من الجنرال مود إلى الجنرال فرانكس:

يواجه النظام الإمبريالي منذ نهاية الحرب العالمية الأولى على الأقل أزمة تلو الأخرى، وكلما حاول الخروج من أزمة كلما أدى إلى توليد أزمة من نوع آخر. الوازع الرئيس وراء حالة الهجوم الأمريكية العالمية الحالية هو، كما قال دونالد رامسفيلد عند توليه منصبه قبل عامين، إن وضع الولايات المتحدة كدولة عظمى متفردة ومهيمنة قد تعرض للاهتزاز خلال التسعينات، وأن قوى عديدة في العالم لم تعد تعبأ بالقوة والجبروت الأمريكي. وليس من شك بأن القيادة الأمريكية نظرت إلى هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 باعتبارها ذروة هذا التجرؤ على الهيبة الأمريكية. هذا هو السبب الأهم وراء العدوان الأمريكي الحالي على العراق، أما الدوافع الأخرى ذات الطابع الاقتصادي أو السياسي – الإقليمي فهي دوافع لاحقة وثانوية. الحرب على العراق، لاحتلاله وإطاحة نظامه، يراد بها إعادة توكيد القوة الأمريكية، السيطرة الأمريكية، والهيمنة الأمريكية، ليس على العراق والشرق الأوسط فحسب بل على مستوى العالم. أزمة فشل طموحات الهيمنة الأمريكية المطلقة في مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة تحاول أن تجد حلاً اليوم في العراق.
في مواجهة كل أزمة من أزمات المشروع الإمبريالي، حركت القوى الإمبريالية جيوشها وأساطيلها في إطار من خطاب إنساني تجميلي، خطاب يحاول إخفاء حقيقة الأزمة وطبيعة الدوافع وراء الحرب العدوانية. وغزو العراق ليس استثناءً. الخطاب الإمبريالي المرجعي للحرب الحالية تبلور في مصطلح جديد: الليبرالية التدخلية، وهو التعبير الأكثر رقة لما سماه أيديولوجيون أمريكيون وبريطانيون بـ الإمبريالية الليبرالية. وقد كان خطاب الليبرالية التدخلية قد برز أولاً في أوساط مستشاري رئيس الوزراء البريطاني توني بلير ثم بدأ يشق طريقه إلى دوائر المحافظين الجدد في واشنطن ومن التف حولهم من الأكاديميين اليهود والعرب مثل فؤاد عجمي. غزو العراق بالطبع هو مشروع قديم يعود إلى ما قبل الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ولكنه يقدم الآن للرأي العام في إطار أيديولوجيا شبه إنسانية، إطار يوحي بأن من حق الولايات المتحدة وحلفائها، بل ومن مسؤوليتهم، أن يخوضوا الحرب وأن يفرضوا أنظمة احتلال مباشر على شعوب العالم الأخرى كلما استدعت ضرورات الاستقرار الإقليمي وإعادة البناء السياسي والثقافي والاقتصادي ذلك.
طبقاً لأيديولوجيا الإمبريالية الليبرالية فإن الغزو الأمريكي للعراق ليس أكثر من حركة إنقاذ إنسانية تستهدف تحرير الشعب العراقي من الدكتاتورية والظلم، حتى لو أدى ذلك إلى قتل آلاف العراقيين وجرح عشرات الآلاف الآخرين. وطبقاً لهذا الخطاب فقد كان متوقعاً أن تخرج فئات الشعب العراقي، بل وحتى جيشه وقواته المسلحة، لاستقبال الغزاة بالترحاب والانحياز إلى جانبهم في مواجهة النظام العراقي. ما حدث بالطبع، وهو ما يعرفه العالم أجمع اليوم، أن العراقيين قاوموا الغزاة وما زالوا يقاومون، وأن الحرب التي قال المسؤولون الأمريكيون قبل اندلاعها بأنها قد لا تأخذ أكثر من أيام قليلة توشك الآن أن تكمل أسبوعها الثالث. تحول الاستقبال الترحيبي بالغزاة إلى اشتباكات دموية واسعة النطاق يرفض الأمريكيون حتى الآن الإفصاح عن حقيقة خسائرهم فيها أو الإفصاح عن حجم الخسائر العراقية المدنية جراءها. أما ادعاء قادة الحرب بأنها لا تستهدف البنى التحتية للعراق فقد انهار أمام أول امتحان مواجهة بين القوات الغازية والعراقيين، بحيث طالت الحرب وما تزال مباني وزارات ومؤسسات حكومية، مصانع، مزارع، أحياء سكنية، محطات الاتصال، مدارس ومستشفيات. آلاف الضحايا قد سقطوا في هذه الحرب، في بغداد والناصرية والحلة وكربلاء والبصرة والموصل، وهناك عشرات آخرون ينضمون إلى قائمة الضحايا كل يوم جديد من أيام القتال.
هذا هو ما أطاح ويطيح بخطاب الإمبريالية الليبرالية ومشروع تحرير العراق وبالمخطط الأمريكي لعراق ما بعد الحرب. ففي تقدير للموقف أعده طاقم العمليات السيكولوجية الملحق بالقيادة المركزية في الدوحة (نجح الروس في الحصول عليه في نهاية الأسبوع الثاني للحرب) اعترف الأمريكيون بأن تحولات الحرب وإطالة أمدها وارتفاع معدلات الخسائر في أوساط المدنيين العراقيين والمعاملة البشعة التي يلقاها الأحياء منهم على يد القوات الأمريكية توشك أن تولد أيديولوجيا مقاومة في أوساط الشعب العراقي. بمعنى أن المقاومة التي واجهت القوات الغازية على يد القوى المسلحة العراقية وقوات أجهزة الأمن المختلفة ستتحول بالتدريج إلى حالة من المقاومة الشعبية الشاملة. وإن وضعنا في الاعتبار أن هذا التقدير للموقف قد بني على أساس الأوضاع في جنوب العراق فقط، الجنوب الذي توقع الأمريكيون أن تكون مهمة احتلاله هي الأسهل، وأنه لا يأخذ في الحسبان الموقف الشعبي العراقي في منطقة العاصمة التي تضم ربع سكان العراق أو مناطق الوسط الأخرى والشمال، فلنا أن نتصور حجم ومدى الانهيار في الخطة الأمريكية. الأمريكيون في الحقيقة يواجهون في العراق اليوم أزمة أكثر تعقيداً من أزمة ما قبل الحرب، بغض النظر عن النتائج العسكرية المباشرة للحرب وعن الزمن الذي ستمتد إليه. وستزداد هذه الأزمة تعقيداً كلما ازداد تدفق المتطوعين العرب إلى العراق.
تعود الأزمة الأمريكية إلى إدراك قادة الغزو السريع أن مسوغ نزع السلاح الشامل لم يعد مسوغاً جاداً، وأن العراق على الأرجح لا يمتلك هذا السلاح وأنه حتى إن امتلك القدر الضئيل منه فإنه لا يحتاج إلى استخدامه. وقد ألقي ثقل تسويغ الغزو بالتالي على هدف تحرير الشعب العراقي وإعادة بناء الدولة العراقية. المقاومة العراقية المتصاعدة أطاحت هذا المسوغ، وهي في طريقها لتجعل من العراق مركزاً للمقاومة العربية والإسلامية. وما لا يقل أهمية في تقويض المخطط الأمريكي أن التصور الذي وضعته وزارة الدفاع الأمريكية لعراق ما بعد الحرب قد بني هو الآخر على أساس من وهم الاستقبال العراقي الترحيبي بالغزو وقصر أمد الحرب. يجد الأمريكيون الآن تصورهم لعراق ما بعد الحرب أمام معارضة أوروبية وتحفظ بريطاني واستهجان عالمي وخسارة قطاع واسع من المعارضة العراقية في المهجر. طبقاً للتصور الأمريكي فإن عراق ما بعد الحرب سيدار وإلى أمد غير محدد من قبل جنرال أمريكي سابق ووزراء أمريكيين تحت إشراف الجنرال فرانكس قائد القيادة المركزية التي تدير الحرب، أي بكلمة أخرى حكومة احتلال أمريكي مباشر. فهل يحمل هذا التصور رسالة لكسب ود وولاء الشعب العراقي أم يصب هو الآخر في خانة تعزيز توجهات المقاومة العراقية؟
طوال عدة عقود من القرن العشرين والعراق ساحة للتدخل والتدافع الغربي الإمبريالي. يدرك عموم العراقيين وتختزن ذاكرتهم الجمعية تاريخاً طويلاً من العبث الغربي الخارجي في شؤونهم عندما كان موظفو المعتمدية البريطانية في بغداد يقررون مستقبل الحكومات العراقية ورؤساء الحكومات، وكان المستشارون البريطانيون في الوزارات العراقية هم أصحاب القول الفصل في شؤون تلك الوزارات، وكان أركان الأسرة المالكة يأخذون في الاعتبار الموقف البريطاني قبل أن يتحسسوا موقف شعبهم. بعد أن نال العراق استقلاله في 1930، استمرت السفارة البريطانية تمارس دورها التقليدي في التحكم في شؤون العراق الداخلية والخارجية. في 1941، أعادت بريطانيا احتلال العراق احتلالاً عسكرياً كاملاً بعد حرب طاحنة استمرت شهراً كاملاً بهدف إجبار العراق على الوقوف إلى جانب بريطانيا في الحرب ضد ألمانيا. خلال السنوات التالية، وحتى ثورة تموز (يوليو) 1958 وقيام النظام الجمهوري، استمر العراق ألعوبة تتقاذفها أيدي طبقة سياسية، نخرها الفساد والانقسام الداخلي والانصياع للنفوذ الأجنبي، تحاول حكم شعب عنيد مسكون بميراث بلاده ودورها العربي والإسلامي. لعقود طويلة استخدمت القوى الغربية، وعلى رأسها بريطانيا والولايات المتحدة، العراق قاعدة لمصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، ونهبت ثرواته النفطية بمعدلات غير معهودة حتى في التاريخ الاستعماري ذاته.
ليس في الشعارات التي يتم في ظلها غزو العراق اليوم من جديد. في كل مرة طوال القرنين الماضيين تدافعت فيها السفن الاستعمارية المسلحة إلى السواحل العربية والإسلامية وأطلقت مدافعها قال الغزاة إنهم جاؤوا لإقامة الاستقرار أو القضاء على الفوضى أو تحرير الشعوب من الاستبداد والطغيان وحكم البرابرة. هذا ما سمعه المصريون من نابليون ومن قادة الحملات العسكرية البريطانية المتكررة، وهذا ما قاله الفرنسيون وهم يقصفون الجزائر العاصمة، بل وهذا ما حملته منشورات الجنرال مود وهو يتقدم بقواته من البصرة باتجاه بغداد في 1917. اليوم، وأطفال العراق يفقدون حياتهم ومستقبلهم بفضل القنابل الأمريكية الذكية، وعائلات بأكملها تمحى من الوجود، وإنجازات شعب تدمر وتشتعل فيها النيران، يفترض في العراقيين أن ينسوا عقود السيطرة والتدخل الأجنبي وأن يؤمنوا بعدالة رامسفيلد وفرانكس وغارنر، وبنواياهم الصادقة تجاه العراق.
لا أحد يعرف على وجه اليقين كيف ستنتهي هذه الجولة من الحرب، ولكن المؤكد أنها لن تنتهي إلا وخسرت الولايات المتحدة الكثير من هيبتها وموقعها العالمي ومصداقية دورها الدولي. كيفما كان مصير النظام العراقي، فإن العراقيين سيقاتلون السيطرة الأجنبية على بلادهم كما قاتلوا قوات الغزو.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

المبادر المتخابر في قبضة أمن المقاومة والحارس تكشف تفاصيل
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام كشفت مصادر أمنية اعترافات عميل تخابر مع الاحتلال الإسرائيلي تحت غطاء "مبادر مجتمعي"، لجمع معلومات حول المقاومة...

6 شهداء وعشرات الجرحى والمفقودين بقصف محيط المستشفى الأوروبي بخانيونس
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام ارتقى 6 شهداء على الأقل، وأصيب عدد كبير بجراح مختلفة، فيما فُقد عدد من المواطنين تحت الركام، إثر شن طائرات الاحتلال...

حماس: قرار الاحتلال بشأن أراضي الضفة خطوة خطيرة ضمن مشروع التهجير
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام اعتبرت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إنّ قرار الاحتلال الإسرائيلي إعادة تفعيل ما يُسمّى “عملية تسجيل ملكية الأراضي...

علماء فلسطين: محاولة ذبح قربان في الأقصى انتهاك خطير لقدسية المسجد
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام اعتبرت "هيئة علماء فلسطين"، محاولة مستوطنين إسرائيليين، أمس الاثنين، "ذبح قربان" في المسجد الأقصى بمدينة القدس...

حماس: إعدام السلطة لمسن فلسطيني انحدار خطير وتماه مع الاحتلال
جنين – المركز الفلسطيني للإعلام أدانت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، الجريمة التي ارتكبتها أجهزة أمن السلطة في مدينة جنين، والتي أسفرت عن استشهاد...

تعزيزًا للاستيطان.. قانون إسرائيلي يتيح شراء أراضٍ بالضفة
القدس المحتلة - المركز الفلسطيني للإعلام تناقش سلطات الاحتلال الإسرائيلي في "الكنيست"، اليوم الثلاثاء، مشروع قانون يهدف إلى السماح للمستوطنين بشراء...

أطباء بلا حدود: إسرائيل تحول غزة مقبرة للفلسطينيين ومن يحاول مساعدتهم
المركز الفلسطيني للإعلام حذّرت منظمة أطباء بلا حدود من تحوّل قطاع غزة إلى مقبرة جماعية للفلسطينيين ولمن يحاول تقديم المساعدة لهم. وقالت المنظمة في...