عاجل

الإثنين 12/مايو/2025

حتى الأجهزة الطبية إلى مستشفيات غزة محظور عبورها!

حتى الأجهزة الطبية إلى مستشفيات غزة محظور عبورها!

صحيفة الوطن القطرية

قصة وفد التحالف الدولي لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين والذي تكون في أوروبا بعد قيام “إسرائيل” بشن حربها على غزة والذي يضم أكثر من 800 منظمة قانونية وإنسانية كانت من أغرب القصص، فبعد توقيع السلطة الفلسطينية قبل أيام على اتفاقية روما الخاصة بالمحكمة أصبح من حقها المطالبة بملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين، وبالفعل تحرك هؤلاء المحامون الغربيون برئاسة البروفيسور جيل دوفير أستاذ القانون الدولي في جامعة ليون في فرنسا وأشهر المحامين الدوليين في أوروبا، وقد أعلن لويس أوكامبو المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية في بداية فبراير من العام 2009 عن استعداده لقبول الدعوى ضد مجرمي الحرب الإسرائيليين وهذا يعتبر انقلاباً في القانون الدولي حيث سيصبح مجرمو الحرب الإسرائيليون من السياسيين والعسكريين مطاردين في دول العالم مثل غيرهم إن نجح هذا الأمر وتم تشكيل أربع لجان من المحامين لجمع الأدلة من أجل تقديمها للمحكمة وبالفعل وصل الوفد الأول المكون من محاميين نرويجيين وفرنسيين أحدهما نجل دوفير إلى القاهرة مع ترتيبات عليا حيث جاءا إلى معبر رفح في اليوم الثاني لوجودي وتعرفت عليهما كما كنت أتعرف على كل الوفود وأخبراني بطبيعة مهمتهم التي تعتبر خطيرة وحساسة، فمهمة اللجنة الأولى التي تتكون منهم الأربعة هي توصيف أركان الجريمة وفق القانون الدولي وجمع الأدلة وقائمة الشهود، ومن المقرر ألا تزيد مهمتهم عن عشرة أيام، أما اللجنة الثانية فهي تتكون من أطباء شرعيين مهمتهم تشريح الجثث للقتلى الذين قضوا أثناء الحرب للتعرف على أسباب الوفاة جراء الأسلحة المحرمة التي استخدمت، واللجنة الثالثة لجنة عسكرية من معاهد عسكرية أوروبية عديدة مهمتها تحديد نوعية الأسلحة التي استخدمت والإصابات التي نتجت عنها وتأثيرها المدمر على عموم السكان، أما اللجنة الرابعة فهي من علماء النفس والباحثين الاجتماعيين التي سترفع تقريراً عن الأضرار النفسية والاجتماعية التي لحقت بسكان غزة جراء الحرب الإسرائيلية، وقد تم تشكيل اللجان الأربع غير أن اللجنة الأولى منعتها السلطات المصرية من الدخول لقطاع غزة للقيام بمهمتها، وبقي أعضاء اللجنة الأربعة على المعبر حتى أعلن عن إغلاقه بشكل نهائي في الخامس من فبراير حيث إن الاتصالات بينهم وبين سفاراتهم وحكومات بلادهم ومقر لجنتهم في باريس لم ينقطع ولديهم موافقات موقعة ومختومة من جهات كثيرة لكنها لا قيمة لها أمام الكلمة التي يعلنها ضابط المعبر «مرفوض» وبعد مرور ستة أيام على وجودهم على المعبر حيث اكتب هذا الموضوع مازالوا عالقين حتى بعد مرور ثلاثة عشر يوماً على وجودهم على المعبر وهم على اتصال دائم معي حيث أن المهلة التي حددتها المحكمة الجنائية الدولية لهم لجمع الأدلة يمكن أن تنقضي ويفلت مجرمو الحرب الإسرائيليون من العقاب وقد سألني الدكتور لؤي ديب المتحدث الرسمي باسم الوفد وهو نرويجي الجنسية قائلاً: لمصلحة من عرقلة مهمتنا التي لو تمت لأصبح الإسرائيليون ملاحقين بشكل رسمي في معظم دول أوروبا؟ «ما هي مصلحة الحكومة المصرية في منع دخولنا لجمع أدلة جرائم حرب تدين الإسرائيليين؟».

أما الحالات الإنسانية المؤلمة التي على المعبر فهي أكبر من أن توصف، غير أن أكثرها إيلاما لي كانت في الخامس من فبراير وهو اليوم الذي أعلنت فيه السلطات أن المعبر سيغلق ولن يكون مفتوحاً إلا أمام الحالات الإنسانية، في هذا اليوم جاءت كثير من سيارات الإسعاف تحمل جرحى عائدين وكانت هناك أيضاً جثتان لفلسطينيين من أهل غزة غير أن المعبر ظل مغلقاً حتى قاربت الشمس على المغيب حتى إن بعض الناس في المعبر أخذوا يتناقلون أن رائحة الجثتين بدأت تفوح بعدما تركتا أكثر من يوم كامل دون ثلاجات مع طريق طويل وقال لي أحدهم إن إحدى الجثث جاءت من دبي والأخرى لفلسطيني استشهد في أحد مستشفيات القاهرة متأثرا بجراحه وقد تأكدت من ذلك حينما سأل أحد الفلسطينيين العالقين مسؤول البوابة متى سندخل واليوم أوشك على الانتهاء قال له: حينما يدخل الأموات أولاً ندخل الأحياء، كما روى لي بعض المسعفين قصصاً مؤلمة مما تقوم به سلطات المعبر جعلتني أطلب منهم أن يتوقفوا عن الاستمرار في الحديث لشعوري بألم لا يحتمل أهذا يحدث في بلادي؟ ومن من؟ من المصريين أهل المروءة والشهامة والرجولة والشرف والتاريخ والحضارة وضد من؟ ضد أهل غزة الذين هم امتداد لأهل مصر وعمقها الاستراتيجي والعرقي والتاريخي؟.

رأيت امرأة معها خمسة أطفال بينهم رضيع ردت من على باب المعبر أكثر من مرة في الوقت الذي كانت تسمح فيه السلطات للفلسطينيين العالقين بالعبور عائدين لغزة، قلت لها: لماذا ردوك؟ قالت أنا مصرية وزوجي فلسطيني هل تتخيل قالوا لي يمكن أن يعود أولادك إلى غزة بينما تبقين أنت هنا في مصر؟ كيف يعقل هذا؟ وهذا الرضيع من الذي يرعى شأنه؟ هل أعاقب لأني مصرية تزوجت بفلسطيني علماً بأني أحمل الهوية الفلسطينية لكني فضلت أن يبقى جواز سفري مصرياً كما هو؟ وبعد نهار كامل قضته السيدة مفترشة أرض المعبر عادت إلى القاهرة مرة أخرى بأولادها؟ أمّ مصرية أخرى جاءتني تقول لي: لقد رفضت طيلة خمسة وعشرين عاماً من زواجي من فلسطيني أن أبدل جواز سفري المصري بآخر فلسطيني معتبرة أن جواز سفري المصري هو شيء أعتز به الآن أنا نادمة فمنذ خمسة أشهر لم أرَ زوجي وأولادي فهم داخل غزة لا يستطيعون الخروج وأنا هنا في مصر جئت لزيارة أهلي فلم أستطع العودة إليهم يقولون لي: جواز سفرك مصري غير مسموح لك بالعودة لغزة؟

هناك عشرات القصص المؤلمة مثل هذه غير أن أكثر ما كان يؤلمني هو الأطفال الصغار؟ الرضع والأكبر منهم بقليل نحن الكبار كنا نعاني فكيف بهؤلاء وبعد رحلة طويلة ربما من بلاد بعيدة كما شاهدت من جاء من استراليا ومن جنوب إفريقيا وحتى من أميركا الجنوبية وأوروبا من فلسطينيين مجنسين بجنسية هذه الدول ويريدون بعد الحرب زيارة أهليهم لكن كثيرين منهم كانوا من المرفوضين على المعبر كل منهم كان يأتيني ويروي قصته ويأمل أن يجد حلاً أو أملاً عندي أنا المرفوض مثلهم من دخول غزة، ومن ثم فأنا أنادي الإعلاميين باعتماد مصطلح جديد يضاف إلى مصطلح العالقين وهو مصطلح «المرفوضين».

أما وفد حماس الذي كان في مباحثات رسمية مع كبار المسؤولين المصريين والذي عاد إلى غزة في الخامس من فبراير فقد عايشت ما حدث لهم داخل المعبر وروى لي بعض العابرين والعاملين في المعبر كيف عومل وفد حماس داخل المعبر كما وصفت حماس في بيان لها ما حدث لوفدها بأنه يعتبر «إهانة» لهم، رغم أنهم ضيوف مصر، وبينما غادر الوفد المعبر سيراً على الأقدام لمسافة حتى بلوغ السيارات بقي أيمن طه عضو الوفد مع مبلغ تسعة ملايين دولار ومليوني يورو حيث جاءت سيارتان للأمن حملتاه مع المبلغ حتى يودعه في بنك في مدينة العريش بعدما رفضت السلطات المصرية دخول المبلغ معهم، وقد سربت معلومات مفادها أن السلطات المصرية كانت على علم تام بالمبلغ حيث إن قادة حماس أبلغوهم به كما يبلغوهم دائماً بأية أموال معهم وهذا ليس سراً منذ أن شكلت حماس حكومتها بعد انتخابات مارس 2006، بل إن الحقائب التي كانت معهم حينما أبلغوا السلطات المصرية بالأموال كانت تبدو قديمة ومن ثم قام المسؤولون المصريون باستبدالها لهم بحقائب أفضل منها غير أن السلطات التي وضعت لهم الأموال في حقائب جديدة إهانتهم على المعبر واحتجزوهم ثم احتجزوا الأموال وتعاملوا معهم بشكل مهين بعدما أذاعوا الخبر في وسائل الإعلام وأبرزوا وفد حماس على أنهم مجموعة من المهربين وهذا لا يليق بمصر ولا مكانتها ولا بدورها على الإطلاق، وإذا كانت هذه هي الحقيقة فلمصلحة من هذا الفيلم الرديء الإخراج والأداء من قبل السلطات المصرية تجاه الأموال التي كانت في حوزة أيمن طه والتي تعلم السلطات أنها في النهاية لأهل غزة المعوزين والذين خرجوا من حرب دمرت الحرث والنسل.

من جانب آخر فإن السلطات لم تكن تسمح على الإطلاق بدخول المواد الغذائية التي أرسل معظمها الشعب المصري لاسيما البسطاء من الناس الذين اقتسموا قوت يومهم مع إخوانهم في غزة وقد قابلت كثيراً من البسطاء الذين جاؤوا من كل محافظات مصر وبقوا على المعبر مع شاحناتهم أياماً طويلة حيث ملأت أرض الاستاد الرياضي في العريش ومعظم المخازن في العريش والشيخ زويد بالمعونات الغذائية بينما رأيت عشرات الشاحنات تقف محملة في الشوارع المحيطة بأستاد العريش بينما أبلغني بعض السكان أن بعضها تعرض للسرقة ويباع بثمن بخس في الأسواق وأعلنت لجنة الإغاثة بنقابة الأطباء في 12 فبراير أن السلطات المصرية استولت على المساعدات التي أعدتها النقابة من أموال الشعب المصري لإرسالها إلى غزة، وقد أعلنت السلطات أن هذه المعونات التي فسد بعضها من تركه في العراء سوف تذهب عبر المعابر التي يسيطر عليها الإسرائيليون، ولأن هوجة الإعلام حول المعبر قد انتهت منذ مدة طويلة ولا توجد أية تغطية إعلامية لمثل هذه الأمور فإن السلطات المصرية تراهن دائماً على أن الناس تملّ وتنسى وهي في النهاية سوف تفرض ما تريد على الجميع، لكن الأمر الذي يطرح علامات استفهام كبيرة هو أن السلطات المصرية لا تسمح على الإطلاق بمرور أية أجهزة طبية للأشعة أو التخدير وهي الأكثر احتياجاً لمستشفيات غزة، وقد أبلغني الذين جاؤوا بهذه الأجهزة أنهم لا يفهمون مبرر السلطات في منع مرور هذه الأجهزة تحديداً وهي الأكثر أهمية في العمليات الجراحية، وقد أبلغني استشاري تخدير بريطاني كان عائداً من غزة مع ستة آخرين أن أجهزة التخدير في مستشفيات غزة معظمها مهترئة حتى إن أطباء التخدير يخشون أثناء إجراء العملية من توقفها ومن ثم وفاة المصابين أثناء العمليات هذا في الوقت الذي تقوم فيه السلطات المصرية بمنع وصول هذه الأجهزة إلى مستشفيات غزة؟

لا أستطيع أن أنكر هنا جهود بعض المخلصين الذين سعوا لدى السلطات للسماح لي بالدخول إلى قطاع غزة غير أن أغرب هؤلاء كانت طبيبة أميركية بذلت جهوداً كبيرة من أجل أن يسمح لي بالدخول غير أنها أرسلت لي رسالة أن الذين سعت لديهم أبلغوها في النهاية أني في «القائمة السوداء» ولن يسمح لي بدخول غزة على الإطلاق، ولا أدري أي «قائمة سوداء» ولدى من؟

وبعد.. فرغم ألمي الشديد لمنع السلطات المصرية لي ولزميلي غسان بن جدو من الدخول إلى قطاع غزة عبر رفح طوال ما يقرب من أسبوع قضيناه على المعبر إلا أن هذه الأيام كشفت لي كثيراً من الحقائق وأكدت كثيراً من الظنون وطرحت كثيراً من الأسئلة التي بحاجة إلى إجابات، لاسيما هذه السياسات التي تمارس على المعبر، فما يحدث على المعبر هو تاريخ يسجل الآن وليس مجرد أحداث عابرة والثمن الذي يدفعه الفلسطينيون باهظ لكن الثمن الذي تدفعه مصر من سمعتها وتاريخها وأمنها القومي ومسؤوليتها التاريخية والسياسية والإنسانية أيضا لن يكون بسيطاً فمصر الكبيرة يجب أن تبقى كبيرة في كل شيء لا أن يقزمها صناع القرار بها بهذه الطريقة المؤلمة لكل مصري ولكل عربي بل ولكل إنسان هؤلاء لا يعلمون أن التاريخ لن يرحم أحداً وأن سنن الكون غلابة لكنهم لا يعقلون، فهناك أناس يحكمون دولاً صغيرة حولوها لدول عظمى في سلوكياتها وتصرفاتها وسياستها وتعاملهم مع شعوبهم ومع من حولهم لأنهم أناس عظماء، وهناك من يحكمون دولاً كبرى قزموها وصغروها لأنهم للأسف صغار ودولهم أكبر منهم بكثير، فالدول تكبر وتصغر بمن يحكمها وليس بمساحتها وعدد سكانها ومن ثم فمصر بحاجة إلى من يقدرها قدرها ويعطيها حقها ويعيد إليها مكانتها في الحاضر ويصنع لها ولشعبها بل وللشعوب العربية جميعها المستقبل والمجد والريادة والعزة والسيادة.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات