الإثنين 12/مايو/2025

الواقعية السياسية واتفاق مكة …؟!

خالد معالي

كثيرا ما نسمع تصريحات وتبريرات تطالب بالاعتراف بالواقع السياسي كما هو حاصل وموجود، وتطالب بعدم الانجرار وراء أحلام وأوهام لن تتحقق في ظل الموازين الدولية الحالية وتركيبة المجتمع الدولي الحالي ، ومن أكثر ما يتم تداوله في ظل الأوضاع السياسية الحالية ، هو ضرورة التعامل مع ما هو موجود بواقعية سياسية ، والتي تعني بحسب منظريها التعامل بمرونة وموضوعية مع الواقع وشروطه الراهنة ، وبشكل أدق قبول الأمر الواقع والانصياع له ولو على حساب الحقوق ، دون الأخذ بعين الاعتبار ما ستؤدي له هذه الواقعية مستقبلا من ذهاب للحقوق وضياعها وصعوبة تحصيلها أو إعادتها من قبل الأجيال القادمة واللاحقة.

والملاحظ على مدى التاريخ أن   قضايا الشعوب لا تخضع للواقعية والاعتراف بالواقع كما هو ، ومن العسير تصور حالة من الحالات تتوجه فيها الأحداث بتأثيراتها، وتداعياتها، جهةً واحدةً لا تحيد عنها، وربما لا نجانب الصواب إن رفضنا اعتبار البرامج السياسية، وخطط السيطرة التي تضعها دولة عظمى أمراً لا مفر من تحققه، وأكبر دليل على ذلك ما يحصل من فشل لخطط وبرامج للدولة العظمى أمريكا في كل من العراق وأفغانستان وفلسطين .

ففي الحالة الفلسطينية والوضع الراهن فيها يرى الواقعيون أن أفضل وسيلة للتعامل مع دولة الكيان الصهيوني ،هو التعايش معها كقوة إقليمية مدعومة من الغرب القوي أمريكيا وأوروبيا ، وان الزمان هو زمانها، وبالتالي لا مفر من التفاوض معها ، وهذا ما حصل من قبلهم طيلة سنوات أوسلو حيث هبط السقف الفلسطيني إلى أدنى مستوياته ، وفشل فشلا ذريعا بقتل الرئيس عرفات ، وباستلام حماس للحكومة كنقيض للمشروع الأوسلوي المتهاوي .

وليست جماعة أوسلو في فلسطين هي من تطرح الواقعية السياسية لوحدها   ، ففي حين يرى النظام الرسمي العربي أن دولة الاحتلال وجدت لتبقى…؟! وأن أمريكا هي الوحيدة القادرة على الضغط عليها لتنفيذ قرارات الشرعية الدولية بحكم استفرادها كقوة عالمية مهيمنة ، والانسحاب إلى حدود حزيران 1967، وأن ميزان القوى الحالي، وعلى المدى المنظور، يعطي أرجحية يقينية ذات أهمية للعدو الصهيوني، وبالتالي فإن التفكير في المواجهة المسلحة هو ضرب من اللاعقلانية وعدم التعامل العلمي والصحيح مع الواقعية السياسية ،مما يعني هدراً للموارد، ومجانية في التضحيات، في مواجهة محسومة النتائج سلفاً، وأن اتخاذ قرار المواجهة ليس إلا انتحاراً سياسياً، لأن النظام الذي يتخذه ـ إن استطاع ـ سيتحمل، تاريخياً، مسؤولية هزيمة منكرة.

في حين يرى تيار آخر وقوي أن الواقعية السياسية بالفهم الصحيح والعلمي هي التعامل مع المعطيات السياسية ولكن بمحاولة تغييرها للأفضل وليس الاستسلام لها كما هي ، وأي جهود سياسية أو تسويات يتم التوصل إليها، هي حالة تبريد مؤقتة لهذا الصراع، وتأجيل لمواجهة قادمة لا محالة، ولن ينتهي إلا بتحقق النتيجة التاريخية المنطقية لمثل هذه الصراعات، وهي زوال الطارئ العابر، واستقرار الأصيل الغابر، كما جرى في غزة وكما هو منظور في القريب العاجل في العراق.‏

 وقضية استجداء الرأي العام العالمي، وعواصم دول القرار من أمريكا وأوروبا، ليس إلا إراقة لماء الوجه؛ لأن العالم ربما يتعاطف مع الضحية، لكنه لا يحترم ولا يقيم وزناً إلا للقوي، والمظلوم يبقى مظلوما ما لم يحصل بطريقة أو بأخرى على القوة ، والشاهد أن إصرار  بقايا الأوسلويين “الواقعيين ” بمناسبة وبلا مناسبة، على الإعراب عن رغبتهم “الحارقة” في تحقيق السلام العادل والشامل” واستمرار ماراثون التفاوض مع الكيان لم يعطي ثمارا طيبة كما روجوا وقالوا ، في الوقت الذي ذهب فيه الكيان بعيدا وحقق انجازات مهمة له على أرض الواقع نتيجة للواقعية السياسية من الطرف الآخر ، لذلك فإن مواصلة هذا الطرح والتعامل بهكذا طريقة مع الواقعية السياسية هو الذي يشكل ضرباً من اللاعقلانية، والانتحار السياسي وليس العكس كما يرى مروجي نظرية الواقعية السياسية، وهذا ما ثبت على أرض الواقع .

والواقعية السياسية تفهمها الشعوب قبل القيادات، ولكن ليس بفهم القيادات السلبي ،وخير دليل على ذلك انتخاب “حماس” صاحبة مشروع المقاومة بأغلبية شعبية فلسطينية لا جدال فيها، واستمرار التفاف الشعب الفلسطيني حولها برغم الحصار الخانق والمشدد عليها ، وعلى الرغم من أن القتل والموت والتهجير والاعتقال، أصبح أسلوب حياة، ونمط معيشة مرير يعانيه الشعب الفلسطيني يومياً؛ لكنه اختار، وفضل المزج ما بين المقاومة والسياسة وهذا يشير إلى وعي عميق لطبيعة الصراع، وحتمية استمراره بسبب استمرار العدوان، ويؤكد أن الشعب عندما تتاح له فرصة التعبير عن نفسه بحرية لن يتردد في اختيار المقاومة ومنطق التاريخ وصيرورته، كواقع سياسي يمكن تغييره ، فالقوي لا يمكن له أن يبقى قويا، لأن التغيير والتبديل هي من سنن الكون وجدليته التاريخية ، “وتلك الأيام نداولها بين الناس “.

ولو سلمنا جدلا بصحة ما يقوله أصحاب نظرية الواقعية السياسية ، لما رأينا شعبا يتحرر من الاحتلال وينال حريته ولما رأينا غير الظلم عبر التاريخ، وهذا ما لم يحصل على الإطلاق ، فقد رأينا حضارات ودول كانت قمة العدالة والحرية والبناء الإنساني ، ولما رأينا شعب فلسطين يلتف حول حركة المقاومة الإسلامية “حماس”مع علمه المسبق بالتضحيات الجسام التي تترتب على اختياره هذا ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على فهم وتعاطٍ صحيحين مع الواقعية السياسية بشكلها العلمي الصحيح .

 وما حصل في مكة ما هو إلا واقعية سياسية بالمفهوم الصحيح حصلت ضمن صيرورة تاريخية كانت فيها الجولات السابقة للباطل ،وانه قد حان الآن وقت بداية جولات الحق وروادها ، وما اتفاق مكة الآن إلا عبارة عن نقطة بداية لعبور مرحلة تاريخية ما عاد الزمن يعمل فيها لصالح الاحتلال ، وهذا بالتالي فشل ذريع لأصحاب نظرية الواقعية السياسية بمفهومها السلبي .

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات