشكالية أكثر جدلاً بالنظر إلى أن طبيعة عمل فصائل المقاومة وأساليبها وبنيتها تفترض صفات لازمة أساسية أبرزها السرية ومرونة الحماية والتمويه والاختفاء، لكن من الواضح أن الموساد استفاد، في (بعض) المرات التي نجح فيها، من تراجع الاهتمام بهذه الضرورة.
وفضلاً عن ذلك، تظهر وقائع المواجهة الاستخبارية مع الموساد على مر العقود الماضية أن قوى المقاومة لم تجر غالباً مراجعات استراتيجية للأخطاء والثغرات واختبارات السرية، واكتفت بمجموعة من الإجراءات الكثيفة بعد كل عملية (أو محاولة) اغتيال، ثم كانت تلك الإجراءات تتراجع وتغيب رويداً بمرور الوقت، لتعود بعدها ظروف ملامح الميل إلى الاسترخاء كما كانت ما قبل الحدث.
ما هو أهم من ذلك – وببعض الاستثناءات – يمكن الاستنتاج أيضاً أن هناك غياباً في بعض الأحيان لقراءة الحرب الاستخبارية بوصفها حرباً موازية للمواجهة الميدانية المسلحة، حرب لا يكتفي فيها بالدفاع والتحصين ضد ضربات الموساد، إنما تتحول مسرحاً لعمليات هجومية تأخذ فيها المقاومة زمام المبادرة، وهذا، إلى حد كبير، ما فعله “حزب الله” مثلاً في عملية استدراج العقيد الصهيوني الحنان تننباوم قبل سنوات.
واليوم، وإذ تبدو جريمة اغتيال الشهيد محمود المبحوح نقطة فاصلة في سجل إخفاقات الموساد الصهيوني (على الرغم من نجاحه في الاغتيال)، يمكن لفصائل المقاومة أن تجعل من الحدث نقطة فاصلة أخرى لتكريس الإخفاق الصهيوني في مجال الحرب السرية.. الحرب التي تنتظر بلا شك فصولاً ساخنة قادمة.
جريدة الثبات، 27/2/2010
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

حماس تُثمن حصار اليمن الجوي على دولة لاحتلال
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام ثمّنت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إعلان القوات المسلحة اليمنية فرضها حصاراً جوياً شاملاً على كيان الاحتلال...

القوات المسلحة اليمنية تُعلن فرض حصار جوي شامل على إسرائيل
صنعاء – المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت القوات المسلحة اليمنية، مساء اليوم الأحد، فرض حصار جوي على كيان الاحتلال الإسرائيلي، رداً على التصعيد...

حماس تثمن إعلان اليمن فرض حصار جوي على كيان الاحتلال
المركز الفلسطيني للإعلام ثمّنت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) إعلان القوات المسلحة اليمنية فرضها حصاراً جوياً شاملاً على العدو الصهيوني، رداً على...

منظمات أممية تعلن رفضها الخطة الإسرائيلية لتوزيع المساعدات بغزة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام رفضت منظمات أممية وغير حكومية، المشاركة في الخطة التي يستعد الاحتلال الإسرائيلي لتنفيذها في قطاع غزة بخصوص توزيع...

الاتصالات تُحذر من انقطاع الخدمة جنوب ووسط قطاع غزة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت شركة الاتصالات الفلسطينية، مساء اليوم السبت، أنها ستُنفذ أعمال صيانة اضطرارية على أحد المسارات الرئيسية في قطاع...

الدويري: عمليات القسام برفح تمثل فشلا إسرائيليا مزدوجا
الدوحة – المركز الفلسطيني للإعلام قال الخبير العسكري اللواء فايز الدويري إن عمليات كتائب القسام -الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)-...

شركات طيران دولية تلغي رحلاتها لتل أبيب عقب قصف مطار بن غوريون
الناصرة – المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت شركات طيران دولية، صباح اليوم الأحد، إلغاء رحلاتها إلى "تل أبيب"، عقب قصف مطار بن غوريون الدولي. وبحسب...