الخميس 13/مارس/2025

رفعت الأسطورة

د. جهاد حماد

رفعت العرعير
من الحكايات التي أدهشتني بقوة في الحرب على غزة حكاية ذلك الشاب الهادئ القادم من أزقة الشجاعية ليصبح أيقونة طلابية عالمية.

لم أعلم باستشهاد د. رفعت العرعير إلا عندما تقدمت طالبة من جامعة لندن وقالت بلغة انجليزية أصلية وبصوت حزين
“سألقي عليكم الآن قصيدة للدكتور الشهيد رفعت العرير أستاذ الأدب الإنجليزي والذي قتل بقصف إسرائيلي على بيته في غزة”.

ثم استجمعت الفتاة مشاعرها وهي تقرأ بصوت شجي ممزوج بالعشق والحماس:
” إذا كان لا بدّ أن أموت
‏فلا بد أن تعيش أنت
‏لتروي حكايتي”

وخلال أسابيع قليلة تحول أستاذ اللغة الإنجليزية في الجامعة الإسلامية بغزة أيقونة للنضال الطلابي ضد الاحتلال الإسرائيلي في المئات ولربما الآلاف من الجامعات الغربية الكبرى.

وبسرعة مدهشة انتشرت المخيمات الطلابية المتضامنة مع غزة في العديد من الجامعات البريطانية والأوربية والأمريكية والتي حملت اسم:
“مخيم د. رفعت العرعير” أو “مكتبة د. رفعت العرعير” أو “النصب التذكاري لرفعت العرعير”.

ولا تكاد تخلو مظاهرة في الدول الغربية من لافتات أو طائرات ورقية تحمل مقطع من قصيدة الدكتور رفعت العرعير وخصوصا المقطع الأول من قصيدته التي كتبها في الحرب وقبل أيام من وفاته.

كانت وصية راحل أكثر منها قصيدة:
If I must die
You must live
To tell the story

ولربما لم تحظي قصيدة في التاريخ الأدبي العالمي الحديث بمثل ما حظيت به قصيدة الدكتور رفعت العرعير. وخلال أقل من سنة من استشهاده تم ترجمة قصيدته لأكثر من مئتي لغة عالمية حية. مئتي لغة ؟؟ نعم مئتين لغية حية أي أنها تقريبا ترجمت لمعظم لغات العالم.

في إحدى المظاهرات في قلب لندن شاهدت عجوزا انجليزية بيضاء على كرسي متحرك وعلى ظهر مقعدها المتحرك كتبت مقدمة قصيدة الدكتور رفعت العرعير:
“إذا مت أنا
فلتعش أنت لتروي الحكاية”

وأصبحت الطائرة الورقية التي رسمها في قصيدته المكتوبة باللغة الإنجليزية أيقونة عالمية لطلاب الجامعات العالمية الكبرى.

“كي يُبصر طفلٌ في مكان ما من غزّة .. ‏وهو يحدّق في السماء..‏ منتظراً أباه الذي رحل فجأة.. ‏دون أن يودّع أحداً ..‏ولا حتى لحمه ..‏أو ذاته ..‏يبصر الطائرة الورقية ..‏طائرتي الورقية التي صنعتَها أنت ..‏تحلّق في الأعالي ..‏ويظنّ للحظة أن هناك ملاكاً.. ‏يعيد الحب..
إذا كان لا بد أن أموت
‏فليأتِ موتي بالأمل
‏فليصبح حكاية”.

لو أن عجوزا قبل ثلاثين عاما قالت لجارتها الجالسة بجوارها على مصاطب البيوت القديمة في حي الشجاعية البسيط المزدحم.

“هل ترين ذلك الولد الهادئ المتوجه لصلاة العصر في المسجد. يوما ما سيصبح رمزا عالميا للشعب الفلسطيني”
لربما اتهمتها جارتها بالجنون.

حتى أنا وأنا المفترض أني زميله في نفس الجامعة الإسلامية بغزة ظللت لفترة طويلة أحاول أعصر ذاكرتي بحثا عن د. رفعت العرعير لكن بلا فائدة فلم أتذكر أي مقابلة ولو عابرة معه.

لكن في أحد الأيام وعلى هامش إحدى المظاهرات في لندن قال لي أحد الأصدقاء: “يا دكتور جهاد أنا قابلتك قبل حوالي سبع سنين في محل في شارع أكسفورد ستريت وكان معي د. رفعت العرعير وحكينا معك شوية يومها قبل ما نفترق”. وكانت صدمة قاسية لي. أنا متعود على خيانات الذاكرة، ولكن ليس خيانة بحجم رفعت العرعير.

والأغرب ولربما الأقسى أنني لا أذكر أني وقفت أو تحدثت مع د. رفعت العرعير ولو لمرة واحدة في الجامعة الإسلامية التي عملنا فيها معا لسنوات طويلة في غزة.

يبدو أنه كان هادئا جدا لدرجة أني لم أشعر بمروره. لربما مرور رفعت العرعير كان هادئا جدا لكن موته كان صاخبا جدا.

صاخبا لدرجة أن أجراسه العملاقة مازالت تقرع بقوة في فضاء كبرى جامعات العالم لتذكرهم أن الكارثة الحقيقية والبطولة الحقيقية موجودة في غزة وليس في ذلك الثقب التاريخي الأسود المزور الذي حاولوا فرضه على العالم بالقوة والحقارة منذ عشرات السنين.

رحم الله د. رفعت العرير وكل شهداء غزة وفلسطين وغفر لنا تقصيرنا بحقهم.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات