الأربعاء 24/أبريل/2024

حصان طروادة … إذا أحجمت المعجزات فلا أقل من الخديعة

جمال الهور

“إهداء إلى أبطال عملية نفق جلبوع بمناسبة مرور خمسة أشهر على العملية”

مررتُ عليهم ذات يوم وهم يطوفون في فضاء جزيرة النسيان، مُجهدين، تنُزُّ جباههم عرق الغربة، سلمت مُقَبِّلًا، ثم صافحت وعانقت حينًا عطشًا فاح عبقه كأول المطر، أفسح لي محمود مجلسًا في حلقةٍ صغُرت أمام أركانها كل رتب العسكر، وتمدد الزمان والمكان حتى آخرهما معنا، وما استطاع الاحتواء، فرجال الحقائق لا طاقة للأزمنة ولا للأمكنة بذواتهم ولا بجوهر الفكرة التي يحدونها.

كان الظل ينكسر عند عنق البرج الشمالي الرابض بجُبنٍ خَزِيٍّ فوق كتف السور المحيط بسجن جلبوع، وكانت الحلقة تتسع، والمجالس تغير ركابها، فكلما جاء عظيم قوم “وكلهم عظماء”؛ قام له عظيمٌ آخر فأجلسه مجلسه، إلا محمود لم يشهر مجلسه عن يميني، ولم تفتأ يده تصافحني بين الحين والآخر، وكلما احتدم الحوار حول إمكانية خروج صفقة تبادل أسرى إلى النور خلال الزمن الراهن “أي في حينه”، كان يصافحني ضاغطًا على كفي، وسائلًا بعينيه الواسعتين قبل أن ينطق لسانه “بحسب رأيك هل هي قريبة؟”، سؤال كل الملايين، وكشف ما وراء المنطق، والمناقش ما وراء العقد المفككة بوعي الذي لا يملك المعلومة الدالة.

سؤال في جوابه يكمن كشف الحجاب عن أسرار “المغوار” الذي جعلها من الغيبيات الخمس، والتي تُعجز كل ذي عقل الإفصاح عما لا يملك، وإلا فهو يهرف بما لا يعرف، وأمام “طلسمة” العقد الأخير والثاني من قرن التحولات الكبرى، يكون الجواب “إن شاء الله لن تطول”، جواب حاسر الصدر، وفاقد الأدوات، لكنه مفعم بالأمل المتحفز، ومشدود الظهر بقدرٍ منتظر.

يسمع محمود جوابي على سؤاله، فيهمس بتمتمةٍ في جيب صدره، ليقول “لا بد من فك اللجام لحصان طروادة”.

لقد صنع محمود ورفاقه حصان طروادة الخاص بهم بمفاهيم مناهضة مغايرة، وبفلسفة اختراق عكس التيار، لقد فتشوا في أوراق المؤتمرات وقرارات الأمم الحضارية عن أسمائهم فلم يجدوا حروفها، كشفوا اللثام عن وجه “المقاومة الشعبية” فوجدوها عارية من دفء حريتهم، أحرقوا بخور الأمنيات فلم يظهر “هاروت أو ماروت”، قرعوا أجراس البوابات في ناحيات أوطانهم فصاح الرنين مرتجفًا منقسم اللحن والنغم، فارتدوا غضابًا يصرخون.

إنما انقسم اللحن بانكسار ذلك الوتر، فلا خلاص إلا باجتراح معجزة من جحيم العذاب، فمن يملك الإبرة يحفر الجبل، ومن يقرأ “أخيل” و”طروادة” يخلق حصانه.

ولما كانت أسوار السجن محكمة، والحراس يقظون متأهبون كما هي طروادة محاطة بسوارٍ جداريٍّ حصين، وعيون حراسها مشعة كاللهب، كان لا بد أن تحضر معجزة الحصان، وقد حضر “حصان جلبوع” بصبغته الأصيلة ومهارته المتحدية، ما بين غرته وحافره يختزل عشرتين ويزيد من سنين القهر والتغريب للجسد الثائر، ومثلها من سنين التفتيت والتذويب للأبجديات والمعاني.

حضرت المعجزة تحمل في ثناياها معنى الإرادة وفنونها، وكبرياء الضحية في وجه القاتل وجبروته، محمود يكتب الحكاية من نسيج تجربته وفهمه الذي يطال الـ “ما ورائيات”، فيرى به ما وراء الأسوار وما وراء نوافذ السجن وما وراء مساطبه وبلاطه، ويخترق الجدار الحديدي المسيطر بالصهر والكي على الوعي، ويتمرد على تنميط السلوك وتدجينه وتطويعه.

وأيهم ينظم فصول الحكاية ويحبك سرديتها، متغلبًا على حبكة السجان وخياله الباستيلي، ومحمد ويعقوب ومناضل يترجمون نظرية الحكاية إلى الفعل، ويصنعون من اللاشيء أدواتها، ونشيد حريتهم الصبر والجلد والحذر الخائف والسهر الطويل الذي يحفر صخر الأرض بالأظافر واللحم والدم والجروح المطهرة بالتراب، وحصى النفق المغسول بحبات عرقهم النازفة من عيون الشوق، وزكريا يجهز لهبوط الحكاية من ثنايا المستحيل، ويفرش تراب مآلها بثبات الانتماء للوطن.

حصان جلبوع يجمح في بطن الأرض بسداسيّ السادس من “سبتمبر/أيلول” المعجزة والحرية، السداسي المتمرس على منظومة “الخزنة” وحصارها، المفكك لشيفرتها وبرامج ترويضها الممعنة في القتل البطيء، السداسي الذي ضرب تحت الخاصرة في ذروة العنجهية والكبر المستعمرين، والذي أسقط ورقة التوت عن عورة الأمن الصهيوني، وفضح غروره وأسقطه في عين النفق المُذِل، ليظل في ذهوله محطومًا في غمرة الفجيعة.

سداسي الانتصار الذي أمات وأحيا، وأضحك وأبكى، وأعزَّ وأذل، أمات أشباه الرجال المتسلقون للبطولة، وأحيا الأبطال الذين أسقطهم التاريخ السياسي من حساباته المنتفعة والمأجورة، وأضحك قلوب فقراء الدرب وإخوان القيد في زمن الغربة والاغتراب، وأبكى جنرالات الصخب الاستعماري وشجرة الغرقد الناتئة في ظلال المستعمرة، وأعزَّ المذلول في قيدٍ وسلسلة، وأذلَّ المنتشي في ليله ببندقية القتل وقبة المراقبة الساهرة.

سداسي يكتب حكايته ليروي بها مصير الزمن، ممتهن بسبب خذلان الصديق وانكفاء البندقية الثائرة، مسيرة زمن معجون بعصارة القلوب المحاصرة وقروح المعاصم النابتة في حلقات القيود، إنها حكاية رجال الكهف الستة الذين أزاحوا القلعة بابتهال أمهاتهم في محراب الهجيع الأخير من الليل، وبآية الكرسي المغناة على ناي حناجرهم، أزاحوا القلعة وسجد لهم التاريخ سجدة التمجيد، مُقرًّا بقدرتهم على تحريف سننه وتغيير سيناريو لعبة البطولة بتبادل أدوارها بين عناصر الحكاية، وذلك عندما لعب الضعيف المحزون المغلول في سجنه دور البطل، فنهض نافضًا غبار السنين المتراكم فوق أكتاف الأمل، ثم غاص بعيدًا عبر جوف النفق، وحُداه جئتك أيها “البطل” المأسور في فسحة الحياة السرابية، المستريح على الضفة التائهة بين المدن المتحركة، المحاصر بأضواء المستعمرة وذئاب التلال.

إني قادم لتحريرك، فأنا من يملك الإرادة، وأنت من تعيش وهم الدولة، وجفف منابع السقاية والرافدة في بلاد الأنبياء، فأجاع الأصيل وكسر عصاه، وأشبع الدخيل وحمى حصنه، ولكثرة ما فكرتُ فيك في ليالي سجني ونهاراته، وكثرة ما أرقني عجزك عن واجب تحريري، انبريت بغيرتي على سقوط كبريائك الثوري، وبهمتي وعنادي التي عهدتهما يوم كنا نحتضن بنادقنا في خندق المقاومة، الذي ردمه نعلك الطلياني الجديد، وانبريت بإبرتي وأظافري ونصلات حديد جاء بها قدري، وخضت معركتك التي تخلفت عنها، وحفرت شريان حريتي بعدما قطعه تخلفك ونكوصك، وصنعتُ حصاني من تراب وحصى بعدما عقرت أنت حصانك العربي الأصيل.

نفخت في بطن الأرض أنفاس حريتي بعدما أخرست أنت صهيل الحرية بحفيف دولة الورق، فقل لي بربك أيُّ الحصانين عربيٌّ أصيل؟ حصاني الذي أعلفته خبز أمي وأسرار خابية جدتي وسردية أبي وجدي، وقلدته صورة داري وزيتونتي وأعراس البلابل والغزلان في بلدي فحملني إلى بلاد الشمس، أم حصانك الورقي المعلوف حبر العقود والمعاهدات، الموسوم بالتخلف لكثر معاكرة ليالي المفاوضات الحمراء، والتي استحمرته قطعان المستوطنين المتوحشة حتى حولت صهيله نهيقًا.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات