السبت 10/مايو/2025

ثقافة الانكسار

سوسن البرغوتي

كم هي مقيتة تلك الثقافة، التي إن تغلغلت إلى أعماق المرء، دمرت إنسانيته، وسلبت منه إرادته وطاقته، وأعمته عن الرؤية السليمة، وأحالته إلى رماد يداس بالأقدام. وهذا ما تحاول آلة الإعلام الاستعمارية فعله، بعد أن حولت الكثير من الأراضي العربية إلى أراضٍ محروقة، لكنها لم تستطع أن تنال من إرادة الصمود، وتحدي ومواجهة موجة التدمير والتخريب.

من تابع الحوار المفتوح مع الفنانة الملتزمة جوليا بطرس، يستطيع أن يدرك موقفها المقاوم والرافض لمبدأ الاستسلام، و تستهجن ثقافة قد لا تكون مستحدثة، بقدر ما أصبحت ظاهرة مرفوعة على شعار “بدنا نعيش”… هذه التي تحمل ادعاءات المدعين، لا بد تكون نابتة من مستنقع اللاكرامة، واللا سيادة، وعلى حساب إذلال شعب الجنوب اللبناني الصامد، وعلى وقع ما يحدث أيضاً في مخيم نهر البارد، وهي موضوعات غير مبررة لسلوك ثقافة الانكسار، فهل يمكن أن تكون الحياة في الحفر عيشاً؟.

إن الغزوات الفاشية ومرتكبيها يسعون في كل وقت لتفقير الفكر الإنساني، وينتهجون سياسة التجهيل والتضليل بكل الوسائل، تخدمهم ماكنة الإعلام الجامحة، وارتكازها على الكذب في المعلومة، وعلى التهويل لدفع الشعوب للقبول بالفتات، وبأي وضع، مقابل العيش مهما كانت ملامحه، ومهما كانت طرائق البحث عن القوت اليومي، ولا شك تقود إلى التفسخ الأخلاقي، والبعد عن الالتزام الوطني.

هذه الظاهرة على ما يبدو سريعة الاشتعال، تمتد نارها إلى الكثيرين من أهلنا في الضفة الغربية، وهم تحت الحصار وأزمات مالية خانقة، وهي مفتعلة على طريق كسر إرادة المقاومة، والرضوخ للمحتل الصهيوني. تراءى للبعض منهم، أنها فرصة نجاة من التجويع المقنن، وبدت سلوكاً مرناً للقبول بإنقاذ مناطق الضفة المحتلة، على أساس “واقعية” المرحلة ومواجهتها.

في الوقت نفسه وعلى النقيض من ذلك، هناك رهائن عالقون على معبر رفح منذ أكثر من شهر، وهم يعانون ما لا يطيقه إنسان، من الاحتلال ونظام السلطة برئاسة عباس، ومن النظام الرسمي المصري، بادعاء التزامهم بالاتفاقيات الدولية المبرمة والتطبيعية مع “إسرائيل”، بصرف النظر إن كان هذا الالتزام هو الثمن لإزهاق أرواح بريئة كل ذنبها أنها تريد العودة إلى ديارها وأهليها.

التقرير المبدئي للأخت إيمان بدوي ومجموعتها الذين قاموا بحملة تطوعية، وذهبوا إلى معبر رفح، يشير إلى إن أكثر ما كان يردده المحاصرون “بدنا نرّوح”، ورفضهم بقوة، العودة عن طريق معبر كرم أبو سالم الاحتلالي، وهذه هي الثقافة الصامدة التي نفهمها ويفهمها شعبنا الأبيّ، المضادة لظاهرة “بدنا نعيش”.
من حق العالقين وهم بالآلاف أن يعيشوا أيضاً، ومن حقهم إنقاذ حياتهم بأي وسيلة، ولكن إصرارهم على العودة، وتحت أقسى الابتزازات السياسية وبعض الممارسات الفردية لحالتهم، يجعلنا نبحث عما وراء هذا الإصرار.

الآن تقام سبع مخيمات على الجانب المصري، لإيواء آلاف المشردين الذين يلتحفون السماء ويفترشون الصحراء، وقد يبدو هذا الإجراء إنسانياً لإنقاذ حياة العالقين، ولكن في باطنه توجّه لإقامة أماكن ومنافي للاجئين جدد، في ظل استحقاقات على تهمة “السلام”.. فهل هذا من السلام في شيء، وهل السلام في تهجير الناس من بيوتهم وأراضيهم، وملاحقة المقاومين واغتيالهم أو اعتقالهم من قبل السلطة التي تدّعي (الوطنية)، بينما ذيول الاحتلال ينفذون مخططاتهم التصفوية دون رقيب ودون حسيب؟. وهل السلام المقبول دولياً يمرّ من الإقرار العلني والاعتراف الرسمي بـ (دولة إسرائيل) العظمى، والقضاء على المقاومة ونبذها، على إيقاع املاءات هيمنة وتحكم بمصير قضية احتلال، وشعب محاصر وراء جدار عازل، ومحاصر اقتصاديا وسياسياً، وهل يكون السلام معلقاً على يافطة خنوع واستسلام وشعار “بدنا نعيش”!؟.

الغريب أن البعض لم يتعلم الدرس بعد الذي أوقع علينا كل المآسي منذ اتفاق أوسلو وأخواتها، ولم يدرك بعد الحال الذي وصلت إليه القضية، والشعب الفلسطيني بفئاته المختلفة والمتعددة!.
السياسة ومتاهات التحرك في إطارات الممكن تحد من إنجازات المقاومة، إذا اُعتمد عليها كسبيل وحيد لاسترجاع حقوق الشعوب، فكيف وهي لم تحقق أي إنجاز حقيقي على الأرض؟.

فشلت السلطة الفلسطينية المحلية فشلاً ذريعاً في تحقيق أدنى متطلبات الأمن للفرد الفلسطيني، وتأمين أدنى مستوى لعيش المواطن، هذا على الصعيد الاجتماعي، أما على الصعيد السياسي، فقد توسعت المستوطنات كسرطان ينتشر دون توقف، وارتفع جدار العزل العنصري، ويجري تهويد القدس وفق مخطط لم يتوقف، والمسجد الأقصى يوشك أن يتهاوى وقد ضعفت أساساته، ومناطق أ و ب و ج كلها تحت القبضة “الإسرائيلية”.

إذن ما البديل عن عملية السلام التي ثبت أنها “استسلام”، والتصدي لوعد بلير سليل بلفور، ويأتي وكأنه المنقذ القادم من دولة كانت على مرّ العصور الأكثر إساءة لقضية فلسطين، والوعود بالجملة، بعهد ازدهار ورخاء سيفيض على الضفة، ولكن إذا حقق أهل الضفة المطلوب منهم، والمطلوب باختصار هو الخنوع والاكتفاء بإنشاء دويلة “حقيرة وذليلة ودنيئة”، على مقاس ثقافة رب البيت، وهو السبّاق إلى إطلاق مثل هذه المفردات عبر تصريحاته المعيبة كمسؤول عن كـل الشعب الفلسطيني.

إنها نتيجة وصلت إليها السلطة بفصل الضفة عن القطاع، كونه الجانب المتمرد، والعصيّ عن القبول أو الرضوخ للقمع أو الرضا بغرف التعذيب. فإما أن تعود الأجهزة إلى القطاع كما كانت، وكسابق عهدها بممارسة الفجور بشقيه “الأخلاقي والوطني”، وإما تنفيذ مخطط تجزئة المجزأ، وتقسيم مناطق السلطة الفلسطينية إلى لقيمات، يسهل اقتضامها من قبل جرذان أوسلو.

ما يمكن تشكيله الآن هو جبهة إنقاذ وطني من مرحلة أوسلو وما سببته من تخريب متعمد للقضية، وإفساد فئات كثيرة من الشعب الفلسطيني، من خلال وعود سرابية، وبأن النصر يُقدم مجاناً من “إسرائيل”!.
المقاومة هي الشرعية الوحيدة في ظل الاحتلال، لذلك فإن من واجب الفصائل الوطنية، أن تشكل تلك الجبهة، وعلى أساس الثوابت، حكومة إنقاذ وطني، لكف وقطع الأيادي التي مُدت لمصافحة العدو، والتعامل معه، والقبول برشاوٍ مالية ضخمة، فهل هي هبات مجانية وخاصّة من أجل المصلحة العليا للشعب وقضيته، أم من أجل تجهيز تلك الرؤوس ومهرجيهم للقضاء على وجود شعب وحقه في الحياة وتقرير مصيره؟.

ثم ماذا عن منظمة “التحريف”، التي كانت سباقة للاعتراف بـ “إسرائيل” وتتبع الانحطاط الفلسطيني السلطوي، وأعضاؤها الأشاوس بصموا على اتفاقية أوسلو، وقبلوا بتحويل القضية الفلسطينية إلى أخرى ممسوخة قطرية، مختصرة لمسألة نزاع على حدود!. كيف يمكن إنعاش البيت الفلسطيني الذي دمرته اتفاقيات “السلام”؟.
إذا كانت هناك فعلاً نوايا صادقة ومخلصة وطنية، فأول المطلوب إنشاء وتأسيس جبهة إنقاذ وطني سياسي، تتماشى وتنسجم مع الحكومة الوطنية المؤقتة، وليس بتشكيل فروع وأغصان، بينما الجذر يابس غير قابل لبث الروح فيه.

سحقاً “للَهَبل”، الذي أشار إليه ناجي العلي، بأن ندعو لحكامنا بالنصر، وكأن قدرنا أن نبقى أسرى مقارعة الحاكم بأمر الأسياد، وكأننا نصرّ على أن ننعم بسطوتهم.
عندما ندعو الله أن ينصرهم على خبائث أنفسهم، يقمعون الشعوب أكثر، ويحققون إنجازات عظيمة لعروشهم، وعندما نحلم  بالمواطنة، ونتوجه للسماء بالدعاء لنصرة الظالمين، فقد خاب ظننا مرتين، الأولى بأن الله سبحانه لا ينصر فرعون، والثانية أن المدعو له ليس مواطناً، بل هو عبد لنزوات وغزوات القادر على تجريع شعبه مرارة العيش اليومي.

هكذا كان ناجي العلي يرى المسألة على حقيقتها، واضحة جليّة لا اختلاط فيها ولا تضليلات، وهكذا علينا أن نتعلّم كيف نتصدى، وكيف نسير على خطى السابقين الذين عمّدوا لنا الطريق بفكرهم ودمائهم وكلماتهم.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات