السبت 10/مايو/2025

ما بين الأكاديمي والسياسي

د. محمد عطية عبد الرحيم

الأكاديميون في الأمم الراقية هم من ينتجون ويقودون الفكر وينيرون الدرب ويوضحون المبهم ويبلورون القيم والاتجاهات والطموحات والأهداف والغايات والمقاصد . وهم أيضا من يطببون الثقافة إن اعتلت ويعدلون سلوكات العامة والخاصة ويضعون الوسائل والإستراتيجيات للسياسي والاقتصادي . هم القادة الحقيقيون للأمة وهي تحتضنهم وتعلي من قدرهم وتدين لهم بالسمع والطاعة وتجبر المخالفين على الانصياع. هم الذين إن صحت أفكارهم وخلت من المصالح الشخصية الضيقة عقولهم وأفئدتهم كانوا منارة يهتدى بها في أوقات الظلمة والظلم. وهم أيضا من يقود السفينة إلى بر الأمان وبالاختصار هم ملح الأرض وبدونهم يسود الفساد والجهل والضلال وكل ذلك من شأنه أن يؤدي إلى الهزيمة والخذلان والسقوط من ركب الحضارة والبقاء في متاهات يلفها الضياع وفقدان الدور بين الأمم. هم بمثابة الدماغ من الجسد فهو الذي ينظم الوظائف الحيوية للجسم وبدونه تضطرب الوظائف ويختل التوازن وتتحول أجهزة الجسم إلى أعضاء متنافرة متصارعة .

هذا الدور للأكاديمي لا يصارع ولا يجاهد الآخرين لأخذه بل يمنح له على طبق من ذهب ذلك لأن الأمم المتحضرة لا تنازعه هذا الدور بل توفر له جميع الإمكانات المالية والثقافية والنفسية للقيام بهذا الدور وهي تشكره وتعترف بفضله إن قام به ولا ترضى له أن يتخلى عن هذا الدور في القيادة والريادة وصنع ونشر الثقافة وإنارة الدرب للسالكين حتى لا يتنكبوا الطريق وتضيع الجهود وتتعرض مصالح الأمة للخطر الشديد. هم يكرمون لقبولهم هذا الدور ولا يمكن لأحد أن يمن عليهم بأنه أعطاهم هذا الدور لأن المريض لا يمن على الطبيب لأن الأخير قبل أن يعالجه فالفضل كل الفضل لهم إن قبلوا هدايتنا وإرشادنا وتنوير عقولنا وقلوبنا.

لكن السؤال الذي يلح علي باستمرار ودفعني لمحاولة استكشاف العلاقة ما بين الأكاديمي والسياسي هو السؤال الذي كثيرا ما ألح علي لمحاولة تقديم إجابة عليه وهو: ما العلاقة بين الأكاديمي والسياسي؟.  

لدي قناعة بأن هناك نوعين من العلاقة : علاقة سليمة وعلاقة مختلة . فالعلاقة السليمة التي تربط ما بين الأكاديمي والسياسي وتنظم العلاقة فيما بينهما هي تلك العلاقة ذاتها التي بين الخبير الإستراتيجي والمنفذ. فالخبير الإستراتيجي هو الذي يرسم السياسات والإستراتيجيات ويحدد أقصر الطرق وأكفأها في الوصول إلى الهدف المنشود في الوقت الملائم وبأقل جهد ممكن . وهو أيضا الذي يضع الخطط الكفيلة بتحقيق الأهداف أما السياسي فهو الذي يقوم على التنفيذ بعناية ودقة وأمانة ومهنية وذكاء. هذه هي العلاقة التي تربط ما بين الأكاديميين والسياسيين في الدول الأوروبية خاصة أمريكا التي تعد أكبر دولة في العالم وفي التاريخ . فالأكاديميون هم الذين يضعون الخطط والرئيس ينفذ والدليل على ذلك أن الرئيس الأمريكي جورج بوش قام بتنفيذ إستراتيجية قديمة مخطط لها سلفا باحتلال العراق خدمة للمصالح الأمريكية الإستراتيجية وكل دوره كان ينحصر في التنفيذ . ولقد تناقلت وسائل الإعلام بأن بوش الابن أخرج هذه الخطط المعدة سلفا من الأدراج ونفذها عندما اعتقد أن التوقيت مناسب .

هذه العلاقة لا يعير بها السياسي ولا تحط من قدره وتقلل من شأنه فهو ينفذ ما يتفق عليه الخبراء الأكاديميون كل في تخصصه وينفذ توصياتهم ولا يرسم السياسات لهم ويملي عليهم العمل وفق رؤيته الشخصية أو الحزبية فالأكاديمي لا يأتمر بأمر السياسي حتى ولو كان رئيسا لأن الرئيس يربأ بنفسه عن التدخل في أشياء ليست من صميم تخصصه وعمله فهذا عمل يختص به الخبراء والأكاديميون. لذلك نرى مجموعة المستشارين الذين يعملون لدى الرئيس هم خبراء في تخصصاتهم ويحملون أرقى الدرجات العلمية ومفكرون مبدعون ومثقفون يأتون من أعرق الجامعات. لذلك حتى بعد أن يتخلوا عن أدوارهم كمستشارين لا ينتهي دورهم الأكاديمي بل يبقون ينظرون ويكتبون ويرسمون السياسات ويعلقون على ما يجري أما الرئيس فعندما تنتهي ولايته يعود إلى مزرعته وأبقاره ليعتني بها وقلما سمعنا عن رئيس كتب كتابا يروي فيه مآثره وانجازاته ونظرياته بل يعود إلى حيث أتى يلفه الصمت حتى يموت .

أما العلاقة المختلة فهي العلاقة من أعلى إلى أسفل أي علاقة الآمر بالمأمور والمنفذ وهنا يكون السياسي هو الأعلى والآمر الناهي بينما المثقف يخدم أهداف السياسي حتى وان كانت أهادفا غير سليمة ولا تخدم الوطن والمواطن. وهنا يكون السياسي سيدا يستأجر المثقف والأكاديمي للأسف الشديد إما بدافع الطمع الشخصي أو الخوف يمتثل لأوامر السياسي ويبررها وينظر له ويمجده ويبرر سياساته رغم عدم اقتناعه بها . هذا دور مقلوب يستعبد فيه المثقف ويستبعد عن الريادة والقيادة ففي مثل هذا الوضع الشاذ يسود الظلم ويستشري الفساد وتنحدر الثقافة ويتقهقر المجتمع والقيم وتحكم طبقة من الساسة الجهلاء والمرتبطين بأجندة غير وطنية والأدهى والأمر أنهم يستمرون في الحكم طويلا حتى يصيبهم الخرف أو تقعدهم الأمراض ولا يزالون عن الحكم إلا بانقلاب مساعديهم عليهم وإيداعهم المصحات العقلية أو قتلهم وان نجوا من هذا المصير البائس ورثوا الوطن والمواطنين بما فيهم المثقف والأكاديمي إلى أبنائهم ويصبح الوطن والمواطن تركة يورثها الأب إلى الابن .

والسؤال الذي يطرح نفسه هو :

ما العلاقة السائدة بين الأكاديمي والسياسي في وطني فلسطين؟.

لا شك عندي بأن العلاقة المختلة هي العلاقة السائدة حيث أننا في فلسطين نعاني من استبعاد الأكاديمي المتخصص عن مواقع القرار السياسي والتي تترك لحفنة من الجهلاء والحمقى والمنتفعين وان قبلوا بالأكاديمي وسطهم فهو ليبرر أفعالهم ويمجد فكرهم ويضفي البطولة عليهم فيصبحون مرة وكأنهم عمر بن الخطاب وتارة أخرى يلقبون بأبطال الحرب والسلام وهم لا شك ليسوا من عمر وعدالته في شيء وليس لديهم من البطولة إلا الإدعاء .

لمزيد من التوضيح أقول أنه لا ينبغي اغتصاب دور الأكاديمي والمثقف وفي الوقت ذاته لا ينبغي له أن يقبل بأن يستلب دوره خاصة نحن الآن في أمس الحاجة إلى تفعيل دورهم لحل الأزمة العالقة في الوطن وجسر الهوة الثقافية بين شرائح المجتمع المختلفة وفصائله الآن لأن المجتمع الفلسطيني يعاني من تشرذم ثقافي ينعكس سلبا على الاختلاف السياسي وعلى القضية الفلسطينية وان بقي الحال على ما هو عليه الآن سيتكرس هذا الانقسام الثقافي ويتعزز ليصل إلى حرب استئصاليه بين قوى المجتمع المختلفة بدلا من التكامل الثقافي بين قواه خاصة أننا في مرحلة نضالية مع عدو عنيد يرفض وبدعم دولي حاقد إعطاءنا بعض حقوقنا المستلبة.

وفي محاولة البحث عن دور للأكاديميين والمثقفين في فلسطين أقترح بأن تشكل هيئة من الأكاديميين والمثقفين المشهود لهم بالوطنية والنزاهة والمهنية تبلور السياسات في جميع مناحي الحياة وخاصة المفاوضات مع إسرائيل وتحديد رؤية إستراتيجية توحد قوى المجتمع الفلسطيني الحي وتكون هذه الخطط خطا أحمر لا يمكن للسياسي أن يتجاوزه وتكون ملزمة له. ويمكن لهذه الهيئة أن تحكم في الخلاف السياسي بين القوى المختلفة وتكون قراراتها في حل هذا الخلاف ملزمة ينزل عليها كلا الطرفين المتصارعين وهكذا نخرج من الأزمة ونحن متعافون وقادرون على إعلاء مصالح الوطن والعمل من اجل تحقيق أهدافه الوطنية النبيلة .

هذه الهيئة ليست لاستبدال أحد ولا تعمل لطرف على حساب آخر ولكنها هيئة تضم خيرة أبناء الوطن ومفكريه الذين يقسمون على إعلاء كلمة الوطن على المصالح الشخصية الضيقة ولا يتدخل السياسي في تشكيل هذه الهيئة حتى لا يكون وصيا على قراراتها. هي هيئة يحتكم إليها وقت الخلاف واستعصاء الوصول إلى حلول بين الأطراف المصارعة وهي بذلك تصبح صمام أمان للمحافظة على وحدة الوطن وتقيه شر الاقتتال.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات