لماذا ذهبنا إلى المعركة؟ لماذا لا نذهب؟

لماذا ذهبت المقاومة إلى معركة “طوفان الأقصى”؟ لماذا بادرت إلى الهجوم على مستوطنات “غلاف غزّة” وقواعدها العسكريّة بشكلٍ مباغت؟ فيما سبق كنا قد اعتدنا على ردّ العدوان الإسرائيلي عند قصف القطاع وقتل الناس وتدمير المباني؟ فلماذا بادرنا هذه المرّة؟ ما الذي اختلف؟
بدافع التبصّر بتطوّر المقاومة وانتقالها من وضعيةٍ لوضعية أكثر تقدماً، نطرح مثل هذه الأسئلة، مع العلم أنَّ هناك من يسأل الأسئلة ذاتها من وضعية تشكّكٍ وريبة، خاصّةً بعض النفوس التي تسلّل لها العجز، وارتبكت أمام المبادرة، إذ هي اعتادت أن ترى الضحية محط إهانةٍ وذلٍّ. وعادةً ما يزداد صوت هؤلاء ارتفاعاً كلّما طال أمد المعركة وازدادت فاتورة دمنا.
وعطفاً على ذلك، فإنّ السؤال مشروعٌ طالما يقف من يطرحه على أرضيّة المقاومة، لكنّه يغدو تخذيلاً إذا ما أذاعه المرجفون في المدينة، يقولون: ما الفائدة المرجوّة من اقتحام المُسلّحين المستوطنات ثم تُسوّى غزّة بالأرض؟ هؤلاء لا يقترحون السؤال إلا وداخله إجابة ضمنيّة بعدم جدوى المقاومة.
حملت مبادرةُ المقاومة في داخلها منطقَها، لأنّها من حيث المبدأ ما زالت في منطق الدفاع، الدفاع عن وجودنا الذي وضعوه على المَحك. عليك أن تلقي نظرةً فاحصةً على قطاع غزّة قبل الهجوم بأيام لتعرف أي أفق للحياة الكريمة قد أغلقوه. إنّه هجوم دفاعيّ عن أكثر من مليوني إنسان يموتون ببطء في قطاعٍ ضيّقٍ لا تتجاوز مساحته 360 كم٢ مفروضٌ عليه الحصار منذ أكثر من 16 سنة، ودفاعٌ عن أكثر من 14 مليون فلسطيني في الوطن والشتات يحلمون بوطنٍ حرّ آمن، ودفاعٌ عن أكثر من مليارين من أمّة العرب والإسلام حُرموا من أن يمتلكوا زمام أمرهم.
وربما نحتاج للتذكير بما هو معروف ضمناً: الإيمان المطلق بمشروعية المقاومة لردّ الأذى واقتلاع الاحتلال، فليس منصفاً أن يُسأل المظلوم عن رده الظلم عن نفسه، فيما لا تُسأل دولة الاحتلال عن عدوان تشنّه على القطاع، أو اعتداءات تُمارسها يومياً على الفلسطينيين ومقدّساتهم.
ورغم تلك المشروعية، وذلك المنطق الجليّ، فإنّ مثل هكذا سؤال نبت في بيئةٍ سياسيةٍ هذه بعض من سماتها: لم يعد ثمّة ما يُسمّى بحركة تحرّر، وطُرد اللاجئون من الخطاب السياسي، وهُدرت أعمار شبابنا بين جدران مغلقة يذوبون من ورائها بقهر المرض والنسيان، والاقصى عمليّاً قُسِّم زمانيّاً وصار عرضةً للاقتحامات المتكررة والتدنيس، وفي القدس وفي الضفّة يأكل الاستيطان من الأرض والناس حتى أنه بذاته أصبح دولةً مكتملة الأركان. في ظلّ هذه الأجواء، استثمرت في نفوس الناس مشاريعٌ كـ “صفقة القرن” ونقاشاتٌ باهتة فارغة كـ “حلّ الدولتين”، حتّى بزغ من هذا السياق المُغلق هجوم أكتوبر، لا شيء يقاوم الظلام ويلعنه معاً مثل شمعة المقاومة، وعلى ضوئها تصبح الرؤية أوضح.
وفيما يتعلق بالبيئة السياسية في قطاع غزّة تحديداً، فإنّ “إسرائيل” أرادت أن تحشر المقاومة في زاوية القتال لأجل القضايا المعيشيّة للناس؛ التصاريح ودخول البضائع والمنح الخارجية والإنارة والماء، وهي بالطبع قضايا شديدة الأهميّة، لكن “إسرائيل” استغلتها سعياً لتحويل المقاومة من سلاحٍ للتحرير إلى سلاحٍ لـ “تحسين” الأوضاع الاقتصاديّة، من سلاحٍ يُفكّر بتوحيد الجغرافيّات المُتقطّعة إلى سلاحٍ لا يفكّر أبعد من كيلومترات معدودة.
وفي ظل ذلك، فإنّ مبادرة المقاومة للمعركة هي محاولة للتحرّر من تلك الزاوية الضيّقة، وقد بدا ذلك واضحاً تحديداً في معركة “سيف القدس”، وما يجري اليوم هو مراكمة على ذلك. وهنا نستذكر أنّ المقاومة لم تتعالى على جراح الناس وصعوباتها المعيشيّة، لكنها اتخذت منها مُحرّكاً لفتح الأفق السياسيّ الذي ظلّ ضيّقاً لسنوات طويلة كما سعت “إسرائيل”، فرفعت الغاية إلى حدودها القصوى: تحرير الأقصى؛ هذه إجابة المقاومة لـ “تحسين الأوضاع”، من فكّ الحصار إلى تحرير الأمّة.
وبالعودة إلى “سيف القدس”، فقد كانت تطوّراً نوعيّاً في قواعد اللعبة، غير أنّ ما حقّقته المقاومة من مُكتسبات فيها سرعان ما خذّلتنا عنه أحوالُ البلاد والعباد، فنال منّا شيء من الشك في قدرتنا على مراكمة المنجزات، عطفاً على الحفاظ عليه. ثمّ توالت اقتحامات الأقصى بصورة أكبر من السابق، واستشرى القتل والاستيطان في الضفّة، وأُحكم الحصار على القطاع، واستُفرد مرّتين بإحدى فصائل المقاومة في غزة؛ حتّى إذا استيأس الناس وظنّوا أنّهم قد كذبوا “جاءهم نصرنا”؛ معركة “طوفان الأقصى”.
في ظلّ ما كان من يأس عند بعضنا، كان مقاتلو غزّة يُعدّون لمثل هذا اليوم، ليومٍ يقولون لنا فيه: استيقظوا من غفوتكم، التحرير مُمكن. صعدت هذه الفكرة مُقابل خفوت أسطورة “إسرائيل” التي اعتاشت على أسطرة نفسها، وكان شرط استمرارها هذه الهالة التي وضعتها في مكانٍ غير قابل للمس، مكان غير قابل للهجوم والتدمير.
فبعد كلّ مجموعة من الاغتيالات والاعتقالات في الضفّة مثلاً، كانت قلوبنا قبل ألسنتنا تقول: انتهت هذه الكتيبة أو تلك! بعد كلّ عمليّة فدائية يجري فيها مطاردة المُنفّذ، كنّا نقول: في النهاية سيُقبض عليه أو يستشهد! مع كلّ اعتداء و”نفخة بوق” في المسجد الأقصى، كنّا نقول: لقد خسرناه! حين تقرأ خبراً عن غزّة يفيد بأن “إسرائيل” تتحكّم بكل سعرة حراريّة تدخل للقطاع، كنّا نقول: هذا “وحش” في كلّ مكان. بهذه الطريقة، كانت “إسرائيل” تجثو على صدورنا، تتوسّع وتتمدّد، ومع كلّ فكرة حالمة تقضي عليها في نفوسنا كانت تبني مستوطنة! حتّى جاءت “طوفان الأقصى”.
إذن، لماذا ذهبنا إلى المعركة؟ لأجل هذا كلّه. لأجل كلّ قطرة دمِّ نزفها شهيد، ولأجل مئات آلاف الأحلام التي واراها التراب وقيّدتها قضبان السجن، ولأجل حرمان الناس من أبسط حقوقها في الماء والكهرباء والعلاج، ولأجل كلّ أولئك الذين هم تحت خطّ الفقر، وأولئك الذين ينضمّون سنويّاً إلى قافلة البطالة، ولأجل تلك التي لم تتمكّن من شراء “زيت الخروع” لأنه “ثنائي الاستخدام”، ولأجل كلّ أرض تُسرق أمام صاحبها المقهور، ولأجل المسجد الاقصى الذي آل إلينا إرثُ حمايته، ولأجل الأوصال المُقطّعة.. لأجل ذلك كلّه، لأجل أن نعود بقوةٍ إلى طرح أجندة التحرير لفلسطين كلّها من النهر إلى البحر.
درس في الإرادة: هزيمتهم ممكنة
الدرس الأهم في كل ما جرى هو أنّه تمكن هزيمة “إسرائيل”؛ أنها كفكرةٍ تقوم على الردع والتخويف والهيمنة والعربدة وضمان أمن المنطقة للعدوّ الأكبر أميركا، قد انتهت. فحين اجتاز المقاتلون السياجَ المُحصّن، في هذه اللحظة تحديداً، دمّروا فكرة “إسرائيل”. حرّروا لساعات وأيّام مساحاتٍ جغرافيّة مسلوبة، ولكن الأهم حرّروا مساحاتٍ في أدمغتنا إلى الأبد. أسروا جنوداً وضبّاطاً ومستوطنين، سيحرّرون بهم أسرانا من سجون الاحتلال، ولكن قبل ذلك حرّرونا من فكرة أن “إسرائيل” يستحيل انتهاؤها، منطقيّاً وواقعيّاً. هذا “الوحش” لا تزال تُثبت الوقائع المجبولة بالإرادة أنّه “وهمٌ من غبار”، كما قال صاحب نفق جلبوع.
لم تُنهِ المعركة “إسرائيل”، وليس عدلاً أن يُطلب منها ذلك، ولكنها أنهت فكرة “إسرائيل”. لا يعني ذلك بالضرورة أنّها دولة هشّة، فلا جدارة في قتال الضعيف، ولكن الذي بثّته المعركة أنَّ قتال القويّ ممكن، ومع توافر الشروط اللازمة، يُمكن التغلّب على غروره. انتصرت “إسرائيل” كثيراً بالتقنية والقوّة العسكريّة والاقتصاديّة، ولكنّها انتصرت قبل ذلك وبعده بمسيرة من الرعب. هذا ما كسرته المعركة، وهو نصف الأمر.
لقد قاتلت هذه القلّة القليلة المؤمنة عن الأمة العربية والإسلاميّة أجمع، وقد دلّلت على حقيقة لا رجعة عنها: أن العمل المصحوب بالإرادة، يُراكم على طريق التحرير؛ تحرير ما وقع على هذه الأمة من مظالم واستعمار، فتحرير فلسطين مقدّمة أو خاتمة لتحرير الأمّة. لذا، لم تعد كلمة “التحرير” مجازيّة حالمة يوصف الناطق بها بشرود الذهن. ومثل هذه الحقيقة، على بداهتها، كانت جلّ الأحداث تكذّبها، وكان المشكّكون بجدوى المقاومة يعبثون بما تبقّى من أمل.
لقد أعمت “إسرائيل” على قلوبنا، حتّى أنّا لم نعد نرى انتصاراتنا. هي منذ أمد بعيد، لم تنتصر في معركة بالمعنى الحاسم للكلمة. من وقت وعينا على الدنيا في الانتفاضة الثانية، ومروراً بجولات التصعيد والحروب على غزّة. في كلّ مرة كانت تفشل “إسرائيل” في تحقيق أهدافها من المعركة، كانت مقاومتنا تتقدّم خطوات دون أن ننتبه، ودون أن ينتبهوا هم أيضاً.
وفي الوقت الذي كانت تهرول فيه الدول العربيّة والإسلاميّة للتطبيع مع “إسرائيل”، كانت أقدام المقاتلين تهرول نحو الحُلم الأكبر. كان كلّ واحد من هؤلاء الرجال يحمل معه مُصحفاً في قلبه، يتلو ما تيسّر من آيات الجهاد. يعرف أن حلّ قضيّته الشخصيّة جداً، في حلّ القضيّة الكبرى. فخطى وارتقى، فكانت منزلته عند آخر نقطة يُدركها وراء السياج.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

79 دولة تؤكد دعمها للجنائية الدولية
واشنطن- المركز الفلسطيني للإعلام أصدرت 79 دولة من الدول الأطراف الموقعة على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، من بينها دولة فلسطين، اليوم...

لازاريني: حقوق الإنسان تنتهك بغزة بالرغم من وقف إطلاق النار
جنيف – المركز الفلسطيني للإعلام قال المفوض العام لوكالة إغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين "أونروا"، فيليب لازاريني، إن حقوق الفلسطينيين ما زالت تُنتهك،...

حذرت من تداعيات خطيرة.. كهرباء غزة تطلق نداء استغاثة لتشغيل شبكات التوزيع
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام قالت شركة توزيع كهرباء محافظات غزة، الجمعة، إنه "في ظل الأحوال الجوية القاسية والعواصف التي تضرب قطاع غزة، تُطلق...

حماس: ملتزمون باتفاق وقف إطلاق النار لتحقيق مصالح شعبنا
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام أكد الناطق باسم حركة "حماس" عبد اللطيف القانوع، التزام الحركة بتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار لتحقيق مصالح شعبنا. وأوضح...

أوتشا تؤكد دعمها الكامل لعمل المحكمة الجنائية الدولية
رام الله – المركز الفلسطيني للإعلام أعرب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا"، عن قلقه إزاء قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بفرض...

بعمليات قتل وحصار خانق .. إسرائيل تواصل الإبادة الجماعية في غزة رغم وقف إطلاق النار
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إن إسرائيل تواصل ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة رغم إعلان وقف إطلاق...

بجنازة عسكرية شعبية.. جماهير غزة تشيع القائد مروان عيسى
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام شيعت جماهير فلسطينية غفيرة جثمان مروان عيسى نائب القائد العام لكتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية...