تناقض فلسطيني يستدعي حلاً

شهدت مسيرة النضال الوطني الفلسطيني المديدة، محطات، تراجعَ خلالها العمل السياسي الوطني الطليعي والمنظم، وتضاءَل دوره المطلوب في قيادة الفعل النضالي الميداني وتوجيهه وحفْزِه، ورفْعِهِ إلى أعلى مستوىً ممكن من السعة والتواصل والترابط. وكانت فترة ما بعد النكبة، ونشوء الكيان الصهيوني، هي أبرز، بل أخطر، محطات هذا التراجع، حيث أفضت، (فيما أفضت)، بنتائجها الصادمة والمُحْبِطة، إلى انحلال وتفكك كثير من التنظيمات السياسية الفلسطينية القائمة آنذاك، وإلى اندماج الفاعل منها في التنظيمات السياسية على المستوى القومي، (بألوانها ومشاربها الفكرية المتنوعة)، ما حال دون ولادةٍ مبكرة لصيغة التوازن الدقيق بين دور الوطني والقومي في المهام المباشرة لقضية فلسطين وأعبائها، بوصفها قضية وطنية وقومية في آن، بمعنى صيغة تستجيب لمتطلبات الواقع ومقتضياته كما هي، وليس كما صاغها التجريد العقيم لجدل “الوحدة طريق العودة” أو “العودة طريق الوحدة”.
استمرت هذه الحال، وإن مع إرهاصات جدفت ضد وجهتها العامة، إلى أن جاءت “نكسة” العام ،1967 وقادت، بأسئلتها الموجعة والحارقة، إلى تفجرِ الطور الثاني من الثورة الفلسطينية، التي كانت النكبة العام 1948 قد قطعت سياق طورها الأول الذي تبلور، في عشرينات القرن المنصرم، وبلغ ذروته في ثورة 1936-1939 الكبرى، بسبب، وفي مواجهة، بدايات الغزوة الصهيونية، وما نجم عنها من موجات هجرة يهودية، استولت على أرضٍ فلسطينية واستوطنتها.
أدى انفجار الطور الثاني من الثورة الفلسطينية إلى انتشال التنظيم السياسي الفلسطيني من وهدة عقدين من التيه، وتراجعِ الدور المطلوب واقعاً، حيث عاد، وتنامى، كماً ونوعاً، وانخرط، بطاقاته المتعددة، وبألوانه ومشاربه الفكرية المتنوعة، بما في ذلك القومي منها، في معمعان مهامه الوطنية المباشرة المفروضة، ما أدى إلى تصحيح مسار المواجهة الشاملة مع الكيان الصهيوني، ليس فقط بمعنى إعادة نظمِ طرفيها، (القومي والوطني)، في صيغة تكاملية، بل، أيضاً بمعنى أن الثاني، (الوطني)، أصبح مبادراً وفاعلاً، وبالنتيجة، حافزاً لرفع سقف الأول، (القومي) خاصة بعد أن تغلغلت وتوسعت وتعمقت عمليات التنظيم والانتظام في أوساط الشعب الفلسطيني، المعني المباشر في المواجهة التي صارت بذلك عملية مقاومة شعبية فعلية واسعة ومتصلة، تعددت أشكالها وترابطت حلقاتها، داخل الوطن وخارجه، بل، ولم يزدها قمع الاحتلال وحروبه إلا تأججاً وتعملقاً وتعاظماً في وجهتها العامة، ولم يَحُلْ خفوت مؤقت، أصابها هنا أو هناك، في هذه الفترة أو تلك، دون تكللِ مسيرتها، بعد عقدين على بدءِ توتير قوسها، بانفجار الانتفاضة الشعبية الكبرى في ديسمبر/كانون الأول العام 1987، لينتقل بها، ومعها، هدف الاستقلال الوطني الفلسطيني التام والسيد على الأراضي المحتلة العام 1967، من الإمكانية المجردة إلى الإمكانية الواقعية، التي اصطدم تحققها الفعلي بما أحاط مسيرة الطور الثاني من الثورة الفلسطينية عموماً، وقفزتها النوعية الكبيرة، انتفاضة العام 1987، تحديداً، من تحولات إقليمية وقومية عاصفة، أسس لها، وأطلقها، وضاعف نتائجها السلبية، تحول الولايات المتحدة، أكبر الحلفاء الاستراتيجيين ل”إسرائيل”، وأكثرها ثباتاً، إلى قطبٍ منفردٍ باغٍ في السياسة الدولية، مؤسسات وقرارات.
أمام هذه التحولات المجافية استبعدت قيادة التنظيم السياسي الوطني الفلسطيني، (قيادة منظمة التحرير)، خيار الصبر والجَلَد، ولجأت إلى خيار الانحناء أمام العاصفة، عبر الدخول في مفاوضات “مدريد” العلنية، فمفاوضات “أوسلو” السرية المُستعْجِلة، فاتفاقها المُتَوهم والمُتسَرع في تقديم أوراق القوة بالمجان، ومن دون مقابل حقيقي، واصفة كل ذلك بالممر الإجباري. بذلك وقعت هذه القيادة، وأوقعت معها بقية أطراف الحركة الوطنية الفلسطينية، والشعب الفلسطيني عموماً، في نصف المصيبة، بينما أوقعها استمرار الرهان على خيارها الفاشل، أطول، وأكثر، من اللازم، في نصفها الثاني، برغم ما برهنت، وأكدت، عليه، نتائج عشرين عاماً من التجريب.
بهذا دخلت قيادة التنظيم السياسي الفلسطيني في محطة أخرى من محطات تراجع الدور الطليعي المبادر الحافز والمؤثر، بعد أن انزلقت، ووقعت مجدداً في وهدة الرهان على العوامل الخارجية، رغم وعيها، قبل، وأكثر، من غيرها، لدروس محطة ما بعد النكبة القاسية. أدى هذا الانزلاق إلى نتائج كارثية، شكل غياب البرنامج السياسي الوطني المُوحد والمُوحد عنوانها الأول والأساسي، وهو ما أفضى، بالنتيجة، بمعزل عن النوايا، إلى، بعثرة النضال الشعبي الميداني، وانقسام جهات استثماره السياسي، لتقع هذه الجهات، بمختلف أطرافها في حالة عجزٍ عن التصدي لمهمة استنهاض الحالة الشعبية الفلسطينية، في الوطن والشتات، أو تطوير هباتها، التي لم تنقطع، إلى حالة اشتباك انتفاضي واسع وعارم ومتواصل ومترابط الحلقات، وإلا ما معنى ألا يكون، (مثلاً) هذا هو مآل هبتي مايو/أيار ويونيو/حزيران 2011؟
وما معنى أن تعجز اليوم الحركة الوطنية الفلسطينية، بألوانها المتنوعة، عن تحويل ما يشهده الوطن المحتل، من حراك شعبي إلى انتفاضة، وهي الحراك الذي ما زال يتفاعل، ويشعل فتيله، تعرضُ المسجد الأقصى لاعتداءات المستوطنين واقتحاماتهم المتكررة، وتعرض أراضي الضفة لعمليات استيطان وتهويد متمادية ومتصاعدة؟ وما معنى ألا يشعل فتيل مثل هذه الانتفاضة تعرض الأسرى الفلسطينيين لعمليات تنكيل غير مسبوقة، دفعت عدداً منهم قبل شهور إلى الإضراب المفتوح عن الطعام مدة 23 يوماً، بل، ودفعت البطل الفلسطيني الحقيقي، الأسير خضر عدنان، إلى تسطير بطولة فردية منقطعة النظير، اتخذت دون مبالغة، طابعاً أسطورياً؟
بقي القول: في فلسطين، وفي أوساط شعبها، في الوطن والشتات، ثمة تناقض يقتضي حلاً. إنه تناقض خيار الرهان الفاشل على الخارج، مع خيار الانتفاض الشعبي المفروض بجرائم الاحتلال واستباحاته
صحيفة الخليج الإماراتية
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

سلطة المياه: 85 % من منشآت المياه والصرف الصحي بغزة تعرضت لأضرار جسيمة
المركز الفلسطيني للإعلام حذرت سلطة المياه الفلسطينية من كارثة إنسانية وشيكة تهدد أكثر من 2.3 مليون مواطن في قطاع غزة، نتيجة انهيار شبه الكامل في...

تقرير: إسرائيل تقتل مرضى السرطان انتظارًا وتضعهم في أتون جريمة الإبادة الجماعية
المركز الفلسطيني للإعلام حذر المركز الفلسطيني لحقوق الانسان، من إصرار دولة الاحتلال الاسرائيلي على الاستمرار في حرمان مرضى الأورام السرطانية من...

مستشفى الكويت الميداني بمواصي خانيونس يقلص خدماته بسبب الحصار
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أعلن مستشفى الكويت التخصصي الميداني في مواصي خانيونس عن اضطراره لتقليص عدد من خدماته الطبية، وسط الأوضاع الصحية...

جيش الاحتلال يفرض إغلاقًا على قرية المغير في رام الله
رام الله - المركز الفلسطيني للإعلام فرضت قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي، اليوم السبت، إغلاقًا على قرية المُغَيِّر شمال شرق مدينة رام الله وسط الضفة...

بوريل: إسرائيل ترتكب إبادة جماعية بغزة بقنابل من أوروبا
المركز الفلسطيني للإعلام أكد المسؤول السابق للسياسة الخارجية والأمن للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في قطاع غزة، وأن نصف...

الاحتلال يواصل الإبادة بغزة موقعاً 147 شهيدًا وجريحًا خلال 24 ساعة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أفادت وزارة الصحة بغزة، اليوم السبت، بأن مستشفيات القطاع استقبلت 23 شهيدا، و124 جريحا وذلك خلال 24 الساعة الماضية...

أوتشا: 70% من سكان قطاع غزة تحت أوامر التهجير القسري
نيويورك - المركز الفلسطيني للإعلام أكد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا"، أن الفلسطينيين يموتون بقطاع غزة الذي يرزح تحت حصار...