السبت 10/مايو/2025

عن الاحتراب الداخلي والخروج من عنق الزجاجة

عوني فارس

ترتبط حركات التحرر الوطني بهدف التخلص من الاحتلال ويبقى هذا الهدف الناظم لتكتيكاتها والبوصلة التي تحتكم إليها ساعة اتخاذ القرارات الصعبة والمصيرية. في حين يسعى الاحتلال إلى توفير عوامل بقائه وشرعنة وجوده عبر العمل على حرف حركات التحرر الوطني عن هدفها كمقدمة لتهميشها ومن ثم القضاء عليها. وإذا كانت حركة التحرر الوطني الفلسطيني ممثلة بكل الطيف السياسي من فصائل وأحزاب تناضل من أجل الانعتاق من الاحتلال بوسائلها المشروعة فإنّ إرغامها على مغادرة مربع المقاومة وإلغاء حالة التناقض الكلي معه ستكون غايته التي يسعى جاهداً إلى تحقيقها. وعلى هذا الأساس يصبح من أولويات الاحتلال إيهام الشعب الفلسطيني وقواه السياسية بأن صراعه الأساسي ليس مع من شرده وعمل على طمس هويته الوطنية واستولى على أرضه ومقدساته وسلبه تراثه وإنما مع جهةٍ أُخرى.

وفي مرحلة تاريخية من الصراع قد تتساوق بعض القوى السياسية مع هذا الوهم مدفوعةً بعوامل سياسية واقتصادية واجتماعية فتتعزز مظاهر ضعف الجبهة الداخلية ويندفع المجتمع نحو أتون الفتنة الداخلية ويتراجع المشروع الوطني برمته.

لقد عمل هذا الوهم على إضعاف الحركة الوطنية إبان الانتداب البريطاني إذ ركّز الاحتلال على ضرب قيم الوحدة والعمل المشترك بين القوى الفلسطينية على قاعدته الشهيرة ( فرق تسد ) فانتشرت مظاهر الشقاق والنزاع بين قطبي الحياة السياسية ممثلة بأتباع الحسيني ومنافسه النشاشيبي وبين من آمنوا بالمقاومة المسلحة طريقاً للتحرير والذين أطمأنوا لنوايا “الصديقة بريطانيا”. وقد كان هذا سبباً رئيساً في فشل الحركة الوطنية في تحقيق أهدافها.

وهذا يفسر جانباً مما أصاب المقاومة الفلسطينية في الأردن ولبنان فحين قدّم البعض التناقض مع المجتمع وفئاته المختلفة على المواجهة مع الاحتلال شهدت القضية الفلسطينية تراجعاً وانحساراً. وفشلت القيادة الفلسطينية في انتشال المركب الفلسطيني من الغرق.

ويبدو أنّ التاريخ يعيد نفسه فما شهدناه على مدار الشهور الماضية من انسداد أفق التنافس السلمي بين كبرى الحركات السياسية الفلسطينية وانحسار لغة الحوار والتفاهم فيما بينها واللجوء الى لغة البنادق يؤكد أنّ هنالك مَن استبعد الاحتلال من معادلة الصراع معتقداً أن معضلة القضية الفلسطينية تكمن في الفصيل الفلاني أو التنظيم العلاني فسمح لنفسه بتجاوز الإجماع الوطني الذي جسّده الفعل المقاوم وأكدته صناديق الاقتراع وأدخل الكل الوطني في سراديب الاقتتال الداخلي.

وكما في تاريخ حركات التحرر الوطني فإنه يلزم دخول الحالة الفلسطينية في ظلام التيه ومستنقع الاحتراب الداخلي الوقوف على الحد المضاد للمقاومة. وفي خطوة متقدمة يصبح خرق ما تم الاتفاق عليه بين الإخوة الفرقاء ممارسة يومية ويغدو الاستقواء بالاحتلال تكتيكاً مبرراً بل ويُرحب به للعب دور بيضة الترجيح.

والاحتلال بدوره لن يفوت الفرصة فيبدأ بتوجيه ضرباته لمواقع المقاومة عله يفقدها التوازن فتقع هي الأخرى في تيه الاحتراب فتستل سيف الفتنة وتغمد سيف المقاومة. لكن الاحتلال ومن حيث لا يدري وهنا تكمن المفارقة يُصحح بصواريخه ودباباته الخلل الذي أصاب النسيج الداخلي للشعب الفلسطيني فتحيي دماء الشهداء من ماتت ضمائرهم وتعري آهات الأطفال ومشاهد الدمار من أمعن في التآمر على مصير الشعب وتزيل ما تصنعه يد المدافعين عن مدننا وقرانا من بطولة في الصمود الغشاوة عن عيني من أصر على حرف مسيرة النضال الفلسطيني وتقزيمها بتحويلها من صراع مع المحتل إلى تصارع على المغانم والمناصب.

لكنّ مسيرة حركة تحرر وطني تقود نضالاً شرساً منذ عقود لا يمكن لها أن تعتمد على عدوانية الاحتلال لتوطيد جبهتها الداخلية إذ عليها أن تناضل من أجل وضع أسس سليمة لتوافق داخلي يقيها شر الفتن الداخلية ويجعلها أكثر قدرة على الصمود أمام ممارسات الاحتلال البشعة. من هنا كان الأمل كبيراً بنجاح اتفاق مكة في تحقيق هذا الهدف لكن الأحداث الأخيرة أثبتت أنّ الاتفاق ولد “خداجاً” وهو بحاجة لأن يوضع في العناية المركزة ريثما يصلب عوده ويمتلك مقومات الحياة وهذه من فروض العين التي على صانع القرار الفلسطيني التنبه لها والا فإنّ قطار التيه ينتظر بشوق للإقلاع.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات