معاذ بلال.. أسيرٌ من أجل الأسرى!

منذ عشرين عاما، وخلف قضبان الأسر، تَبرق عينان في عتمة السجون أملًا وشوقًا وانتظارًا لحريةٍ أرادها صاحبها لكل إخوانه الأسرى، لتعم الفرحة أرجاء الوطن، وتدخل إلى كل بيوت ذوي الأسرى.
صاحب تلك العينين هو الأسير معاذ سعيد بلال، ابن مدينة نابلس، وأحد رجالات القسام الذين حملوا على عاتقهم مهمة تحرير الأسرى، حتى لو كلفهم ذلك دماءهم وأرواحهم وحريتهم، فسجلوا أسماءهم في سجل الخالدين، ومضوا بين أسير وشهيد.
معاذ الذي ولد عام 1971 لأسرة متدينة معروفة بالتزامها، عرف طريقه إلى المساجد وساحات المواجهة مع الاحتلال منذ صغره، سيرا على خطى والده الداعية الشهير الشيخ سعيد بلال، أحد رجالات الرعيل الأول للإخوان المسلمين في فلسطين.
كانت أولى محطات المواجهة التي خاضها معاذ في سنوات طفولته، حينما أوقع جنديا أرضًا بوضع عصا بين قدميه أثناء اقتحامهم منزل عائلته، فكان أن صفع ذلك الجندي معاذًا على وجهه، وكانت تلك الصفعة كافية لتجعله يدرك طبيعة العلاقة مع المحتل.
في سن مبكرة تعرف معاذ على السجون ومعاناة ذوي الأسرى، كان ذلك حين اعتُقل والده أوائل الثمانينات على خلفية اكتشاف خلية مسلحة للحركة الإسلامية في الداخل المحتل، ثم اعتقله الاحتلال وهو في الصف الرابع الأساسي برفقة والدته، للضغط على والده وإجباره على الاعتراف.
هناك في غرفة التحقيق، أجلسه المحقق في حضن والده المُكبَّل بالقيود، وأجبره على التحديق في عيني والده، وأن يُقبِّل وجنتيه، ويداعب لحيته، وأن يطلب منه قول الحقيقة، لكنه ورغم طفولته فهِم مغزى نظرات والده التي تأبى الاستسلام.
وبعد ذلك، انتزعه المحقق من حضن والده، واحتجزه في زنزانة انفرادية مجاورة، لكي يُسمع والده صوت بكائه، إمعانا في الضغط عليه.
على درب والده
ومع انتقال عائلته للسكن في مخيم بلاطة، والتحاقه بالمدرسة الثانوية، ورث عن والده الدور الدعوي، وأسس مع زملاء له ما عرف بـ “الشباب المسلم” في المدرسة، وتزامن ذلك مع اشتعال الانتفاضة الأولى، التي انخرط بها أبناء الشباب المسلم.
التحق معاذ بجامعة النجاح ليدرس الشريعة الإسلامية، سائرا على درب والده، وهناك التحق بصفوف الكتلة الإسلامية التي ارتقى في مواقعها القيادية.
في عام 1994، التحق بكتائب القسام مع مجموعة ضمت كوكبة من قادة ومؤسسي الكتائب، وعلى رأسهم الشهيد يحيى عياش وعلي عاصي، وعدنان مرعي.
وعلى إثر ذلك، كان أول اعتقال فعلي لمعاذ في ذلك العام على خلفية تقديم المساعدة لهذه المجموعة القسامية، وأُفرج عنه بعد اعتقال 11 شهرا.
ثم أعيد للاعتقال ثانية بعد أسبوع من اعتقال أخيه عثمان في عام 1995، على إثر نشاطه بالكتلة الإسلامية، وأمضى في ذلك الاعتقال 17 شهرا.
بعد الإفراج عنه من هذا الاعتقال، كان لدى معاذ ما يكفي من العزيمة والإصرار على السعي لتحرير الأسرى، ومنهم أخوه عثمان المحكوم بالمؤبد مدى الحياة.
وبعد ثلاثة أيام فقط من الإفراج عنه، بادر لتشكيل مجموعته القسامية الأولى مع الشهيدين نسيم أبو الروس وجاسر سمارو.
بعد ذلك اندمجت المجموعة مع مجموعة قسامية أخرى، ضمت الشهداء خليل الشريف ومحمود أبو هنود ويوسف السركجي وغيرهم، تحت مسمى “شهداء من أجل الأسرى”، وعلى إثر ذلك تم الاتفاق في عام 1997 على إعادة تشكيل الجهاز العسكري للقسام في المدينة.
كانت قضية الأسرى هي الشغل الشاغل لمعاذ وإخوانه، ولهذا كانت فكرة تأسيس هذه الخلية هي تنفيذ سلسلة عمليات استشهادية، والتهديد بتنفيذ عمليات أخرى إذا لم يفرج عن عدد محدد من الأسرى.
وكانت العملية الأولى في 31 تموز/ يوليو 1997 في سوق “محانيه يهودا” بالقدس المحتلة، وأسفرت عن مصرع 15 صهيونيا وإصابة 170 آخرين، وجاءت ردا على نشر المستوطنين صورا مسيئة للنبي محمد –صلى الله عليه وسلم-، وللمطالبة بتحرير الشيخ أحمد ياسين الذي كان معتقلا آنذاك وإخوانه من أصحاب المؤبدات.
وبعد أيام جاءت العملية الاستشهادية الثانية في شارع “بن يهودا” بالقدس، وأسفرت عن مصرع 4 صهاينة وإصابة 200.
مضت أربعة أشهر عقب العملية الثانية، قبل أن يقع معاذ بقبضة الاحتلال الذي نصب له كمينا محكما عند مخيم العروب في الخليل، وهو في طريق عودته لنابلس في 11 كانون الثاني/ يناير 1998، بعد لقائه بالشهيدين أبو هنود وعادل عوض الله.
اقتيد معاذ لأقبية التحقيق الذي استمر معه 3 أشهر، ثم حكم بالسجن المؤبد 26 مرة و27 سنة.
وروى عمر بلال مواقف مشرفة لشقيقه معاذ في جلسة المحكمة، وقال لـ”المركز الفلسطيني للإعلام“: “بينما كان منشغلا بالحديث إلى أمه غير مكترث لمجريات المحاكمة، سمع المدعي الصهيوني يصفه بالقاتل، فالتفت إليه ورد عليه بكل قوة: أنت القاتل، أنتم من احتللم أرضنا وقتلتم أبناءنا”.
وبعد النطق بالحكم، خاطب القاضي قائلا: “أنا لا أعترف بك ولا بمحكمتك، وسنخرج من السجن في أقرب وقت، ودولتكم إلى زوال”.
السجن جنات ونار
وبالرغم من قسوة السجن والسجان، إلا أنه استطاع قهر سجنه بالتقرب من الله والإقبال على كتابه الكريم، والمطالعة، والعمل الحركي، كما كان السجن فرصة للاحتكاك بأبناء شعبه من كافة الاتجاهات الفكرية والفصائلية.
وعندما اعتقل كان قد أنهى متطلبات تخرجه من كلية الشريعة، لكنه لم يتسلم شهادته التي تسلمتها والدته بالنيابة عنه، واستطاع خلال سنوات اعتقاله إكمال دراسته الجامعية والحصول على الماجستير في الدراسات الإسرائيلية من جامعة القدس عام 2016.
ويصف عمر شقيقه معاذ بالخطيب المفوّه، الذي يجيد الخطابة والكتابة والشعر، مضيفا: “المخابرات الفلسطينية قالت بعد اعتقال معاذ أنه أكثر شخص خدعها، والسبب هو أن من يجيدون الخطابة والكلام لا يجيدون العمل العسكري”.
تضحيات متواصلة
عائلة بلال هي نموذج للعائلة الفلسطينية التي قدمت التضحيات تلو التضحيات ولا تزال، فمنذ العام 1993 لم تجتمع إلا مناصفة، بل إن الإخوة الخمسة وأمهم السبعينية، قد تواجدوا في السجون في لحظة واحدة عام 2009.
ولعل أصعب اللحظات التي مر بها الأسير معاذ هي لحظة وصول نبأ وفاة والده الشيخ سعيد بلال عام 2005، والذي كان قد زار ولديه معاذ وعثمان قبل شهرين من وفاته.
وعن تلك الزيارة يقول عمر: “عاد أبي من تلك الزيارة والبسمة تملأ وجهه، وكأنها كانت زيارة مودع وقد اطمأن على ولديه قبل وفاته، وقد التقط صورا جمعته بهما، رغم أنه لم يكن يحب التصوير، بل وطبع نسخًا عديدة من تلك الصور”.
أما الحادثة التي فُجع بها معاذ، فكانت الوفاة المفاجئة لشقيقه الأكبر “بكر” عام 2016، وهو الذي حرم من لقائه والاجتماع به منذ اعتقاله.
وكانت لحظات تنفيذ صفقة “وفاء الأحرار” من أصعب اللحظات التي مر بها معاذ وشقيقه عثمان، فلم يلعنا حظهما، ولم يكفرا بالقيم والمبادئ التي قاتلا وأُسِرا وصدر بحقهما حكم المؤبد من أجلها.
ويقول فؤاد الخفش الباحث في شؤون الأسرى والذي تربطه علاقة صداقة قوية بمعاذ، أن معاذ قابل نبأ استثنائه من الإفراج بالصفقة بالقول: “يا رب لك الحمد، اللهم إني راض بحكمك فارضَ عني”.
وأضاف في حديثه لـ”المركز الفلسطيني للإعلام“: “خرّ معاذ ساجداً لله، طالباً من الله أن يلهم أمه الصبر والرضا، ورفع رأسه من السجود ليعانق من أفرج عنه ويبتسم لمن سيخرج، ويواسي من تبقى، مذكراً بجزاء من صبر”.
ويقول عمر إن الاحتلال كان لديه رفض مطلق للإفراج عن معاذ الذي يعتبره من أخطر الأسرى.
وبالرغم من ذلك، إلا أن أمل معاذ وعائلة بلال لم ينقطع يوما بالله، ويقول عمر: “كان والدي يقول إن عمر الإنسان هو أنفاس معدودة في أماكن محدود، وإذا كان لهما (معاذ وعثمان) أنفاس خارج السجن فسيخرجان رغم أنف السجان”.
ويؤكد عمر أن معاذ يتمتع بمعنويات عالية، وثقته بالله لا حدود لها، مضيفا: “أملنا بالله أن يهيئ الأسباب الكفيلة بالإفراج عن معاذ في أقرب وقت”.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

45 شهيدًا بمجازر إسرائيلية دامية في مخيم جباليا
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد 45 مواطنًا على الأقل وأصيب وفقد العشرات - فجر اليوم- في مجازر دامية ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بعدما...

صاروخ يمني فرط صوتي يستهدف مطار بن غوريون ويوقفه عن العمل
صنعاء – المركز الفلسطيني للإعلام قال المتحدث باسم القوات المسلحة اليمنية، العميد يحيى سريع، إن القوات الصاروخية استهدفت مطار "بن غوريون" في منطقة...

المقاومة تقصف عسقلان وأسدود وغلاف غزة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام تبنت " سرايا القدس" الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، مساء اليوم، قصف اسدود وعسقلان ومستوطنات غلاف غزة برشقات...

لازاريني: استخدام إسرائيل سلاح التجويع جريمة حرب موصوفة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام قال المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، فيليب لازاريني، إن استخدام "إسرائيل"...

24 شهيدًا وعشرات الجرحى والمفقودين بقصف محيط المستشفى الأوروبي بخانيونس
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام اسشتهد 24 فلسطينياً وأصيب عدد كبير بجراح مختلفة فيما فُقد عدد من المواطنين تحت الركام، إثر استهداف إسرائيلي بأحزمة...

المبادر المتخابر في قبضة أمن المقاومة والحارس تكشف تفاصيل
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام كشفت مصادر أمنية اعترافات عميل تخابر مع الاحتلال الإسرائيلي تحت غطاء "مبادر مجتمعي"، لجمع معلومات حول المقاومة...

حماس: قرار الاحتلال بشأن أراضي الضفة خطوة خطيرة ضمن مشروع التهجير
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام اعتبرت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إنّ قرار الاحتلال الإسرائيلي إعادة تفعيل ما يُسمّى “عملية تسجيل ملكية الأراضي...