إسرائيل أو اختراع الكذب الوجودي

من طريف المصادفات أن يتزامن خبر نعت ساركوزي لنتنياهو بـ”الكذاب” مع نشر الإكونومست تقريراً علمياً، مشفوعاً بافتتاحية، عن قرب التوصل إلى طريقة تسمح بقراءة الذهن البشري عبر الفك المباشر لشفرة أنشطة الدماغ: أي معرفة أفكار الناس دون أن ينطقوا بها. وبعد أن تعدد المجلة المنافع التي يمكن أن تنجم عن مختلف تطبيقات هذا المسعى العلمي الذي قد يتحول يوماً إلى واقع ملموس، تقول إن أهم ما سيفضي إليه هذا الإنجاز المحتمل هو تعطيل القدرة على الكذب!
تصور عالماً لا إمكان فيه للكذب. فما هو أول شيء يقفز في هذه الحالة إلى ذهنك؟ انعدام جوقة المداحين من منافقي الطغاة والسلاطين؟ انتفاء مجرد إمكانية ما يسمى ب”الإعلام الرسمي” أو “الحقيقة الحكومية”؟ انتهاء عادة القسم بأغلظ الأيمان المنتشرة عندنا، نحن العرب، حتى لأتفه الأسباب؟ استحالة إدانة الأبرياء ورميهم في السجون بدل الجناة الفعليين؟ احتمالات، أو بالأحرى “استحالات”، شتى يمكن للمرء أن يختار منها ما يعتقد أنه هو العنوان الأبرز، أو النتيجة الفورية، لتعطل القدرة البشرية على الكذب.
على أني لست أرى عنواناً أبرز لعالم لا يستطيع فيه الناس الكذب من هذا العنوان: استحالة وجود ساسة، بل مواطنين، إسرائيليين. ذلك أن عالماً لا إمكان فيه للكذب هو بكل بساطة عالم لا مكان فيه ل”إسرائيل”! فالرواية الإسرائيلية، التي يأخذها معظم الغرب مأخذ المسلمات، هي رواية كاذبة. لا بالمعنى السياسي المباشر فحسب. ولا بالمعنى الثقافي أو الإعلامي الشائع. بل إنها رواية كاذبة حتى بالمعنى الأنثروبولوجي الأساسي. وهذا ما برهن عليه المؤرخ الإسرائيلي الذائع الصيت شلومو صاند في كتابه “اختراع الشعب اليهودي”.
أما الباحث الذي سبقه إلى ذلك، دون أن يحظى بأي شهرة خارج الدوائر المختصة، فهو المؤرخ الفرنسي مارك فرو الذي كان أول من “اكتشف”، في الخمسينيات، أثناء إقامته الطويلة في المغرب العربي أن اليهود ليسوا أمة بالمعنى العرقي أو الإثني وإنما هم جماعات تنتمي لشعوب وقبائل من مختلف جهات الأرض وأنهم قد اعتنقوا الديانة اليهودية، عبر القرون، بمحض الاختيار الحر. فلا وجه إذن لذلك الزعم الجغرافي أو الطوبوغرافي (زعم الارتباط بأرض محددة) ناهيك عن أسطورة الانبثاق من الرحم التاريخي.
عندما أتى شلومو صاند إلى لندن قبل ثلاثة أعوام لإلقاء محاضرة بمناسبة إصدار الترجمة الإنكليزية لكتابه، تبين لي أن رؤياه عن أباطيل السرديات الإسرائيلية بشأن الهوية اليهودية هي في جوهرها الرؤيا ذاتها التي كان قد أوجزها المؤرخ الفرنسي في كتيب قديم متنوع المادة بعنوان “محرمات التاريخ”. قلت لصاند عقب المحاضرة: هل تعرف مارك فرو؟ فقال بابتسامة عريضة: آه! لقد كان أستاذي في كلية الدراسات العليا بباريس وهو الذي أشرف على أطروحتي للدكتوراه. ثم قال أسفا: لقد طعن في السن واستبد به المرض.
الرواية الإسرائيلية، التي لا يدرك الغرب سواها، رواية تفبرك مجموعة إثنية وتختلق شعبها اختلاقاً. تمزق وترقع وتفتق وترتق. رواية كاذبة مقيمة في عقر دار الكذب، محتمية بحماه. بل إنها “رواية كذب”، بثقل وطأة المعنى الذي يؤكده التعبير القرآني (“وجاؤوا على قميصه بدم كذب”). ولهذا فإن عالماً لا إمكان فيه للكذب هو بكل بساطة عالم لا مكان فيه ل”إسرائيل”. لكن لا حاجة بالإنسانية لانتظار تحول الخيال العلمي إلى إنجاز تكنولوجي لتعطيل مفاعيل الكذب السياسي والثقافي. فلقد بدأت الإنسانية تلمح وتنتبه وتلاحظ، يساعدها في ذلك أمران: فرط الإجرام الإسرائيلي وصمود الشعب الفلسطيني. شعب أعزل من كل شيء إلا من قوة الحق. شعب تتكسر في وجدانه نصال الأساطير العجب على نصال الروايات الكذب، وهو رغم كل ذلك ثابت في بداهة الحق: “أنا يوسف يا أبت!”.
على أن كلمة ساركوزي ليست خلوا من الدلالة. رئيس دولة غربية تبلغ به الجسارة أو النزاهة، أو الطمأنينة الناجمة عن الثقة الخاطئة في انطفاء الميكروفون، حد قول الحقيقة عن نتنياهو ونعته بما هو فيه! صحيح أنها كلمة حق خافتة، قيلت على سبيل الإسرار، بشأن صهيوني مجرم متعجرف صادف أيضاً أنه “كذاب”. صحيح أنها كلمة حق يتيمة. لكن ما يعزز دلالتها هو أنها قيلت في وجه رئيس أمريكي “مضطر للعمل مع [نتنياهو] يومياً”. رئيس أمريكي صامت، غير صادق في صمته. رئيس أمريكي جائر من فرط السلبية، خائر العزيمة السياسية من شدة الرغبة الانتخابية.
صحيفة القدس العربي اللندنية
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

الأورومتوسطي: إسرائيل تمارس حرب تجويع شرسة في قطاع غزة
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام أكد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أن الهجوم الإسرائيلي المتواصل والحصار الخانق والنقص الحاد في الإمدادات...

550 مسؤولا أمنيا إسرائيليا سابقا يطالبون ترامب بوقف الحرب بغزة
القدس المحتلة – المركز الفلسطيني للإعلام طالب مئات المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين السابقين الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالعمل على وقف الحرب في...

حماس تدعو للنفير لحماية الأقصى بعد محاولة ذبح القرابين
القدس المحتلة – حركة حماس قالت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إن محاولة المستوطنين ذبح قربان في المسجد الأقصى يعد تصعيداً خطيراً يستدعي النفير...

مؤسسات الأسرى: تصعيد ممنهج وجرائم مركّبة بحق الأسرى خلال نيسان الماضي
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام واصلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي خلال شهر نيسان/ إبريل 2025 تنفيذ حملات اعتقال ممنهجة في محافظات الضفة الغربية،...

إضراب جماعي عن الطعام في جامعة بيرزيت إسنادًا لغزة
رام الله- المركز الفلسطيني للإعلام أضرب طلاب ومحاضرون وموظفون في جامعة بيرزيت، اليوم الاثنين، عن الطعام ليومٍ واحد، في خطوة رمزية تضامنية مع سكان...

القسام تفرج عن الجندي مزدوج الجنسية عيدان ألكساندر
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفرجت كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، عند الساعة 6:30 من مساء اليوم...

خطيب الأقصى: إدخال القرابين يجب التصدي له بكل قوة
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام استنكر خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري، محاولة يهود متطرفين إدخال قرابين إلى ساحات المسجد الأقصى، معتبراً أنه...