الجمعة 29/مارس/2024

فلسطينيو لبنان.. من ضعف المرجعية إلى الفوضى الأمنية

أحمد الحيلة

كثرت في الأشهر الأخيرة الأحداث الأمنية في الوسط الفلسطيني في لبنان، خاصّة في مخيّم عين الحلوة الذي شهد عشرات الاشتباكات الداخلية، ومخيّم برج البراجنة الذي كان على موعد، يوم الجمعة الماضية، مع أعنف اشتباكات جرت بين شباب ينتمون لعائلة آل جعفر اللبنانية من الطائفة الشيعية وبين شباب فلسطيني، على خط التماس الفاصل بين المخيم والضاحية الجنوبية لبيروت (حي البعلبكية)، حيث استمرت الاشتباكات لنحو 4 ساعات متواصلة، استُخدمت فيها الأسلحة الرشاشة، والقذائق الصاروخية، والقنابل..، ما أسفر عن مقتل مُسن فلسطيني وإصابة آخرين.

بتدخل من الجيش اللبناني، وحزب الله، وحركة أمل، وحركتي “حماس” و “فتح” والفصائل الفلسطينية، توقفت الاشتباكات التي وُصفت بالأعنف منذ 30 سنة، وعادت الحياة إلى طبيعتها، مع حذر وقلق عالقٍ بذكريات الحرب الأهلية الدامية التي انغمس فيها الجميع بخلفيات طائفية، مذهبية، قومية..، وذكريات حرب المخيمات والحصار الذي شهدته حتى عام 1987.

استمرار حالة الفوضى الأمنية، يُعدّ وصفة سامّة للقضاء على الوجود الفلسطيني في لبنان، ومدخلاً لفتح الحديث عن التهجير بمراكب استرالية، واسكندنافية، وكندية..، ما يعني التمهيد لتصفية أحد أهم ملفات القضية الفلسطينية المتمثل في حق العودة

تلك الحادثة كشفت مستوى الهشاشة الأمنية التي عليها الوضع في لبنان، ولولا وعي القوى السياسية، وقوى الأمن اللبناني لكان الوضع انصرف لما هو أعظم، ولاندلعت الاشتباكات في أكثر من محور وعلى خطوط التماس بين عموم المخيمات والجوار اللبناني، على خلفية طائفية شيعية سنية، وعصبية لبنانية فلسطينية..، ما يعني دخول البلد ـ لا قدر الله ـ في أتون صراعات محلية، إقليمية، دولية يصعب فك شيفرتها، في ظل الفوضى والاقتتال الذي يشهده الشرق الأوسط..، ولَكَان الضرر كارثياً على الجميع وفي مقدمتهم الفلسطيني في لبنان المستهدف منذ فترة عبر إجراءات تراكمية، بدءاً من تقليصات الأونروا على مستوى التعليم والخدمات الطبية والبنى التحتية، ومروراً بالاشتباكات الأمنية المتكررة في مخيم عين الحلوة والتي يَصعُب تفسيرها أحياناً، وليس انتهاءً بضعف المرجعية السياسية والأمنية للفلسطينيين؛ عبر انسحاب حركة “فتح” من اللجنة الأمنية في عين الحلوة ومن ثم العودة لها لاحقاً وفق صيغة إجرائية جديدة، هذا ناهيك عن كون حركة “فتح” طرفاً في العديد من الاشتباكات التي تجري هناك أصلاً، إضافة إلى غياب الرؤيا لدى منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس، الذي زار بيروت مؤخراً، وطرح على الدولة اللبنانية استلامها المسؤولية الأمنية عن المخيمات في الوقت الذي كان فيه عضو اللجنة المركزية لحركة “فتح”، ومسؤول الملف الفلسطيني في لبنان عزام الأحمد، يُكيل الاتهامات لأطراف لبنانية ويحمّلها مسؤولية الأحداث الأمنية الجارية في مخيّم عين الحلوة.

هذا التخبط، وهذا الغياب المقلق لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وتعدد المرجعيات الفتحاوية بين أمني وسياسي، وبين السفارة الفلسطينية ومسؤول الملف في رام الله، وتعدد المرجعيات المحلية وتصادمها أحياناً بقوة السلاح، إضافة إلى الانقسام الفتحاوي بين مؤيد لمحمد دحلان ومؤيد لمحمود عباس، وحالة الاستقطاب الحاد بينهما..، يزيد من معاناة الفلسطينيين ويكشف ظهرهم لوكالة الأونروا، ولمجموعاتٍ متطرفةٍ، ولأجهزةٍ أمنيةٍ قد تجد ضالتها في اختراق الحالة الفلسطينية وتوظيفها لأجندات خارجية بعيدة كل البعد عن مسار الصراع مع الاحتلال، وحق العودة إلى فلسطين.

اعتبار ما يجري في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ومع الجوار اللبناني، مجرد إفراز لتعقيدات المشهد اللبناني المحلي، أو نتيجة طبيعية للأوضاع المعيشية الصعبة التي عليها المخيمات وقاطنيها، وبأنه فقاعات صابون لا تكاد تظهر حتى تختفي، إنما هو تقدير غير دقيق

إن استمرار حالة الفوضى الأمنية، يُعدّ وصفة سامّة للقضاء على الوجود الفلسطيني في لبنان، ومدخلاً لفتح الحديث عن التهجير بمراكب استرالية، واسكندنافية، وكندية..، ما يعني التمهيد لتصفية أحد أهم ملفات القضية الفلسطينية المتمثل في حق العودة، عبر إفراغ جغرافيا فلسطين ودول الطوق من الحاضنة الطبيعية لقوى الثورة والمقاومة والنضال ضد الاحتلال الصهيوني. وتلك الخشية على مصير الفلسطينيين في لبنان تجلّت في موقف البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الذي قال في مقابلة مع قناة سكاي نيوز عربية بالتزامن مع أحداث برج البراجنة؛ إن “الفلسطيني هو من صَنَعَ حرب الـ 75 في لبنان، فلماذا لا يرحل”. 

ومن هنا فإن عدّ ما يجري في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ومع الجوار اللبناني، مجرد إفراز لتعقيدات المشهد اللبناني المحلي، أو نتيجة طبيعية للأوضاع المعيشية الصعبة التي عليها المخيمات وقاطنيها، وبأنه فقاعات صابون لا تكاد تظهر حتى تختفي، إنما هو تقدير غير دقيق؛ لأن مشهد المنطقة العربية وعدم استقراره يعني أن القوى الفاعلة إقليمياً ودولياً ما زالت بحاجة لأوراق قوةٍ في مواجهة بعضها البعض؛ والخشية تكمن في أنه إذا استمر الاضطراب في الإقليم، وبقيت حالة الغموض تلف المنطقة، فإن الورقة الفلسطينية قد تصبح في وقت ما حاجة لهذا الطرف أو ذاك، فتذهب محرقة في اللعبة الإقليمية والدولية.

وهذا يدفع إلى لفت النظر إلى أهمية العامل الفلسطيني الداخلي كملاذٍ آمن يتجسّد في حسن الإدارة والتصرف وسد الذرائع؛ لأن الوجود الفلسطيني في لبنان وإن كانت تتداخل فيه عوامل إقليمية ودولية..، إلا أنه يتأثر بالعامل الذاتي أكثر من أي عامل آخر، لا سيّما وحدة المرجعية السياسية من عدمها، إضافة إلى وضوح الرؤيا؛ على قاعدة الصمود وتوحيد الجهود باتجاه حق العودة، وعدم التدخل في الخلافات والصراعات الداخلية في البلدان المُضيفة. وإذا كانت قيادة السلطة الفلسطينية لا تؤمن بواقعية حق العودة، وفقاً لاتفاقيات أوسلو ومواقف الرئيس محمود عباس، فإن ذلك لا يعني ترك الشعب الفلسطيني في مهب الريح يلقى حتفه بين موج بحر أو انتحار على مذبح الفقر والفوضى الأمنية والاقتتال بين الأشقاء.

*كاتب ومحلل سياسي فلسطيني

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات