الأربعاء 24/أبريل/2024

نزور أرواح غزة ونعانق غائبيها!

محمد أبو حية

تعودت أن أرتدي أجمل الثياب عند الخروجمن البيت؛ فهكذا تحب أن تراني أمي. أتعطر بعطر خفيف لا يزعج هدوء أنفاسها؛ فإني مقبلهاقبل الخروج وعند الإياب.


تسألني دائما أين المسير؟ ومتى الرجوع؟وكم سأقضي في الغياب؟ أجيبها بالحقيقة وأرسم لها خطاي على خريطة نسجتها من حرير معلقةبغرفتها؛ لأبقى أمام عينها طوال اليوم.


أضطر أحيانًا أن أجيب أمي بخبث عجوزيحمل لغمًا في سلة قش، يمر به على حاجز للعدو، كي يسلمه لمقاتل تمترس على ثغر المخيم؛وكم يبدو حينها حذرًا كتومًا ، وغيرَ مبالٍ إلى حد كبير!


أنا منذ صغري لا أحب إزعاجها بأنباءالراحلين والغائبين في غزة؛ لأن دمعها قريب، ولا أطيق رؤيته ينهمر! فأراوغ بإجابة أسئلتها،وأخفي ما أحمله كذاك العجوز.


طبعت على جبينها قبلة، واستأذنتها بالخروجفي زيارة، وذهبت من أمامها بسرعة غارة؛ لأني سأعترف بكل شيء إن قالت: ضع “عينكفي عيني”!


وأنا أركض خارج البيت، سمعت ضحكة أميمن حركاتي البهلوانية لإشغالها، وسيلًا من الدعاء والرجاء بأن يحفظني رب السماء.


وصلت مقبرة المخيم، ألقيت التحية علىالراحلين، وتمتمت بآيات من القرآن، وبدأت أعانق روح صديق هنا وحبيب هناك.


جلست عند رأس صديقي الذي رحل في حربغزة الثالثة، وأخبرته أن العدو اعترف بقتله بقذيفة زورق عندما أطل برأسه من فتحة الخندق.طار صمت القبور، وحط بعيدًا؛ فأخبرني محمد أنه حي يرزق!


فرحت كطفل تناول الحلوى بعد اشتياق!ومشيت على رؤوس أصابعي؛ حتى لا أزعجه برحيلي، رغم أنه أفجعني برحيله؛ فالحرص على المشاعرمن صفات العاشقين.


ذهبتُ – ساعةَ المغيب – شرق المخيمنحو سيدة تجلس قرب منزلها المتصدع شوقا لغائب سافر ولم يعد.


اقتربت منها؛ فإذا بها تنظر نحو الجنوب،ودموعها كشلال متدفق ينحت في وجهها طريقين تخفيهما بطرحتها.


سلكت أحد الطرق؛ فوصلت قلبها، أخبرتنيبقصة ثلاثةٍ ابنُها رابعُهم، وهو وحيدها، وعمود البيت الذي أوشك على الانهيار.


أخبرتها أنه لا داعي للقلق؛ فنجلهافي ضيافة “النيل”! وسرعان ما عاتبت نفسي، فأي ضيافة يرغم عليها المرء تحتتهديد السلاح؟ وأي ضيافة تستمر خمسة أشهر؟ وأي ضيافة تكون عند مضيف مجهول؟!


السيدة يطعنها الحنين لعناق حبيبهافي المساء؛ فتنزف حتى الصباح! وهذا حالها منذ الغياب! أمسكت يدي عندما انتصبت للرحيل،وطلبت أن أبقى قليلًا؛ ففي وجهي من ابنها الشيء الكثير!


نزلت عند رغبتها بالجلوس، لكني رددتأمانتها الثقيلة باستقصاء أخبار الغائبين الحاضرين؛ فأنا ضعيف البنية السياسية والأمنية،ولا أقوى على حمل أمانتها فتأديتها!


في طريق العودة للبيت، رأيت شهيدا يزف،وبعلم يلف، وهذا حال الشهداء الذين يطيرون أسرابا في وطني، منذ نكبتنا، فنكستنا، فانتفاضتنا،فحصارنا، فحروبنا الثلاث.


سألت طفلة تقف في الجوار: من قتله؟قالت: شقيق له! قلت: فيم قتله؟! قالت: ذهب يطلب حقه! قلت: هل شكّل خطرًا؟ قالت: كانعاريًا؛ فرموه بالرصاص؛ فأسدل الموج ستاره على جثمانه، ليستر عورته! قذفه البحر ؛ فانتشلهأربعة، كأي شيء.. إلا كإنسان! والمشهد موثق!


بدت الطفلة كزهرة ذابلة، وهي تسمع صرخاتالمحبين وعويلهم، وهم يلقون نظرة ما قبل الغياب على الجثمان المحرر، بعد احتجاز لأيام!


مسحت على شعرها، وأغلقت أذنيها بكلاكفتي، حتى لا يمزق قلبها الصغير صوت النحيب على من قتل غدرًا بيد شقيقه.. ابن”عروبته ودمه”!


عدت إلى البيت مسرعا، وتسللت إلى حجرتيحتى لا تراني أمي؛ فأضطر لتقبيلها بفتور، وتسحب من فمي ما يثقلني من أوجاع علقت فيجسدي، بعد تجولي في وطن المآسي؛ فتنهار.


قررت النوم، حتى لا أشعر بألم الفراق،وطعنات الغياب، وخيبة الغدر، ومرارة الفشل في منع سهم حزن من اختراق قلب طفلة؛ فإنقلوب الأطفال يصعب مسح أوجاع نقشت على جدرانها!

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات