السبت 10/مايو/2025

خضر والأسرى والاعتقال الإداري

خضر والأسرى والاعتقال الإداري

بعد إضراب عن الطعام استمر ستة وستين يوماً، رضخت النيابة العسكرية “الإسرائيلية” لمطلب محامي الأسير عدنان خضر، المعتقل إدارياً منذ 18 كانون الأول/ديسمبر 2011، وحكمت المحكمة “الإسرائيلية” بإطلاق سراحه في 17 نيسان/إبريل المقبل. ولولا دخول الحالة الصحية للأسير مرحلة الخطر المؤكد، لما رضخت السلطات “الإسرائيلية”، حتى لا يكون ذلك سابقة تحتذى في مواجهة الممارسات التعسفية الكثيرة المنافية للقانون التي تلجأ إليها سلطات الاحتلال لكسر إرادة المناضلين الفلسطينيين.

لقد جاء إضراب خضر عن الطعام احتجاجاً على المعاملة السيئة التي تعرض لها إثر اعتقاله دونما سبب أو تهمة وجهت إليه، ودفاعاً عن كرامته وكرامة شعبه، كما قال للنائب العربي في الكنيست جمال زحالقة الذي زاره في السجن. وبوصوله إلى هذه النتيجة بإرادته وإصراره، استطاع أن يضع قضية الأسرى الفلسطينيين، وكذلك قضية “الاعتقال الإداري” الذي يتعرضون له، في مركز الاهتمام، مسلطاً الضوء على ما يعنيه من تعسف ومخالفة للقانون الدولي.

تنفرد “إسرائيل” دون دول العالم بهذا النوع من الاعتقال، وبحسب منظمة “بتسليم” “الإسرائيلية”، فإنه “على مدار السنين اعتقل جهاز (الشاباك) آلاف الفلسطينيين إدارياً، لفترات راوحت بين بضعة شهور إلى بضع سنين”. وبحسب المنظمة نفسها، يوجد اليوم في السجون “الإسرائيلية” (315) معتقلاً إدارياً. والمعتقل بموجب هذا القانون هو “مشتبه فيه”، لا توجه ضده تهمة، ولا يعرض للمحاكمة، ويجدد له من دون إبداء الأسباب. لقد وضع القانون الدولي شروطاً مشددة تبيح اللجوء إلى هذا الإجراء، وهو حالة استثنائية جداً، لكن الأجهزة الأمنية “الإسرائيلية” لا تهتم بهذه الشروط، بل تتصرف بما يتنافى تماماً معها، كما تقول منظمة “بتسليم”.

ومنذ أسر الجندي “الإسرائيلي” غلعاد شاليت، زادت معاناة الأسرى الفلسطينيين في السجون “الإسرائيلية” وساءت معاملتهم، في ظل وضع فلسطيني منقسم على نفسه، كان سبباً في عدم القدرة على توفير حركة خارجية لمناصرة الأسرى. لذلك كثرت عمليات العزل الانفرادي للأسرى، ومنعت عنهم زيارات الأهل والأقارب، كما منعت عنهم الكتب والصحف والتلفزيون. وازدادت الإجراءات التعسفية ضدهم، مثل التفتيشات والاقتحامات الليلية، وإجبارهم على القيام بحركات تحمل معنى الإهانة، كالتعري أمام السجانين. وكل ذلك نوع من “العقاب الجماعي” بهدف كسر إرادة الأسرى وإلحاق الإهانة بهم.

ومن أجل وقف تلك الممارسات التعسفية والعنصرية كان إضراب عدنان خضر عن الطعام، ولم يكن ذلك انتصاراً لنفسه، أو دفاعاً عن كرامته الشخصية فقط، بل كان من أجل جميع الأسرى، ودفاعاً عن كرامتهم جميعاً بما يمثلون من كرامة الشعب الفلسطيني كله، وفوق هذا وذاك كان من أجل ما فهمته زوجته من صيامه وإصراره عليه عندما قالت لأحد الصحافيين: “إن هذا الانتصار يظهر جدوى المقاومة حتى لو كانت إضراباً عن الطعام”.

إن هذا الفهم العميق الذي عبرت عنه زوجة المناضل خضر هو الأذكى بين كل ما قرأت من تعليقات على الانتصار “الجزئي” الذي حققه زوجها، الانتصار الذي يظل “انتصاراً جزئياً” إلى أن يتوقف العمل بقانون “الاعتقال الإداري”، وهو ما يحتاج إلى “المقاومة” على نطاق أوسع يمتد ليصل ليس فقط إلى “الحركة الأسيرة”، بل وقبل ذلك إلى الحركة الوطنية الفلسطينية كلها، وكلتاهما منقسمة على نفسها. ولن يكون ذلك من دون إعادة الاعتبار إلى مفهوم ومعنى وممارسة “المقاومة” التي تاهت في زواريب ضيقة و”ماراثونيات” عدة بين المفاوضات والمصالحة!

إن مما لا يخضع للجدل، أن انقسام وتشرذم “الحركة الأسيرة”، وما نتج عنهما من ضعف عام أصاب الحركة، أسهم في تشجيع وتسهيل مهمة الأجهزة الأمنية “الإسرائيلية” في تضييق الخناق على الأسرى، وأطلق أيديها في الإساءة إليهم. وبالتأكيد، كان لما يسمى “التنسيق الأمني” بين السلطة الفلسطينية وتلك الأجهزة، الدور الأكبر في كشف وملاحقة المناضلين الفلسطينيين، وكان ذلك انعكاساً مباشراً للتشرذم والانقسام اللذين تعانيهما الحركة الوطنية الفلسطينية بعامة.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن حديثنا عن حال الأسرى والاعتقال الإداري، لا بد أن يجرنا إلى الحديث عن “مسلسل المصالحة” الذي صار أطول من المسلسلات التركية، حيث لا تبدو له نهاية. ولعله من نافلة القول، إن الأمر يظل مراوحة في المكان، بصرف النظر عن اتفاقات القاهرة واتفاق الدوحة، إن لم يتم التوصل إلى اتفاق يضع حداً لمصيبة “التنسيق الأمني” القائم بين السلطة والأجهزة الأمنية “الإسرائيلية”.

ومن دون هذا الاتفاق ستظل جبهاتنا كلها مكشوفة لهذه الأجهزة، ويظل أسهل الأمور أن يتعرض المزيد من الفلسطينيين للاعتقال الإداري، وغير الإداري. فليست المشكلة في تشكيل حكومة، وليست في مَنْ يشكل هذه الحكومة، بل المشكلة الحقيقية تأتي في ما هو قبل ذلك. وإذا كان هناك من يقول إن المشكلة في “برنامج الحكومة”، وهو قول صحيح، فإن هذا البرنامج لن يكون متاحاً الاتفاق عليه ما دام “التنسيق الأمني” مع “الإسرائيليين” قائماً، لكنه متاح جداً إذا انتهى هذا “التنسيق”. أما إذا قيل إن إنهاءه غير ممكن مادام “اتفاق أوسلو” سارياً، يصبح العمل المطلوب هو إنها هذا الاتفاق، خصوصاً ونحن نعرف أن “الإسرائيليين” أنهوه منذ سنوات طويلة.

إن الانتصار “الجزئي” الذي حققه عدنان خضر، بإرادته وصموده وإصراره، ومثله أية انتصارات جزئية أخرى، في هيئة الأمم المتحدة أو مجلس حقوق الإنسان، كل ذلك يظل مهدداً بالضياع ما دامت قضية الاحتلال وإنهائه غير مرئية وغاطسة تحت ركام المفاوضات العبثية.

صحيفة الخليج الإماراتية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات