الخريطة الإدراكية الصهيونية وغَسَّالة الكلمات

صحيفة الاتحاد الإماراتية
تعبِّر الخريطة الإدراكية الصهيونية عن نفسها في مفاهيم مثل “إسرائيل الكبرى” و”وطن اليهود القومي”، وفي مصطلحات مثل “إرتس يسرائيل” أو “يهودا والسامرة”. كما أنها تعبر عن نفسها في سلوك الإسرائيليين. فعلى سبيل المثال أصدر المجلس الإقليمي لمستوطنات غور الأردن (الاستعمارية) عام 1987، أي قبل اندلاع الانتفاضة الأولى، خريطة سياحية لا تظهر عليها أية قرى أو مدن عربية، كأنها قد أزيلت من الوجود أو أنها لم توجد أصلاً، أي أنها أرض بلا شعب كما ترسّخ في الوجدان الصهيوني والخريطة الإدراكية الصهيونية.
ولكن بعد اندلاع الانتفاضة المباركة انقلبت الأمور رأساً على عقب، إذ أنها تحدت الخريطة الإدراكية وقوضتها. ويعطينا الكاتب الإسرائيلي “رافي مان” تاريخاً قصيراً لتطور الخريطة الإدراكية الإسرائيلية بخصوص الأرض وحدودها خاصة الخط الأخضر (أي الخط الذي يفصل فلسطين التي احتلت قبل عام 1967 عن التي احتلت بعدها، أي قطاع غزة والضفة الغربية)، وذلك في مقال بعنوان “حكومات إسرائيل لم تنجح لسنين بتضليلها اللغوي في محو الخط الأخضر والطمس عليه” (معاريف 6 ديسمبر 2006).
يقول الكاتب: “عندما فرض الاحتلال واقعاً جديداً على غزة والضفة الغربية، عملت حكومة “إسرائيل”، كعادة المحتلين منذ أقدم العصور، على تغيير المصطلحات الجغرافية. فأصبحت الهضبة السورية، كما سميت على مدى السنين، هضبة الجولان فجأة. وبعد ذلك بزمن قصير ظهر في معجمنا الجغرافي- السياسي مصطلحا “يهودا والسامرة”. وعندما أُدمجت هذه المصطلحات في النشرة الجوية في الراديو والتلفاز، كان المستمع البسيط يتصور أنّ الحديث هو في واقع الأمر عن جزء من أجزاء الدولة” .
ثم يضيف الكاتب: وقد جرى في السنين الأولى للاحتلال جدل شديداً لبعض الوقت بخصوص الأرض الفلسطينية التي احتلت بعد عام 1967: هل هذه المناطق “محتلة”، أم “محررة”، أم “متنازع عليها”. ثم قررت الدولة الصهيونية محو أي شك بخصوص هوية الأرض المحتلة لا بواسطة إقامة المستوطنات (وفرض الأمر الواقع وتغيير الواقع على الأرض) فحسب، بل بواسطة التضليل اللغوي أيضاً. وعندما انتخب مناحيم بيجن لرئاسة الحكومة أمر بأن يُمحى إلى الأبد مصطلح الضفة الغربية، ثم صدر توجيه حاسم إلى سلطة البث (الإذاعة والتلفزيون)، ولجميع المكاتب الحكومية بأن تُستبدل الضفة الغربية بيهودا والسامرة. في تلك الأيام كان يبدو أن “غَسَّالة الكلمات” تعمل بنجاعة، إذ نجحت مواد التنظيف اللغوية التي أحدثها “الليكود” في تبييض الخط الأخضر تماماً تقريباً، إلى أن اختفى من أكثر الخرائط التي طبعت في تلك الأيام، ومن الكتب التعليمية أيضاً .
ومن بنود الإجماع الصهيوني الأخرى، وهو مكون أساسي للخريطة الإدراكية الصهيونية، أن العرب لا يفهمون سوى لغة القوة، ولذا لابد على المستوطنين أن يحملوا سيوفهم دائماً لأنها لو سقطت من أيديهم، فإن العدو سيبيدهم عن بكرة أبيهم. وكما قال “بن جوريون”، يمكن أن يستوعب العرب عدة هزائم، أما إسرائيل، فإنها لا يمكنها أن تتحمل أكثر من هزيمة واحدة. هذا يعني ضرورة الاستعداد العسكري الدائم الشامل. وبعد سنوات من الانتصارات العسكرية، تصور الإسرائيليون أن وضعهم قد استقر، وأنهم يمكنهم العيش في المنطقة والضرب بيد من حديد على الفلسطينيين، خاصةً بعد أن تخلت عنهم الحكومات العربية. ولكن استمرار الانتفاضة والحرب السادسة أعادا الخريطة الإدراكية القديمة بخصوص ضرورة الاستعداد العسكري الدائم، والعيش في حالة الحرب المستمرة التي سئم منها الإسرائيليون! يقول “دافيد نفون” (يديعوت أحرونوت 11 ديسمبر 2006) في مقال بعنوان “غرور الجيش الإسرائيلي كان سبباً في الهزيمة وسيكون سبباً (في هزيمة أخرى) إذا لم يفهم قدرته الحقيقية”. يقول الكاتب: “يجب أن ندرك أن الجيش الإسرائيلي لن يبقى قوياً إذا ظل معتقداً بأنه قوي في كل الظروف والأحداث. يجب أن ندرك أنه سيكون هناك المزيد من الضحايا، بل ربما الكثير منهم. فالحرب عمل غير مضمون، يسقط فيها الأشخاص، في عملية ناجحة أحياناً، وفي عمليات فاشلة أحياناً أخرى.
ومن الصعب أن تطلب (من مستوطن صهيوني) يسخر من هذا الأمر وما يزال غير واعٍ به (أي ضرورة الاستمرار في القتال)، من الصعب أن تطلب من مثل هذا المستوطن أن يقاتل، فهو بسبب موقفه هذا ورؤيته هذه ليس أهلاً (للقتال) ولا قادراً عليه. ولذا من الأفضل له الإسراع بالجلوس والبدء في إعداد نصبه التذكاري. يجب علينا الإسراع بالنزول عن الشجرة (شجرة الأوهام أي الخريطة الإدراكية الجديدة التي استنام لها الإسرائيليون)، ثم يختم الكاتب مقاله بعبارة صادمة بقوله: “يجب الاستعداد للحرب” .
والصحافة الإسرائيلية منذ انتهاء الحرب السادسة، وهي تنشر المقال تلو الآخر تنبِّه إلى أن الحرب السابعة قادمة لا محالة! ولنضرب مثلاً بمقال “عوزي بنزيمان” الذي يحمل عنواناً دالاً: “الجنود الإسرائيليون يتدربون منذ الآن استعداداً للحرب في الشمال” (هآرتس 13 ديسمبر 2006). يقول الكاتب إنه “فور التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان في منتصف أغسطس عبرت أطراف في الجيش الإسرائيلي عن رأيها بأن جولة من الحرب ستنشب مع “حزب الله” خلال أشهر معدودات”. ويحذر “بنزيمان” ممّا سمّاه “المزاج الحربجي في الجيش الإسرائيلي والتأهب المشتق منه”، “الذي تحول في الأيام الأخيرة إلى توجه عام وحصل على مصادقة رسمية من خلال سلسلة تقييمات متناقضة بشرت الجمهور بأن الدولة تسير على طريق الحرب القادمة” .
ثم يعبّر “بنزيمان” عن قلقه من التساهل الذي تجر فيه الحكومة وهيئة الأركان هذه الدولة إلى الحرب، أو على الأقل كيف يفرضان عليها أجواء من الحصار: “قبل خمسة أشهر فقط كانوا قد أدخلونا في فوضى أمنية، وها هم الآن يطلقون صفارات الحرب مرة أخرى وكأن الإعلان عن حالات الطوارئ العسكرية هو مسألة يومية موجودة ضمن رزمة أعمالهم الاعتيادية، بينما كان يتوجب عليهم أن يتعاملوا مع الخيار العسكري بحذر مُفرط وضبط عالٍ للنفس، أضف إلى ذلك أن إدخال الدولة في ديناميكية الحرب يُكلف ثمناً معنوياً واقتصادياً عالياً جداً، وليس من المؤكد بالمرة إذا كان هناك مبرر لدفعه”. إن “الجنود يتدربون منذ الآن فعلياً (وكذلك الاحتياط) استعداداً للحرب في الشمال”. ولكن “بنزيمان” يثير بعض التساؤلات: “المواطن العادي لا يعرف ما إذا كانت هذه ضرورة لا مناص منها أم أنها مجرد تساهل في الضغط على الزناد؟”. هل ستكون الحرب السابعة مختلفة عن سابقتها؟ وما هو ضمان ذلك؟ هل الهدف من الحرب “أهداف سياسية بالأساس (الردع) أو اقتصادية (زيادة ميزانية الدفاع) أو حتى شخصية (تغطية المؤتمرات)”؟! المسألة لم تعد بسيطة كما كانت في الماضي وكما كانت تصور لهم الخريطة الإدراكية الصهيونية .
والله أعلم .
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

رامي عبده: خطة المساعدات الأميركية الإسرائيلية أداة قهر تمهد لاقتلاع السكان من أرضهم
المركز الفلسطيني للإعلام قال رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، رامي عبده، إن الخطة الأميركية‑الإسرائيلية التي تقضي بإسناد توزيع مساعدات محدودة...

قتلى وجرحى بتفجير القسام مبنى بقوة من لواء غولاني في رفح
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام قتل عدد من جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي وأصيب آخرين في رفح، اليوم الخميس، وفق وسائل إعلام إسرائيلية، فيما قالت كتائب...

شهيد وجرحى في سلسلة غارات إسرائيلية على جنوب لبنان
بيروت - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد مواطن لبناني وجرح آخرون، في سلسلة غارات شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على جنوبي لبنان، اليوم الخميس، على ما...

حصيلة الإبادة ترتفع إلى أكثر من 172 شهيدا وجريحا
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفادت وزارة الصحة بغزة، اليوم الخميس، بأن مستشفيات القطاع استقبلت 106 شهداء، و367 جريحا وذلك خلال 24 الساعة الماضية...

الادعاء الروماني يحيل شكوى ضد جندي إسرائيلي إلى النيابة العسكرية
بوخارست - المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت مؤسسة “هند رجب” أن المدعي العام في رومانيا أحال الشكوى التي تقدمت بها المؤسسة ضد جندي إسرائيلي إلى مكتب...

الاحتلال يحول الصحافي الفلسطيني علي السمودي إلى الاعتقال الإداري
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام حوّلت قوات الاحتلال الإسرائيلي، اليوم الخميس، الصحافي الفلسطيني علي السمودي من جنين، شمالي الضفة الغربية،...

“موت ودمار لا يمكن تصوره”.. منظمة دولية تطلق نداءً لوقف النار في غزة
لندن - المركز الفلسطيني للإعلام أطلقت "منظمة أوكسفام الدولية"، نداءً مفتوحًا يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة، محذّرة من استمرار الكارثة...