الإثنين 12/مايو/2025

فلسطين والبنك الدولي ومجلس الأمن الدولي

فلسطين والبنك الدولي ومجلس الأمن الدولي

قبل توجهه إلى هيئة الأمم للحصول على الاعتراف بدولة فلسطينية تنهض على الأراضي المحتلة عام 1967، وتحظى بالعضوية الكاملة في الهيئة، تحدّث الرئيس الفلسطيني محمود عباس مجملاً القضية بمعايير الوضع الراهن، أي في نطاق قرارات هيئة الأمم الصادرة بعد حرب 1967 وليس في سياق الوضع التاريخي لفلسطين.

وقد ركّز في حديثه على جانبين: الأول، هو الشهادة الرسمية من قبل البنك الدولي بسلامة الوضع الرسمي في المناطق التي تديرها السلطة الفلسطينية، حيث تنهض مؤسسات وهيئات وعلاقات داخلية تمتلك جميع الشروط التي تنهض عليها الدول، بل هي (بمعايير البنك الدولي) متقدّمة على جميع الدول المحيطة. والجانب الثاني، هو أنّ الدولة الفلسطينية المنشودة كما قال الرئيس – سوف تحظى بقبول أكثرية ساحقة في هيئة الأمم، لكنها ستواجه الرفض في مجلس الأمن من قبل حكومة واشنطن وحليفاتها.

لكنّ ما يستوقف المستمع إلى حديث الرئيس الفلسطيني هو فصله بين موقف أعضاء مجلس الأمن المتوقع وموقف إدارة البنك الدولي السابق، فمن المعروف أنّ شهادة البنك الدولي هي بالضبط شهادة أعضاء الدول المانحة الرئيسية، وهم الأكثرية بين أعضاء مجلس الأمن الذين يمتلكون حقّ النقض (الفيتو)، ويمتلكون أيضاً السيطرة شبه التامة على المؤسسة المالية الدولية المذكورة، فكيف نوفّق بين الشهادة الموثّقة لهذه المؤسسة، بأنّ الهيكلية الإدارية والاجتماعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 تمتلك كامل الشروط لإقامة الدولة، وبين رفض أصحاب هذه المؤسسة التوجّه إلى هيئة الأمم للاعتراف بوجودها؟

في ما يتعلّق بالبنك الدولي جـرت العادة أن تحال الحكومات المحتاجة، التي تطلب العون من حكومات الدول الثرية، على هذا البنك (أو على صندوق النقد الدولي) الذي يعمل فيه آلاف الموظفين، والذي يتميز بروتينه الصارم. فهو يتلقى الالتماسات من ممثلي الدول الصغيرة والكبيرة، ولا يستقبلهم بصفتهم أنداداً بل بصفتهم محتاجين. وقد تستمر مفاوضاتهم معه سنوات قبل أن يخطو خطوته الأولى ويأمرهم بتطبيق برامج تقشفية صارمة في بلدانهم. وهذه البرامج توضع دائماً على حساب غذاء الشعوب ودوائها وتعليمها. كذلك هو يأمر زبائنه دائماً بالإقدام على تقليص كبير لأجهزتهم الإدارية، بكلّ ما يترتب على ذلك من بطالة وقصور في الإدارة. ثمّ، وبعد أن يتعهدوا بفعل ما أمر به البنك، تحت رقابته وإشرافه، يرفع البنك إلى مموّليه الأثرياء، وأولهم الحكومة الأميركية، اتفاقات القروض المزمع منحها كي يصوّت عليها هؤلاء الممولون.

إنّ البنك لا يصادق على منح القروض إلا بعد أخذ موافقة المموّلين. بناءّ على ما أوجزنا من وظائف البنك الدولي نسأل: ترى هل كانت المناطق المدارة من قبل السلطة الفلسطينية استثناءً، ولم تخضع للمعايير الروتينية التي يتقيّد بها البنك ومموّلوه بحزم؟ ربّما لكنّ الاستثناء هنا يتضمّن على الأغلب ما هو أخطر من القاعدة، حيث من شبه المؤكّد أنّ البنك الدولي ومموّلوه عملوا خلال السنوات الماضية على تأهيل المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967 كي تبقى في نطاق الفلك الإسرائيلي إلى الأبد، وإن هي حملت في المستقبل عنواناً خاصاً.

وبما أنّ هذا “المستقبل” لم يأت بعد، وبما أنّ تأهيل الشعب الفلسطيني للبقاء في الفلك الإسرائيلي لم يكتمل بعد، فقد رأينا هذا الانفصال الظاهري بين شهادة إدارة البنك الدولي الموثّقة، حول توفّر شروط قيام الدولة، وهي شهادة تريد تحريض الفلسطينيين على المضيّ قدماً في هذا الاتجاه، وبين موقف أصحاب البنك في مجلس الأمن، الذين فوجئوا بتوجّه السلطة الفلسطينية إلى هيئة الأمم من دون موافقتهم وخلافاً لترتيباتهم، والذين يرون أنّ القضية تحتاج إلى المزيد من المفاوضات، أي إلى المزيد من التأهيل والتطويع، ولذلك حاولوا بقوة ثني السلطة الفلسطينية عن عزمها، ومن المتوقّع أن يعطلوا قرار الهيئة العامة الإيجابي باستخدام حقّ النقض ضدّه في مجلس الأمن ولعلّ ما هو جدير بالتذكير هنا، كي نفهم أكثر حقيقة ما يجري لفلسطين، هو ذلك الحوار الذي دار بين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات والرئيس الإسرائيلي الراحل إسحق رابين، حيث تحدّث عرفات حينئذ عن دولة فلسطينية محرّرة مستقلة تنهض على الأراضي المحتلة عام 1967، فردّ رابين أنّ الإسرائيليين لا يمكن أن يتخلوا عن الضفة الغربية، حيث “يهودا والسامرة” التي هي مبرّر إقامة “إسرائيل” قال رابين لعرفات أنّ التنازل عن يافا وحيفا قد يكون ممكناً، أمّا عن “يهودا والسامرة” فهذا مستحيل، لأنّه يقوّض الأساس الذي قامت عليه “إسرائيل” وهكذا فإنّه لمفهوم كيف أنّ أصحاب المشروع الإسرائيلي، الذين هم أصحاب البنك الدولي، والذين هم أكثرية الأعضاء الدائمي العضـــــوية في مجلـــس الأمن الدولي، يموّلون السلطة الفلسطينية بالصورة التي تبقي “يهودا والسامرة” في نطاق المشروع الإسرائيلي وإن هي حملت في المستقبل عنوانها الخاص بها.إنّ المشروع الإسرائيلي، في حقيقته وفي محصلته، مشروع اقتصادي دولي أوروبي/أميركي. إنّه واحد من أعظم مشاريع أصحاب المال الحرام والأعمال الشائنة.

أمّا الرؤساء والوزراء فليسوا سوى موظفين في خدمة مثل هذه المشاريع. وكان الرئيس الأميركي تودور ولسون قد كتب، في العام 1907، توجيهاً لأعضاء حكومته جاء فيه: “على وزراء الخارجية ضمان حماية الامتيازات التي يحصل عليها المموّلون حتى لو انتهكت في سبيل ذلك سيادة الأمم التي لا تبدي رغبة في التعاون، أمّا السلام فلن يكون سوى مسألة مؤتمرات أو تجمعات دولية” وقال وزير خارجيته مخاطباً اجتماعاً لأصحاب المال والأعمال الأميركيين: “يمكنني أن أقول لكم، ليس مجاملة بل كحقيقة واقعة، أنّ وزارتي هي وزارتكم، والسفراء والوزراء المفوضون والقناصل جميعهم تحت تصرفكم، وواجبهم هو رعاية مصالحكم وحماية حقوقكم” إنّ الرؤساء والوزراء الأميركيين لا يزالون حتى اليوم يكرّرون الخطاب ذاته بطريقة أو بأخرى، والمشروع الإسرائيلي لا يزال في مقدّمة المشاريع الخارجية التي يلحّ على دعمها هذا التوجّه المستمرّ للموظفين الحكوميين وللبنك الدولي وأمثاله.

غير أنّ هذا يحدث في زمن مختلف طرأت فيه تغييرات سلبية عميقة وواسعة على بنية النظام الاحتكاري العالمي، بخاصة بعد احتلال العراق الذي ضعضعت نتائجه أركان هذا النظام، وضعضعت أيضاً، في الوقت نفسه، أركان المشروع الاستيطاني الاستعماري الإسرائيلي.

* كاتب سوري

صحيفة القدس العربي اللندنية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات