السبت 20/أبريل/2024

غزة إذ تقتل طائر الفينيق.. في مديح المدينة وأهلها

فراس أبو هلال

تقول الأسطورة الإغريقية إن طائر “الفينيق” طائر عجيب، يجدد نفسه بنفسه مرارا وتكرارا.

يعيد هذا الطائر تجديد نفسه مرة كل ألف عام حسب بعض روايات الأسطورة، فيصعد نحو جبل شاهق ويبني عشه ليموت فيه احتراقا، ثم يعود للحياة من رماد احتراقه.

يسمي العرب “الفينيق” بطائر العنقاء، ويعلمون أنها أسطورة. والعرب، رغم شاعريتهم، لم يخترعوا أساطيرهم، بل نقلوا أساطير الإغريق وعرّبوها، وقد قالوا في العنقاء “أَيْقَنْتُ أَنَّ الْمُسْتَحِيلَ ثَلاَثَةٌ … الْغُولُ وَالْعَنْقَاءُ وَالْخِلُّ الْوَفِي”.

وفي قصيدة “مديح الظل العالي” بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، يؤبّن الراحل محمود درويش العنقاء، ويقول “أيوب مات.. وماتت العنقاء.. وانصرف الصحابة”. 

ورغم تأبين محمود درويش للعنقاء، إلا أن الكثيرين شبهوا غزة بلغة شاعرية بطائر الفينيق، عندما صمدت بمواجهة عدوان الاحتلال عام 2008 و2009، ولكن، عذرا أيها الفينيق، عذرا أيتها العنقاء، فقد قتلتك غزة.. قتلت المدينة الفينيق وصارت هي الأسطورة!

يقولون إن الفينيق ينهض من رماده كل ألف عام، فيما تنهض غزة من رمادها كل يوم، تقف على قدميها بمواجهة القصف كل عام، كل يوم، كل ساعة. تصنع من ركام البيوت حياة لانهائية، تكتب أسطورتها الخاصة بلغة عربية فصيحة لا إغريقية فيها، تحتار الشمس في تجددها اليومي، وتتنحى العنقاء/ الأسطورة خجلا من حقيقية القصة في غزة، حيث يختلط الخيال بالواقع، لدرجة يصعب التفريق فيها بين ما هو حقيقي وما هو متخيل، فالحقيقة في غزة عصية حتى على فهم الخيال العادي، وتحتاج إلى خيال جامح كفرس أصيلة لتفهم حقيقة المدينة وسكانها.

يحتاج الإغريق لمليوني عام لصناعة أسطورة أخرى بعد أن قتلت غزة طائرها العظيم، وصارت هي الأسطورة. سيقول الإغريق، إذا عادوا يوما وصنعوا طائرا خياليا جديدا بديلا عن الفينيق، إن طائرهم الجديد يشبه غزة، فالمدينة أصبحت هي المثال وليس العكس!

العيد تحت القصف

مات أطفال كثيرون تحت القصف. تقول الأخبار إنهم تجاوزوا السبعين، وتقول الأسطورة الغزاوية إنهم يتجاوزون المليار. فمع كل طفل ماتت عائلة كانت ستولد يوما من زواج كان سيحظى بأغان شعبية صاخبة لا يفهم أحد مغزاها، ومع كل طفلة قتل حلم بفستان أبيض ولو بعد حين، ومع كل صرخة أم أو أب ماتت قصة كاملة، بدأت في وقتها بالضبط، وانتهت قبل وقتها بآلاف السنين!

مات أطفال كثيرون تحت القصف، ولكن ما مات أكثر هو فرحهم الطفولي بالعيد. كانت صور الضحايا سواء من استشهدوا أو من جرحوا وبقوا أحياء، تضج بالحياة. كانت ملابس العيد جميلة رغم غبار القصف والدم. كانت غزة تعلن عن قيامتها مع موت كل طفل، وتودع صغارها بثياب عيدهم.

مات أطفال كثيرون تحت القصف، فماذا جرى بألعابهم الفقيرة التي اشتروها يوم العيد؟ كيف استطاعت صواريخهم اللئيمة أن تقصف كل هذا الجمال والبراءة؟ وكيف توقفت ساعة العيد عن الدوران وسمحت بوقت مستقطع للقتل؟ كان الآباء يشترون ملابس العيد والألعاب لأطفالهم وهم لا يدركون إن كانوا سيكملون يومهم معها أم أن قاتلا باردا قادما من أوروبا أو أمريكا أو إثيوبيا سيخفف من ضجره بسرقة هدايا العيد من أطفالهم.. كان العيد يطل من خلف ستارة الموت المؤكد، ولكنهم أشاحوا أعينهم عن الستائر السوداء وأرادوا أن يعيش أطفالهم فرحة العيد حتى آخر نفس.

هذه المدينة وأهلها يعشقون العيد.. أطفالها يلبسون ملابسهم الجديدة الأنيقة ويحملون ألعابهم البريئة في مواجهة الموت. بعضهم عاش ليكمل حربه ضد الموت، وبعضهم مات ضاحكا من غباء القتلة الذين يحاربون شعبا لا ينتهي.

الطفلة الأم

لا تزال صور الحرب تعلق في قلوبنا، ولا يزال الموت يطرق الأبواب الموصدة. لا تزال رائحة الموت تبعث رسائلها المزدوجة بين الحزن والصمود، ولا يزال الشهداء يطلون علينا من شرفة مجدهم العالي كل صباح مع فناجين قهوتنا وصحن الفلافل والشاي بالميرمية يبشروننا بالحياة. 

لا تزال الصور تسجل تفاصيل حياتهم تحت القصف. وصورتك لا تكاد تفارقني. بنت في الثامنة أو التاسعة على ما يبدو، تلبس ثياب عيدها التي تعفرت مثل وجهها وشعرها بالغبار والدم. تحمل في يدها اليسرى أختها الصغرى بملابس عيدها الحمراء، وتمسح بيدها اليمنى رأس أختها التي تصغرها بعام -كما يبدو- وتنام على سرير طبي، فيما تمسح هي رأس أختها الواقفة على قدميها.

لم تكبري بعد بما يكفي يا حبيبتي لتواسي أختك الصغيرة.. ولم تكبر هي بما يكفي لتمسح على شعرك المعفر بالدم والغبار.. ولم تكبر الصغيرة جدا لتفهم حزنكما أو لتعرف سببا يشرح تمزيق ملابس عيدها الحمراء. لم تكبرن ثلاثتكن بما يكفي لكل هذا الحزن وهذا الفهم.. ولكن قدر الفلسطيني أن تغمّس أعياده بالدم، وقدر الغزاوي أن يكبر قبل أوانه.

المقاومة بالحياة

يقاوم “الغزازوة” كما نسيمهم بالفلسطينية المحكية أعداءهم بكل شيء. ثمة فصائل تقاوم بكل أنواع القوة المتاحة لها، والبعض يقاوم شعبيا عبر المسيرات والمظاهرات. آخرون يقاومون بالإعلام، وأطباء يقاومون بمراييلهم البيضاء وسماعات أذنهم القديمة التي عجزوا عن تحديثها بسبب الحصار.

لكن “الغزازوة” جميعا يقاومون عدوهم “بالحياة”. بعد الحرب الأولى على غزة أنتج المخرج الغزاوي المعروف أشرف المشهراوي فيلما وثائقيا بعنوان “غزة تعيش”، وهو فيلم جميل يلخص فلسفة الحياة في غزة بمواجهة الموت والدمار. في غزة فيلم آخر لم ينتجه أحد، يظهر جمال التمرد على القتل من خلال ممارسة الحياة تحت القصف وفوق الدمار.

أم “تحمّم” أطفالها في “البانيو” الذي نجا من القصف. تعبئ البانيو بماء اقترضته من جارتها التي لم يقصف بيتها، وتغسل أطفالها في الهواء الطلق. صورة الأم وأطفالها تقهر العدو تماما كما تقهره قوة المقاومة، فهو يريد للفلسطيني أن يستسلم للموت، والغزاوي/ الفلسطيني يقاومه بالحياة.

طفل عاد لبيته المقصوف بعد رحيل الطائرات القاتلة ليبحث عن ألعابه التي نجت من القصف، وطفلان شقيقان “يسرقان” قفص عصافير من الموت الذي يحوم في سماء غزة، وزوجة تخفي جمالها الريفي خلف منديل ربطته بعناية تصنع الشاي على ما تبقى من خزائن مطبخها التي صارت في العراء. علق أحدهم: كانت تتمنى دائما أن تملك مطبخا مفتوحا على الطريقة الأمريكية وها هي تحصل عليه أخيرا. لم تقرأ السيدة التعليق بالتأكيد بسبب انقطاع الكهرباء والإنترنت، ولو قرأته لردت: لا أريد مطبخا مفتوحا.. سأعيش وأشرب الشاي مع زوجي وأولادي، بمطبخ أو بدون مطبخ، ففي غزة تستطيع النساء أن يصنعن الجمال برغم القصف والألم.

تتكاثر صور الحياة بعد القصف، فهذا رجل يسحب دخان “شيشته” فوق ركام بيته الذي هدمه القصف، وهذه عائلة تحتفل بعيد ميلاد صغيرها على ضوء “الحطب” الذي أوقدوه على أطلال بيتهم. أما البحر، فهو قصة أخرى في غزة. البحر مستودع السمك، ومستودع السحر، ومستودع البهجة. البحر أفق للإطلال على البعيد الممنوع، وشبكة تحمل رزقا قليلا بالكاد يكفي لطعام العائلة، وأسرار عاشقين أو خطيبين يلعنان الحصار وتأخر الزواج بسبب سوء الحال، ومتعة السباحة المجانية حيث لا برك سباحة ولا فلل أو قصور أو فنادق. البحر في غزة هو يوم الخميس المستمر من العصر حتى فجر الجمعة، هو رائحة “الزنخ” ورائحة الحياة معا. هو محج الغزازوة في العطلة الأسبوعية الأولى بعد القصف، هو “سيف الحياة” الذي يشهره الناس العاديون جنبا إلى جنب مع “سيف القدس” في وجه الموت القادم من الطائرات!

العيد بعد القصف
بقدر ما ترمز تكبيرات يوم العيد إلى التسليم لعظمة الله مقارنة بقدرات البشر والركون إلى هذه القوة/ العظمة، بقدر ما ترمز أيضا للفرح. التكبيرات تمثل ذروة الفرح عند الأطفال مع “العيدية” التي يحصلون عليها من كبار العائلة، أما عند الراشدين فالفرحة تتكثف بهذه التكبيرات فقط. يمشي المصلون إلى أماكن صلاة العيد بعد شهر من التعب -والصيام متعب وجميل- تشدّهم نحو السماء أصوات التكبيرات، وكلما اقتربوا من ساحة الصلاة أو المسجد، ارتفع الصوت القادم منها. يبدأ الصوت من بعيد كهمهات غير مفهومة، ولكنه يكتسب معناه ويرتفع صوته تدريجيا كلما اقتربت منه أكثر، وتكتمل الفرحة عندما تتداخل أصوات المكبرين القادمين للصلاة مع أصوات من سبقوهم للجلوس في الساحة أو المسجد. هنا يبدأ العيد، وإلى حد كبير هنا ينتهي.

لم يتمكن الغزيّون من ممارسة فرحهم بالعيد تحت القصف، ولكنهم خرجوا عن بكرة أبيهم لحظة وقف إطلاق النار عند الساعة الثانية فجرا. كانت تكبيرات العيد التي رددوها ليست تعبيرا عن شعورهم بالنصر فقط، ولكنها كانت تعويضا عن الفرح الذي فقدوه في أيام العيد. هذه المدينة يعشق أهلها الفرح، هذه المدينة يقاوم أهلها عدوهم بالفرح، وهذه المدينة تستحق أن تفرح، وتستحق أن تسمع تكبيرات أهلها في العيد المؤجل، وأن تؤرخ خروجا جديدا لغزة، لا طائر الفينيق، من الرماد!

عربي21

 

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات